في الذكرى الـ51 لانطلاق عملياتها العسكرية: «فتح» من أين وإلى أين؟!
نحن أمام حركة تحرر وطني، طال أمد طفولتها ومراهقتها، ودخلت – مباشرة – إلى شيخوخة مبكِّرة، ومع ذلك فلا تزال حيَّة تسعى.
تمر اليوم (1 / 1 / 2016) الذكرى الحادية والخمسين للعملية الفدائية الأولى، التي نفَّذها فدائيو «العاصفة»، الذراع العسكري لحركة فتح، ضد الكيان الصهيوني، وخلال كل تلك العقود مرَّت «فتح» بمنعطفات وانحناءات، حتى أسلمت «فتح» القضية الفلسطينية إلى اتفاق أوسلو سيء الصيت (13 / 9 / 1993). ومن يومها والقضية الفلسطينية تتدهور، في سرعة رهيبة، ما استحدث سؤالًا له ما يبرره، مؤداه: ما الذي نقل «فتح» من الكفاح المسلح الذي هو الأسلوب الوحيد لتحرير فلسطين، إلى إسقاط تحرير فلسطين من حساب تلك الحركة، ومعه الكفاح المسلح؟
وأصدر كبير مفاوضي الحكم الإداري الذاتي المحدود، صائب عريقات، كتابه، قبل نحو خمس سنوات: «الحياة مفاوضات». وفي هذا يكمن سر الانهيار، بعد أن كان كبيرهم، ياسر عرفات، أدان، في جنيف (نوفمبر 1988) «الكفاح المسلح» باعتباره إرهابًا! كثمن فادح حتى يسمح الأمريكان بمحاورته!
في شروط التفاوض
إن ثمة أوليات في أمر المفاوضات بين عدويْن، لعل في مقدمتها، أن أي مفاوضات إنما تعكس نتائجها موازين القوى في ميدان القتال. فأين العرب -وبضمنهم الشعب الفلسطيني- في تلك الموازين، المختلَّة تمامًا لصالح الأعداء الإسرائيليين؟! ما يعني أن الوفد الفلسطيني المفاوض سيكون مجرد جسر، يعبر عليه العدو الإسرائيلي إلى أرض أعدائهم الفلسطينيين!
ثاني تلك الأوليات، تجلت في الحوار الذي دار بين ملوك أوروبا والسياسي النمساوي الداهية مترنيخ حين عاتبوه لأنه لم يُخلِّص من نابليون بونابرت أرضًا أكثر، بعد هزيمته في معركة وترلو (1815)، فردّ مترنيخ، معترضًا من فوره: «أنت لا تستطيع أن تأخذ من الأرض إلى أبعد مما تذهب إليه دانة مدفعك». فأين تصوِّب الجيوش العربية فوهات مدافعها حتى نُقدِّر مساحة الأرض التي يمكننا انتزاعها من أعدائنا الصهاينة؟!
أما الزعيم الفرنسي المعاصر المعروف، الجنرال شارل ديجول، فغطّي الأولية الثالثة بقوله: «من لا يملك مفتاح الحرب، لا يملك مفتاح السلام». بينما أنظمتنا العربية -بما فيها سلطة الحكم الإداري الذاتي الفلسطينية- استمرأت التذكير بأن إستراتيجيتها هي «السلام»، والصحيح أنها «الاستسلام لإرادة العدو».
ناهيك عن أن عدونا الصهيوني لا يميل البتة للتسوية، بل لتصفية شعبنا الفلسطيني وقضيته الوطنية!
عليه، ليس أمام مفاوض “فتح” مع العدو الإسرائيلي إلا أن يسلك طريق التسول والتوسُّل، وهي طريق لا تُفضي إلا إلى إرغام ذاك المفاوض على تقديمه التنازلات المجانية، تلو التنازلات.
