شكرًا يا دكتور
أم صالح تجلس هناك على ناصية الشارع بالساعات، يلهو ابنها الصغير ذو الأربعة الأعوام من حولها، بينما تتسول هي من المارة طيلة الوقت. فقيرة جدًا بالطبع، ولا أعتقد أنها من أولئك المتسولين الذين يتبين أنهم يملكون قصرًا في الجولف وطائرة خاصة وأسهمًا في شركة مايكروسوفت. أضع في يدها بعض المال فتدعو لي.
ما يضايقني هو أنها تجر ابنها من يده وتهتف به: «قول للدكتور شكرًا يا دكتور!»
فيشكرني الطفل بلهجته الطفولية المضحكة، وهو يجتهد ويظهر حماسته كعادة الأطفال في إرضاء الكبار. لكن هذا لا يكفي فتصيح به: «قول للدكتور ربنا يخليك ويخلي ولادك يا دكتور».
«لبنّا يهلّيك ويهلّي ولادك يا دكتور».
تكرر له الكلام بحماس أكثر، فيكرره بحماس أكثر وأكثر.
ابتعد مسرعًا وقد جرح المشهد شيئًا في روحي. هذا الطفل جاء الدنيا ليتعلم في المدرسة ويرسم أرانب صغيرة وقططًا بالألوان، أما أن تكون مهنته هنا على الإفريز يدعو لأمثالي فشيء لا أطيقه. كان الأمر أسوأ عندما كان ابني طفلاً نظيفًا أنيقًا فكنت أنال حشدًا من الدعوات من أجل (البيه الصغير)… إن هذه المرأة تبذر دون قصد في ابنها بذور النفاق مع ضعة النفس التي يُولّدها الفقر للأسف في أغلب النفوس. لو كان الفقر رجلاً لقتلته ولو كان النفاق رجلاً لأحرقته… لكني أعتقد أنهما صنوان بشكل أو بآخر. الفقر المدقع يجعلك لصًا أو منافقًا.
تذكرت هذا المشهد القاسي وأنا أرى معلم مدرسة الصلعا الابتدائية الذي يقف في طابور الصباح، فتأخذه جلالة النفاق ويهتف بحماسة لمدير الإدارة التعليمية في سوهاج، ووكيل وزارة التربية والتعليم والمحافظ، بدلاً من أن يهتف لجمهورية مصر العربية وعلمها. بالطبع كان يرغم التلاميذ على الترديد وراءه بحماسة، حتى خيل لي للحظة أنهم سيهتفون: ربنا يخليك يا دكتور.
السبب طبعًا أن السيد مدير الإدارة التعليمية كان في الطابور، وكانت هذه مناسبة لتوصيل المرافق للمدرسة. من سوء حظ المعلم أن الفيديو أثار غضب مواقع التواصل ونُشر على الفضائيات، فقام محافظ سوهاج بإحالته للتحقيق.
منذ أشهر قالت تلميذة في المرحلة الإعدادية لمحافظ بورسعيد:
«لو ينفع أسجد لبشر كنت سجدت للمحافظ عادل الغضبان محافظ بورسعيد».
وقد كافأها المحافظ بزكيبة دنانير… أعني أنه نقلها لمدرسة المتفوقين.
كان العاملون في التربية والتعليم يثيرون دهشتي دومًا بقدرتهم المذهلة على النفاق، وعبادة الرؤساء. كنت أرى وكيل المدرسة يخطب في الميكروفون وعينه اليسرى تدور وحدها لترى تأثير هذا الكلام على الناظر. إنه يخاطب شخصًا واحدًا ولا يريد سوى رضاه، وبالطبع يُقدِّس الناظر وكيل الوزارة ورئيس الإدارة والمحافظ والسيد الوزير. مع الوقت تنتقل هذه العدوى إلى جيل كامل من التلاميذ يصيرون بالضبط كما تريدهم الدولة.
منذ فترة رأينا حفل نفاق كبيرًا أقامه المسئولون التربيون في محافظة الجيزة، عندما أحرقوا بعض الكتب التي وجدوها في مكتبة المدرسة، وفعلوا ذلك في حفل أمام التلاميذ وهم يلوحون بالأعلام في حماسة وطنية كأنهم يحررون القدس.
الكتب لم تكن متطرفة، لكن اللجنة رأت ذلك، ورأت أنها فرصة ممتازة لنفاق الحكومة والتيار الاستبعادي المخيم على الدولة… كتب لجمال الدين الأفغاني – حسبوه أفغانيًا من تنظيم القاعدة – وعلي عبد الرازق وكرستوفر هارولد وسمير رجب !! … واضح أنهم لم يفتحوا كتابًا واحدًا.
قلت وقتها في مقال لي:
كانت هناك قبل أعوام حادثة مُستفزِة تتعلق بقيام إحدى دور الأيتام بإيقاف فتيات صغيرات لم يتجاوزن التاسعة. أوقفهن بثياب خفيفة شفافة شبه عارية في صقيع ليل الشتاء للهتاف لمصر والسيد الرئيس والسيد رئيس الوزراء والسيد مدير الأمن والسيد مدير الإدارة. سأل مذيع في قناة فضائية مدير الدار عن هذا التصرف المعيب فصرخ: «أنا روحي فداء لمصر».
كان الرد المنطقي هو: روحك فداء مصر… فلتفعل بها ما تشاء، لكن لم تتبرع الفتيات بأرواحهن ورئاتهن من أجل مصر وهذا حقهن.
هذه الوزارة لا تكف عن تعليم النفاق للتلاميذ، وهذا هو الشطر الأول من قصة أم صالح التي تجلس على قارعة الطريق.
الشطر الثاني يتعلق بوضع المدرس نفسه الذي لا ينال التقدير المادي ولا المعنوي، ويضعونه بالضبط في حالة العوز التي تدفعه للنفاق المخجل أو اعتصار الطلبة في دروس خصوصية. قرأت تصريحًا لوزير التربية والتعليم طارق شوقي – أرجو أن يكون مكذوبًا – يصف المدرسين بأن معظمهم لصوص، ولا تهمهم سوى الرواتب برغم انعدام كفاءتهم.
هكذا يكون الراعي عدو الغنم… وزير المعلمين يرى أن معظمهم لصوص، والمناخ العام يرحب جدًا بالمنافق والمداهن. هذه الكلمات تُقال عن أسمى مهنة في الوجود. ردح طويل قد مر على معلم شوقي بك الذي كاد يكون رسولاً.
لن تتحرك مصر إلا بالتعليم. والتعليم يقتضي خلق المدرس واسع العلم المستقر ماديًا ذي الكبرياء. المدرس الذي لا يتصرف مثل أم صالح ويهتف – ويرغم طلبته على الهتاف – من أجل السيد وكيل الوزارة لمجرد أن المرافق دخلت المدرسة، ويعلم تلاميذه النفاق من أول يوم. المدرس الذي لا يفخر بحرق الكتب الثقافية، ولا يقول رئيسه إنه لص. إن الأوطان تضيع فعلاً بسبب انهيار التعليم وليس العكس.