كرويف: ابن البقال المتمرد، مسيرة حلم
حينما أصبحت الكرة كلمة، المولود في ضواحي بيتوندروب في العاصمة أمستردام يتذكر فقدانه لوالده ووالدته وذهابه لأقاربه الذين كانوا يبيعون الفاكهة والخضروات، يجلس على أريكته متابعًا أصداء تصريحاته الأخيرة تجاه سياسات روسيل في إدارة برشلونة، وتصريحات زميله السابق في أياكس ماركو فان باستن النارية ضده تجاه عمله داخل الاتحاد الهولندي، عاش لحظات من الغضب والحماقة وأسيء فهمه، كما استمتع أيضًا بالنجاحات والتقدير الهائل من أمستردام وحتى كاتالونيا، يضع يوهان ما بين هذا وذاك وصيته بأن يدفن في كاتالونيا التي شهدت أكثر لحظات حياته درامية، كان يعشق التخريب واخترع لكرة القدم ما لم يخترعه أحد.
في 24 مارس من عام 2016 يخسر المعركة مع السرطان ويودع كرويف ذلك العالم لتغلق تلك الصفحات، حينما تحدث الجميع عن عظمة كرويف وما أحدثه من تأثير هائل على كرة القدم الهولندية كلاعب وعلى نادي برشلونة ومجتمع كاتالونيا كله بأفكاره عن كرة القدم الشاملة، سقطت بضع ورقات من ملف حياة جوهان الذي كان ثوريًا دائمًا منذ أن أعلن معارضته الحكم الديكتاتوري العسكري
كرويف لم يكن اللاعب الأفضل في تاريخ هولندا فقط بل الرياضي الأهم في كرة القدم العالمية، فهو يتفوق عن بيليه ومارادونا في أنه كان مدربًا عظيمًا؛ ولكنه كذلك مشاكس. عندما أقيل كرويف من تدريب برشلونة في عام 1996 ذهب نائب الرئيس جوان جاسبارت لإبلاغه بالقرار في غرفة خلع الملابس ليثور غضبه ويتبادل اللكمات معه، في عمر الـ19 تلقى بطاقة حمراء في مباراة هولندا وتشيكوسلوفاكيا فتعدى بالضرب على حكم المباراة. إذن، لم يكن كرويف -مثله مثل أي بشري- معافى من الحماقات. لكن عندما يتعلق الأمر باللعبة، بكرة القدم، اسمح لي، لقد كانت أفكاره مليئة بالكمال والمثالية، أوه اسمح لي من جديد، بل لقد خلق نظامًا جديدًا، فكرة القدم قبل كرويف كانت حقبة وبعده كانت حقبة أخرى.
وصفه الصحفي الإنجليزي الراحل ديفيد وينر في كتابه “العبقرية العصابية للكرة الهولندية” بأنه يحمل حساسية فيثاغورس في حذاءيه، وكذلك شرح كرويف في تصريحاته هذا الأمر قائلًا: “لعبة كرة القدم بسيطة جدًا، ولكن تقديم كرة قدم بسيطة هو الشق الأصعب فيها”، تلك الجمالية والحساسية في رؤية الملعب كلاعب وتطبيق أفكاره رغم كل ما يُمكن أن يقع من أخطاء ومخاطر. ورغم أن البارسا خسر الكثير من المباريات معه كلاعب أو كمدرب، خسر من ميلان برباعية في أثينا، لكنه أيضًا فاز بالليجا لأربع مرات متتالية، سحر أثير وانتصار، وأيضًا بعضًا من خيبات الآمال لكن لا يُمكن إلا أن يُصاب محبّوه بهذا الثقل الكبير للمتعة والكرة الجميلة، والتي فيما بعد وبعد تكوين أكاديمية اللا ماسيا جعلت برشلونة تهيمن على العالم أجمع، جعل الكاتالونيين الذين كانوا يشعرون بالاحتقار لأنفسهم وبأن صوتهم مستبعد وغير موجود، مسموعًا، وعلى شفاه الأطفال، الشباب والعجائز والنساء في كل مكان.
برشلونة؛ ما قبل كرويف وما بعده
تسجيل 80 هدفًا في هذا الموسم، أي بأكثر من 31 هدف مقارنة بالموسم الذي سبقه. أراد الهولندي منذ المباريات الاستعدادية تلقين لاعبيه القدرة على اللعب بدفاع متقدم وإشراك الجميع في بناء اللعب، وكان الحارس روزبيزاريتا كثيرًا ما يتقدم ليلعب دور الليبرو “كمانويل نوير مع بايرن ميونيخ في السنوات الأخيرة”.