لقد تأكد، منذ نحو ربع قرن مفاوضات مع عدونا الصهيوني، مدى عقم تلك المفاوضات، وإلحاقها بالغ الضرر بالقضية الفلسطينية، وتوفيرها المزيد من المزايا للعدو الصهيوني:
فهي،أولًا، تُظهر ذاك العدو أمام الرأي العام العالمي في صورة الساعي الصادق للسلام، خاصة وأن مفاوض الحكم الذاتي يقابل المفاوض الصهيوني بالأحضان، بينما كاميرات الفضائيات وبقية وسائل الإعلام تلتقط الصور التذكارية.
وثانيًا توفِّر تلك المفاوضات لعدونا الصهيوني ستارًا سميكًا، يستر ما يسرقه من أراضٍ، وما يبنيه من مستوطنات، وما يقتله من أبنائنا، وما يعتقله منهم، وما يدمِّره من منازل، ومزارع للعرب الفلسطينيين.
مع ذلك، فإن كل ما فعله رئيس سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود، محمود عباس أبو مازن، أن صرح -قبل بضعة أسابيع- بأنه لن يستمر ملتزمًا بالاتفاقات إذا لم يلتزم بها الصهاينة! وكأن اثنتيْن وعشرين سنة من المرواغة الصهيونية لم تكفِ لإقناع عباس بانسداد الطريق أمام أي تسوية مع عدو اقتحم الصراع معنا بمعادلة صفرية؛ إما نحن وإما هو، وبالتالي لا مجال لإقناعه بالتسوية إلا بعد أن تحيق به هزيمة نكراء!
لكن ما الذي أوصل قيادة «فتح» إلى سلوك طريق التسوية المستحيلة، بعد أن كانت تُدين التسوية في مقالات وكتب وأناشيد؟!
في تفسير الانعطافة الحادة
لا شك أن ملابسات تأسيس «فتح» تُعطي بعض الإجابة على ذاك السؤال؛ إذ معروف أن خليل الوزير، مسؤول شباب «الإخوان» في قطاع غزة، تقدم بمذكرته الشهيرة إلى قيادة «الإخوان» في القطاع (يوليو/تموز 1957)، يطلب إزاحة لافته «الإخوان»، على أن تحل محلها لافتة وطنية، حتى تستطيع الجماعة أن تتجنب ملاحقة أجهزة الأمن وهجمات الإعلام المصري. لكن قيادة الجماعة في القطاع أهملت المذكرة واستصغرت شأنها! لكنها لم تلاحظ أن ثمة من انضم إلى الجماعة من الفلسطينيين مشدودًا بالدور الجسور الذي أداه مقاتلوها في حرب فلسطين (1948)؛ أي أنهم دلفوا إلى «الإخوان» من الباب الوطني، وقد هالهم انغماس الجماعة في أمر الثأر من الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، على ضرب الإخوان في مصر، خريف 1954، بعد اتهامه لهم بمحاولة اغتياله، وجاء ذاك الانغماس على حساب القضية الفلسطينية. لذا لم يكن الوزير وحده في تلك المحاولة، إذ شاركه كمال عدوان، وصلاح خلف، ومحمد يوسف النجار، وآخرون، ثم كرَّت المسبحة.
إلى ذلك، اقتنع هؤلاء بإمكانية هزّ الكيان الصهيوني بعمليات فدائية، كتلك التي شنَّتها «الكتيبة 141 فدائيون» التي شكلها عبد الناصر، ربيع 1955، وألحقت بالكيان الصهيوني خسائر بشرية فادحة خلال بضع أسابيع، وصلت إلى نحو 1400 صهيونيًا؛ فيما كان تحالف شيوعي-إخواني يتيم في قطاع غزة، نجح في قبر «مشروع سيناء» لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة ومصر، في منطقة شمال غربي سيناء؛ وذلك في انتفاضة شعبية عارمة، غطت القطاع من أقصاه إلى أقصاه على مدى الأيام الثلاثة الأولى بلياليها من آذار/مارس 1955، لم ينم فيها عبد الناصر بسبب الهتافات المندِّدة بتقصيره في الدفاع عن قطاع غزة أمام هجمات القوات الصهيوينة المتكررة على القطاع، والرامية إلى إجبار اللاجئين على القبول بمشروع سيناء. ولم تتوقف تلك الانتفاضة إلا بعد أن وافق عبد الناصر -عبر حاكم غزة الإداري، آنذاك ، البكباشي (المقدم) سعد حمزة- على المطالب الثلاثة للانتفاضة، وهي: إلغاء مشروع سيناء، وتحصين القطاع وتسليحه وتدريب أهله، وإشاعة الحريات الديموقراطية فيه.
