تايلاند «إلى الأمام»: كفاح لا ينتهي في سبيل الديمقراطية
قبل أسبوعين، انعقدت الانتخابات البرلمانية في تايلاند للمرة الثانية منذ انقلاب 2014 الذي أنهى الديمقراطية المحدودة في تايلاند، البلد الآسيوي واحد من أنظمة الملكية الدستورية القليلة الباقية في العالم، لكن ديمقراطيته الدستورية ظلت منذ الثورة الإصلاحية عام 1932 عرضة للعسف المتكرر من قبل المؤسسة العسكرية في تحالفها مع القوى التقليدية في المجتمع التايلاندي، وأحيانًا مع المؤسسة الملكية.
في هذه الانتخابات، نجح حزب المعارضة الأكثر جذرية، «إلى الأمام» بزعامة بيتا ليمجارونرات، في الحصول على المركز الأول بحصوله على 151 مقعدًا من أصل 500، تلاه حزب «فيو تاي» المعارض أيضًا بزعامة بايتونغتارن شيناواترا بحصوله على 141 مقعدًا، بينما حصل «حزب الأمة التايلاندية المتحدة» بزعامة رئيس الوزراء الحالي، الجنرال برايوت تشان أوتشا، على 36 نائبًا فقط.
تدنت شعبية الحكومة التي تحكم منذ الانقلاب العسكري عام 2014، على خلفية تراجع الوضع الاقتصادي وتشديد القمع، وحظيت الانتخابات بإقبال كبير على التصويت تجاوز 75%.
يمثل حزب «إلى الأمام» مطالب الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت عام 2020، وطالبت بالتغيير الديمقراطي وتقليص نفوذ المؤسسة الملكية وإلغاء التجنيد الإجباري، وأعلن بيتا ليمجارونرات (42 عامًا) تطلعه لمنصب رئيس الوزراء، وتحالف مع بايتونغتارن شيناواترا (36 عامًا) لتشكيل ائتلاف يتيح لهما تشكيل الحكومة وإخراج الجيش من السلطة، وبعد انضمام حزبين صغيرين مؤخرًا إلى الائتلاف بات يضم 313 نائبًا.
لكن الهدف هو الحصول على تأييد 63 نائبًا آخرين لتجاوز الحاجة إلى موافقة مجلس الشيوخ، لأن مجرد الحصول على الأغلبية البرلمانية المطلقة في تايلاند لا يكفي لتشكيل الحكومة بسبب الحاجة إلى موافقة أعضاء مجلس الشيوخ وهم 250 نائبًا يعينهم الجيش الملكي وفقًا لتعديلات دستورية أجراها الجيش عام 2016 أي بعد عامين من انقلابه على ديمقراطية محدودة كان حزب فيو تاي المعارض يتزعم خلالها الحكومة، لكن يمكن تجاوز هذه الخطوة إن حازت المعارضة على تأييد 376 نائبًا.
وقد يستمر حكم الجنرال برايوت تشان أوتشا، البالغ من العمر 69 عامًا، الذي وصل إلى السلطة بعد انقلاب عام 2014، رغم هزيمته في الانتخابات بسبب تلك القيود الدستورية.
أسرة شيناواترا: زعماء المعارضة
شهدت تايلاند عشرات الانقلابات منذ نهاية النظام الملكي المطلق عام 1932، لكن يعد ظهور تاكسين شيناواترا في مطلع الألفية علامة فارقة في الحياة السياسية التايلاندية؛ إذ أسفر اتباعه لسياسات إعادة التوزيع ودعم الفقراء عن تشكيل رأي عام داعم له في المناطق الريفية في شمال وشمال شرق البلاد التي استفاد سكانها من هذه السياسات.
وشغل تاكسين شيناواترا منصب رئيس الوزراء من عام 2001 إلى عام 2006 عندما أطاح الجيش بحكومته، وفر إلى دبي عام 2008 لتفادي حكم سجنه بتهمة الفساد.
وتولت شقيقته ينغلوك شيناواترا رئاسة الوزراء من عام 2011 إلى عام 2014 حين تم الانقلاب عليها وقررت المحكمة الدستورية إقالتها بتهمة سوء استخدام السلطة، وتم منعها من ممارسة النشاط السياسي لخمس سنوات، وصدرت مذكرة اعتقال بحقها في قضية تصل عقوبتها للحبس عشر سنوات، ففرت عام 2017 إلى دبي عبر سنغافورة، وحوكمت وأدينت غيابيًا.