كان الأسلوب الذي اعتمده كرويف في تلك الفترة هو اللعب باثنين من المهاجمين، أحدهما قادر على توفير المساحة للبقية والعودة للخلف والآخر يعمل على صناعة اللعب للجناحين المتقدمين. لكن هذا الأسلوب كان يتطلب خط وسط حديديًّا وقادرًا على إدارة المباراة وهذا لم يتوفر لديه في الموسمين الأول والثاني، الـ4-2-4 جعلت البارسا يهزم الريال بخماسية وقادر على تحويلها لـ4-3-3 في حالة كان يمتلك مهاجمًا متكاملًا، وكان المهاجم المتكامل في هذا العصر هو ماركو فان باستن ولم يكن بالإمكان جلبه من “الجراندي ميلان – ميلان العظيم” الذي كان مسيطرًا على كرة القدم الأوروبية آنذاك.
نجد أن البارسا الحديث قام بتطبيق هذا الأسلوب مع بيب جوارديولا فيما بعد بطريقة الـ4-3-2 بوجود ميسي كرأس حربة وبجانبيه سانشيز وفيّا وخط وسط يملك لاعبًا قادرًا على الاختراق من العمق مثل أندرياس إنييستا وتشافي مُحرِك ومنظم الصفوف ولاعب يخدم على الجميع بما فيهم الظهيرين ألفيش وخوردي ألبا مثل سيرخيو بوسكيتس، وأيضًا كان بالإمكان مع لاعبين من طراز عالٍ اللعب بـ3-3-4، كل هذه الأساليب طبقها كرويف مع الكتالونيين في فترته.
في الموسم الثاني ومع تثبيت باكيرو لقدميه في وسط الميدان واستقدام مايكل لاودروب من يوفنتوس، احتل البارسا المركز الثالث في الليجا وفاز بكأس ملك إسبانيا، اعتمد كرويف أكثر على طريقة الـ3-4-3، قدوم نجم ايندهوفن رونالدو كومان ساعد على اللعب بطريقة الثلاثة مدافعين، وحتى في بعض الأحيان كان يلعب بالـ3-3-4.
بيليه: كان لاعبًا ومدربًا كبيرًا وهو إرث لعائلة كرة القدم. وكان بيليه قد واجه كرويف على أرض الملعب في 1974 في كأس رانو دي كارانزا بين سانتوس وبرشلونة، وهي المباراة التي انتهت بفوز الأخير 1-4 في قاديش.
يوهان الذي جاء في فترة صعبة على المستوى المالي للبارسا وللرئيس نونيز استمر في إعطاء الفرصة لوجوه جديدة، لكن كان من الصعب أن تُناطح ريال مدريد وأندية أخرى عملاقة في أوروبا على مستوى القوة الشرائية؛ ولذلك كان قرار كرويف بتأسيس أكاديمية اللاماسيا وتعليم الناشئين أهمية الاستحواذ والاستفادة من مساحات التمرير. كان مبنى اللا ماسيا موجودًا بالفعل ولكن كرويف أراد أن يتم تعليم المواهب الصغيرة، أسس الكرة الشاملة في وقت مُبكر وأن يكونوا سندًا للنادي في المستقبل. بالفعل، إذا ما قمت بتعداد الأسماء التي استفاد بها البارسا من خطوة كرويف ومعلمه رينوس ميتشيلز فإنك ستعرف أي خطوة ثورية اتخذها، لاعبين مثل تشافي، إنييستا، كارليس بويول وليونيل ميسي وتياجو موتا كانوا نتاجًا لهذه السياسة.
نعود لصيف عام 1990 حيث بدأ كرويف يحصد نتاج المشروع الذي بدأه منذ سنتين، تم تصعيد بيب جوارديولا للفريق الأول واكتشاف الموهبة البلغارية الأعظم على الإطلاق، خريستو ستويتشكوف، والذي سيصبح فيما بعد أفضل لاعبي العالم، تابعه كرويف في سيسكا صوفيا واستقدمه بأربعة ملايين دولار لملعب الكامب نو، نقلة كبيرة على مستوى الجودة في الخط الأمامي، وبالتالي كان بالإمكان مواجهة الضغط الذي يقوم به الخصوم لإفساد استحواذ لاعبيه على الكرة.
فاز برشلونة بلقب الليجا في 1990-1991 بفارق 11 نقطة عن ريال مدريد ولكن على المستوى الأوروبي كان من الواضح أن البارسا يحتاج لجودة أكبر في مركز الجناحين؛ بما أن الهولندي كومان وفر الكثير من الحماية لخط الدفاع في مركز الليبرو المتقدم بجانب ألبيرت فيرير القادم من تينيفري بعد انتهاء إعارته. خريج أكاديمية اللا ماسيا كان أحد الأسماء التي خلقت نواة فريق الأحلام فيما بعد.