لم يفِ عبد الناصر بوعده فحسب، بل أضاف إلى تنفيذه المطلبيْن الأول والثاني تشكيله «الكتيبة 141 فدائيون» سابقة الذكر، ثم كان عقده «صفقة الأسلحة التشيكية»، خريف العام نفسه، وتبعها بأخرى، ما ذهب بعقل الإدارة الأمريكية، التي حاولت استرضاء الرئيس المصري فعرضت -وتبعتها الحكومة البريطانية والبنك الدولي- تمويل مشروع «السد العالي» في مصر، الذي كان عبد الناصر يعوِّل عليه كثيرًا في أمر تنمية مصر، وتحديثها. وكان عبد الناصر استعصى على محاولات احتوائه الأمريكية، فاعترف بالصين الشعبية، الأمر الذي كانت الإدارة الأمريكية تؤثِّمه، فسحبت عرضها لتمويل السد، وعلى منوالها انسجت كل من لندن والبنك الدولي، وردَّ عبد الناصر بتأميم قناة (26 / 7 / 1956)، فجاء رد قوى الاستعمار بعد ثلاثة أشهر وثلاثة أيام بـ «العدوان الثلاثي» الذي أخفق في تحقيق الأهداف التي توخاها من عدوانه ذاك. ثم كانت الوحدة المصرية-السورية (22 / 2 / 1958)، وأطاحت ثورة وطنية ديمقراطية بالنظام الملكي في العراق (14 / 7 / 1958). وبذا عاش الوطن العربي نهوضًا عارمًا منذ أواسط 1955 وحتى مشارف 1959؛ حيث انحسر نسبيًا بعد ذلك، بفعل استفحال الخلاف بين بغداد والقاهرة حول الوحدة؛ إذ عرضت الأخيرة دخول العراق دولة الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة)، في وحدة اندماجية فورية، فردت بغداد بمشروع اتحاد فيدرالي أغضب عبد الناصر ومعه التيار القومي بشتى أطيافه، وانفرط عقد التحالف القومي-اليساري الذي حمل ذاك النهوض على اكتفاه.
جاء مؤسسو «فتح» من خريجي الجامعات بثقافة تقليدية متواضعة، وعبَّروا عن الفئات المتوسطة الفلسطينية التي نمت في الكويت أكثر من غيرها من الأقطار العربية، وامتلكت نفوذًا أساسيًا، فطفقت تفتش عن نفوذ سياسي مواز له، فيما كانت قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية شاغرة تنتظر من يملأها.
لقد وظف مؤسسو «فتح» النهوض إياه في حثّ خطاهم التحضيرية، فأعدّوا وثائقهم التنظيمية الضرورية، وأصدروا مجلتهم الشهرية (فلسطيننا) ما بين العاميْن 1959-1964. ولكن قوة النهوض حالت دون ممارسة «فتح» نشاطها الفدائي. فانتظرت إلى أن انحسر النهوض، واستبدت الخلافات بأطراف النظام السياسي العربي ما بين 1961-1963، ثم كانت «القمة العربية الأولى» (القاهرة، 13 / 1 / 1964)، التي أوكلت إلى مندوب فلسطين في الجامعة العربية، آنذاك، أحمد الشقيري، أمر استطلاع آراء مختلف التجمعات الفلسطينية في دول اللجوء، في الصورة التي ترتئيها تلك التجمعات للكيان الفلسطيني، المزمع إحياؤه. لكن الشقيري وضع «القمة العربية الثانية» (الإسكندرية، 5 / 9 / 1964) أمام الأمر المقضي؛ إذ نجح الشقيري -مستقويًا بمهاراته الدبلوماسية، وبدعم عبد الناصر- في عقد «المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول» (القدس 28 / 5 – 2 / 6 / 1964)، الذي تمخَّض عنه «منظمة التحرير الفلسطينية»، بكافة وثائقها ومؤسساتها.
