شكرًا ترامب
قدر القضية الفلسطينية والقدس هو أنه كلما قل الكلام عنهما وفترت الحماسة وبدأ الناس يتأقلمون على الوضع الراهن، حدث شيء يفجر الأمور ثانية. لهذا يجب أن نشكر ترامب بشدة.. لقد أوشك الناس على نسيان فلسطين وسط مشاكلهم اليومية، وتفرغ كل قطر عربي لمشاكل نظامه وحكامه واقتصاده وصحته وتعليمه إن وجدوا، وفجأة يهبط قرار ترامب كالصاعقة، فيفيق الجميع من جديد. الصفعات مفيدة أحيانًا، وسل عن هذا أي طبيب تخدير.
قبل هذا فجّر شارون انتفاضة عندما أصر على دخول المسجد الأقصى مدعيًا أنه يحمل رسالة سلام، وهكذا.. وفي كل مرة تعود جذوة الغضب المقدس تشتعل بعد ما كادت تموت. هناك أجيال لا تعرف حرفًا عن القضية الفلسطينية ولا تعرف عن إسرائيل سوى سائحات شرم الشيخ الحسناوات. هذه الأجيال تفتش اليوم عن القضية وتعرف أن لأبيها ثأرًا فادحًا لم يأخذه أحد.
القدس تضيع.. القدس تضيع.. صحيح أنها ضاعت منذ عام 1967 ولربما منذ عام 1948، لكنها ظلت الجوهرة المسروقة التي استلبت منا، أما اليوم فهو بدايات تحويلها إلى حق مشروع لسارقها. كما يقول هيكل عن اتفاقية أوسلو إن الطرف الضعيف الذي يؤخذ منه كل شيء يظل يملك الحق الشرعي. ولهذا يظل قويًا قادرًا، فإذا تنازل عن حقه فهي لحظة السرقة الحقيقية فعلاً. كان كل شيء في العالم العربي ينبئ باقتراب اللحظة والارتماء في حضن اسرائيل أهم دولة في المنطقة، وكثر الكلام عن صفقة القرن وعن أن القدس وهم صدقناه.. إلخ.. كانت كلمات مدوخة منومة تستلبك إرادتك لا شعوريًا، وهنا يتحرك الأحمق ترامب ليضع الجميع أمام مسئولياتهم. يستخدم الصفع بدلاً من التنويم المغناطيسي.
بالطبع انطلقت وسائل الإعلام في سباق المزايدات والغضب المفتعل، مع أن المشاهد والقارئ يعرفان أن ما يحدث هو نتيجة طبيعية لإعلام أحمق فاسد. لكن الأوامر الصادرة للإعلام هي أن يغضب بقوة.. يغضب بعنف.. يرسم العلم الإسرائيلي ثم يمزقه وينقعه في الماء.. يشتم ترامب بشدة، وفي الغرف المغلقة يعرف الجميع أنهم يعرفون بقرار ترامب منذ زمن. إن هي إلا فترة غضب أو تظاهر بالغضب، ثم تنقشع السحب وتعود العلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل لدفئها القديم، ونعود للاحتشاد ضد عدونا الأزلي المخيف: قطر. بعد سنين تكثر السفارات في القدس.. وإذا بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل شاء من شاء وأبى من أبى.
هذا عن ضياع القدس، فماذا عن هدم الأقصى؟ أنت تعرف أن السبب الوحيد الذي يوقف هذا السيناريو هو شعيرات بيضاء في ذيل بقرة الأضحية.
منذ أعوام تنبأ كاتب اسمه مجاهد شرارة بسيناريو تفجير المسجد الأقصى، وهو يدل على فهم ممتاز للشخصية العربية:
- عبر رئيس الوزراء الإسرائيلي عن أسفه لعملية التفجير ووصفها بعملية سيئة وألمح أن من قام بهذه الفعلة بكل تأكيد مجنون وبالطبع ليس على المجنون حرج.
- أدان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون (وقتها) عملية التفجير في مؤتمر صحفي أقامه بالمقر العام للأمم المتحدة بنيويورك ووصف عملية التفجير بالعمل غير المسئول، وطالب الفلسطينيين بضبط النفس، أما عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية (وقتها) فقد أعرب عن أسفه لما آلت إليه الأحداث ووصولها للذروة بتفجير المسجد الأقصى وطالب بقمة عربية طارئة لمناقشة المستجدات والوصول لموقف عربي موحد أمام هذه الغطرسة الإسرائيلية…
- عبر رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن عن سخطه…
- أطلقت كتائب عز الدين القسام وكتائب الأقصى وحركة الجهاد الفلسطيني مئات القذائف باتجاه المستوطنات اليهودية…
سيناريو آخر رسمه موقع الجزيرة وقتها:
ثم لا شيء.. سوف ينقشع الغبار وينصرف الناس لطوابير الخبز وأنابيب البوتاجاز، ومتابعة مباريات كأس العالم.
لا جدوى من جلد الذات، فليس كل الخطأ خطأنا وليس الذنب ذنبنا طيلة الوقت؛ فنحن عاجزون كشعوب عن الفعل ولا نملك سوى الإرادة. فقط لنتذكر أن الشعب العربي الوحيد الحر الذي لم تحتله إسرائيل قط هو شعب فلسطين. لا أتوقع أن تحل المشكلة في هذا الجيل.. علينا فقط ألا نتركها تذبل.. فلنبق جذوة النار مشتعلة تحت الرماد للأبد، كما كانت كاهنات دلفي مسئولات عن بقاء النار مشتعلة في المعبد وإلا أحرقن بنار جديدة. لنرب أولادنا جيدًا ونخبرهم عن فلسطين أرض الليمون والبرتقال والسلام، ونخبرهم عن عبق القدس وعن مذبحة دير ياسين وكفر قاسم وبحر البقر.. ولنعلمهم أن الطريقة الوحيدة لهزيمة إسرائيل هي الحضارة والعلم والديمقراطية.
شكرًا يا ترامب، فقد كنا سنتكلم عن أشياء أخرى. لكنك أعدتنا للموضوع الأصلي.