في 20 مايو يفوز البلاوجرانا بلقب دوري أبطال أوروبا على حساب سامبدوريا الذي كان يجمع ثنائيًا استثنائيًا في خط هجومه “فيالي ومانشيني”، هدف رائع من كومان في الوقت الإضافي يضمن به للبارسا أول لقب في مسيرته بتلك البطولة تاريخيًا ويجمع به ما بين الليجا والبطولة الأغلى في أوروبا. في تلك المباراة لعب كومان كليبرو وجوارديولا كلاعب وسط أمام الدفاع الثلاثي مباشرة، قتل تكتيك كرويف جودة الفريق الإيطالي في خط الهجوم بوضعه تحت الضغط، التكتيك الذي جعل الكرة في أغلب الوقت ما بين أقدام لاعبي البارسا، في ويمبلي كان كومان يوفر المساحة للتمرير، هو آخر اللاعبين ولكنه أول من يمرر أول تمريرة إيجابية للأمام تفتح ثغرة ما لدى الخصم؛ الأمر الذي جعل الإيطاليين يلعبون كرة قدم مباشرة أكثر عندما تكون الكرة بحوزتهم، يحاولون الوصول لفيالي، امتدت المباراة لوقتين إضافيين كان فيهم البلوتشيركياتي مُجهدًا أكثر من اللازم.
تلك فلسفة كرويف، والتي كانت على قدر بساطتها من الناحية النظرية صعبة من ناحية التطبيق، فأنت تحتاج فيها للاعبين قادرين على توسيع رقعة الملعب وتوفير المساحات لزملائهم على الدوام، تحتاج إلى جهد واستعداد ذهني خارق لكي لا تخسر الكرة أو تفقد إدارة المباراة، تحتاج لإدارة كاملة من المدير الفني لعمليات السوق. كان كرويف يأتي باللاعبين الذين يجيدون أكثر من دور، والأفضل أن يجيد كل الأدوار. عندما جاء بمجيل آنخيل نادال من مايوركا كان لسبب “أنه كان يستطيع عمليًا أن يلعب في أي مكان أريده بأرضية الميدان”.
حافظ يوهان على لقب الليجا لأربع سنوات متتالية مع البارسا، أثمرت النجاحات عن جوع أكبر لتحسين جودة الفريق وتطوير الأداء، حقق ثلاثية في 1993 بحصده لليجا، كأس السوبر الأوروبي وكأس الكؤوس الأوروبية، وبقدوم روماريو في 1994 أصبحنا نتحدث عن فريق أحلام هائل يسجل 91 هدفًا في 38 مباراة وقد كان حينها رقمًا خياليًا ولم يكن بالإمكان لأحد حينها أن يُقارع البارسا إلا ميلان بجيله الذهبي بقيادة فابيو كابيلو الذي هزمه برباعية في أثينا، ولكنه نفس العام الذي شهد اكتساح الريال في الكلاسيكو بخمسة أهداف نظيفة سجلها كومان وإيفان “هدف” والبرازيلي الاستثنائي روماريو “ثلاثية”.
جيوفاني تراباتوني: أعتبره رمزًا للتخلص من الصدأ الذي كان موجودًا بكرة القدم في عصره، كلاعب كان أنيقًا ويدير اللعب، كان بسيطًا ومؤثرًا حتى في مراوغاته وهو أسطورة بالنسبة لجيلي من مشجعي كرة القدم، واجهته كلاعب مع ميلان وفزنا على أياكس بدوري الأبطال لكن كنت أعرف وقتها أن كرويف بدأ حقبة أخرى بكرة القدم، بمقارنته مع بيليه فقد كان إيقافه أصعب بكثير؛ لأنك لا تعرف أبدًا ما هو مُنتظر منه.
ترك يوهان مآثره العظيمة في ملعب كامب نو نهاية موسم 1996 بعد أن فشل في أن يحافظ على نفس النتائج، فخسر لقب الليجا لصالح الريال وخسر نهائي كأس إسبانيا أمام أتلتيكو، كان وقتها لويس فيجو يطأ أرضية الميدان لأول مرة قادمًا من سبورتنج لشبونة بعمر 23 عامًا، ترك برشلونة عملاقًا وقادرًا على القيام بأكبر الصفقات في كرة القدم الأوروبية بعد معاناة منتصف الثمانينات، بعدها جاء الإنجليزي بوبي روبسون، ثم جاء خلفه الهولندي لويس فان خال الذي أعاد للبارسا بعضًا من بريقه في 1998 بلقبي الليجا وكأس الملك ثم عادت سنوات التخبط من 1999 وحتى العام 2005، لتبدأ بعدها حقبة جديدة مع تلميذ كرويف “بيب جوارديولا” الذي كان تلميذًا نجيبًا ومؤمنًا بأفكار يوهان بحق، خمس سنوات هيمن فيها البارسا على الكرة الأوروبية ولم يكن هناك منافس كما كان ميلان في فترة كرويف، قفزة نوعية هائلة على صعيد الميزانية والقدرات التسويقية يستفيد منها عملاق كاتالونيا حتى يومنا هذا.