التقطت «فتح» رسالة النظام العربي الذي أراد احتواء توق الشعب الفلسطيني لأخذ قضيته الوطنية بين يديه بتأسيس تلك «المنظمة»، ووضعها تحت سيطرة ذاك النظام، وقطع الطريق على المنظمات الفدائية الفلسطينية، خشية أن تُقحم الأنظمة العربية في حرب تخشاها مع إسرائيل. فاتصلت قيادة «فتح» بالشقيري، لكنها أخفقت في إقناعه بجعل «فتح» ذراعًا فدائيًا سريًا للمنظمة.
اجتمعت قيادة «فتح»، وانقسمت إلى مجموعتيْن، طالبت أولاها بالتروي إلى أن تُستكمل التحضيرات للانطلاقة، فيما أصر «المجانين» على سرعة تنفيذ العملية الفدائية الأولى، «قبل أن يفوتنا القطار، أو يدوسنا»! وكانت أول عملية فدائية، تلك التي أُعلن عنها في 1 / 1 / 1965، الذي غدا عيد ميلاد «فتح». لذا كلما عاتب أحدنا أحدهم على ما تقترفه قيادة «فتح» اليوم، رد الأخير: «نحن مَنْ أطلق الرصاصة الأولى»! كأن هذه المبادرة تصلح لتبرير ما يُقترف اليوم في حق الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية؛ فيما تزيد تلك الرصاصة الأولى من مسؤولية وإدانة من يقترف مظاهر مهاودة الأعداء، اليوم، على حساب قضيتنا الوطنية.
وبعد، فلعل السبب في التحول كان استعصاء التحرير إلى ما يربو على نصف القرن، وترهُّل من سبق أن غضبوا من الأنظمة العربية، واسترخائهم، واستغراقهم في مظاهر الاستهلاك الترفي السفيه، بعد أن عمل الحراك الاجتماعي داخل «فتح» عمله، فاغتنى من اغتنى، وأصبح لديه ما يحرص عليه، ويخشى من ضياعه. ولعل هاني الحسن، عضو اللجنة المركزية في «فتح» منذ العام 1980، قد أغنانا عن التدليل على غرق قيادة «فتح» في أمر التسوية مع العدو الصهيوني، حين أكد في محاضرة له بلندن، العام 1990، بأن التيار المتنفِّذ في «فتح» صمَّم على التسوية منذ العام 1968، وهو العام الذي تصدى فيه مقاتلو «فتح» مع الجيش الأردني، بجسارة، للقوات الصهيونية، في «معركة الكرامة» (21 / 3 / 1968)، ثم ما كان من انتقال «منظمة التحرير»، برمتها، إلى يد «فتح»، صيف العام نفسه. بعد أن كان ثلاثة من قيادة «فتح» طالبوا، بعد أيام من هزيمة 1967 العربية المدوِّية، بإقامة سلطة تحت حراب الاحتلال الصهيوني في الضفة الغربية، على ما أكده محمود عباس في شهادة له للباحث الفلسطيني المرموق: يزيد صايغ!
لكن «فتح» لم تخلُ من الوطنيين، وإن عابهم تبعثرهم، وافتقادهم الرأس القادر على توحيدهم وقيادتهم، بما يمكِّنهم من تجاوز سلبية العمق الاستراتيجي الرسمي العربي، وشلَّ العائق الصهيوني الكؤود، بما يرد الاعتبار لفتح. والأيام بيننا!