اليوم، تعود بايتونغتارن ابنة تاكسين شيناواترا على رأس حزب «فيو تاي» مستفيدة من شعبية والدها، فقد منح الانقلاب الذي أطاح به في 2006 جاذبية لاسم هذه الأسرة بين الطبقات الفقيرة وتعاطفًا كبيرًا لا يزال مستمرًا حتى اليوم.
وانقسم الشارع التايلاندي بين الموالين للملكية، الذين عُرفوا بـ«القمصان الصفر»، والموالين لتاكسين شيناواترا الذين نظموا احتجاجات شعبية عارمة وارتدوا القمصان الحمراء وسكبوا مئات الليترات من دمائهم كنوع من الاحتجاج على استمرار حكومة الانقلاب، ووقع قتلى وجرحى في تلك الاحتجاجات التي بلغت أوجها في 2009 و2010.
ولما تولت ينغلوك شيناواترا رئاسة الحكومة عام 2011 سارت على نهج أخيها وانحازت للطبقة الدنيا؛ فكانت حكومتها تشتري الأرز من الفلاحين بأسعار أعلى من السوق لتعزيز مدخول أبناء الريف، لكن ما إن اقترحت قانونًا يمنح عفوًا للذين أدينوا في أعمال العنف السياسي حتى أشعل خصومها الاحتجاجات ضدها عام 2013 وعادت القمصان الحمر لمساندتها ونظموا فعاليات شعبية تحت شعار «حماية الديمقراطية ومنع الانقلاب» لإحداث توازن في الشارع ضد الحشد المؤيد للجيش، وحذروا من وقوع حرب أهلية، لكن ذلك لم يفلح في منع الإطاحة بها عام 2014.
وفي انتخابات 2019، اختارت عائلة شيناواترا الأميرة أوبول راتانا، شقيقة الملك، كمرشحة لمنصب رئيس الوزراء، وهي خطوة تم رفضها بقوة من جانب المؤسسة الملكية والمحكمة الدستورية بحجة أنها تؤدي لتقويض النظام السياسي التايلاندي، وحينها فاز حزب فيو تاي بأكثر من 77% من الأصوات في منطقة الشمال الأعلى، وجاءت جميع مقاعده تقريبًا البالغ عددها 136 من الشمال والشمال الشرقي، لكن الحكومة ظلت تحت هيمنة العسكريين لأنهم فازوا بالمركز الأول في تلك الانتخابات، وأعقب ذلك اشتعال احتجاجات غاضبة للمطالبة بالديمقراطية.
وتتمتع مناطق الشمال والشمال الشرقي -المؤيدة لشيناواترا- بحكم ذاتي حتى عام 1939 ولا تزال تتمسك بلسانها وثقافتها المتمايزة عن بقية مناطق البلاد.
النظام الملكي
ظل وضع المؤسسة الملكية محصنًا ومحترمًا على الرغم من توالي الانقلابات العسكرية منذ ثلاثينيات القرن الماضي؛ فطوال تلك العقود تحرك الجيش والقضاء ضد الحكومات المختلفة دون مساس بمسألة بقاء الأسرة المالكة التي تعد جزءًا من هوية الدولة ذات الأغلبية البوذية.
ويريد حزب «إلى الأمام» إصلاح هذا الأمر على الرغم من أنف النخب التقليدية المدعومة من العسكريين، لأنه يرى أن قانون مكافحة إهانة الذات الملكية يستخدم لقمع المعارضين، إذ تصل العقوبة للمتهمين بإهانة الأسرة المالكة إلى 15 عامًا من السجن.
وهذه نقطة تميز حزب إلى الأمام عن فيو تاي، إذ تحول جزء من جمهور الأخير إلى الحزب المعارض الأكثر جرأة بينما ظل فيو تاي حذرًا في تلك المسألة الشائكة، ويتطلع الكثيرون إلى تغيير مؤسسي جذري ينهي عهد الديمقراطية الشكلية وصولًا إلى تحول ديمقراطي حقيقي، لذا استطاع حزب «إلى الأمام» تصدر الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالديمقراطية عام 2020 التي تعرضت للقمع.
ولا يُتوقع أن يسمح أعضاء مجلس الشيوخ بوصول حزب «إلى الأمام» إلى السلطة إن أصر على نزع قداسة الأسرة المالكة، وهو المطلب الأساسي الذي انتخب على أساسه، لذا من المرجح أن تشهد البلاد احتجاجات جديدة إذا لم يعكس انتخاب رئيس الحكومة إرادة الشعب.