«نحن وزير الخارجية، ندعو الجهات المدنية والعسكرية المسئولة عن النظام في فرنسا، وكذلك السلطات المنوط بها القيام بالأمور نفسها في البلاد الحليفة، أو الصديقة للجمهورية الفرنسية، إلى تسهيل مهمة السيد/ أندريه ميكيل، مسئول البعثة الثقافية في الجمهورية المتحدة، ومنحه المساعدة والحماية التي يحتاج إليها»
باريس 8 يوليو 1961

بعد أشهر قليلة من هذا الخطاب، أُرسل «أندريه ميكيل – André Miquel» ليعمل مستشارًا ثقافيا في مصر، ويقوم بدراسة «الأدب والسينما في مصر المعاصرة»، فتم إلقاء القبض عليه بتهمة التجسس ومحاولة الانقلاب ضد نظام الحكم، واغتيال عبد الناصر، وكتابة منشورات سياسية، ومكث في السجون المصرية أكثر من خمسة أشهر ما بين خريف 1961 إلى ربيع 1962، شكّلت تجربة لا تُنسى في حياته.

قبل وصوله إلى القاهرة، زار ميكيل سوريا عام 1953 بعد حصوله على الإجازة في اللغة العربية، وإثيويبا التي ترأس بعثة الآثار فيها، وكان يُمنّي نفسه بِاستكمال هذه المسيرة في مصر، ولكن تردّي العلاقات بين البلدين بعد العدوان الثلاثي عام 1956م ومُساندة مصر لثورة الجزائر المشتعلة ضد الاحتلال الفرنسي أطاحا بأحلامه في دراسة الحضارة العربية ولغتها، وذلك بعدما وقع في دائرة شك الأجهزة الأمنية المصرية، والتي قررت احتجازه بصحبة عددٍ من الدبلوماسيين الفرنسيين، وهي التجربة القاسية التي كتب عنها ميكيل ضمن سيرته الذاتية التي صدرت بعنوان «وجبة المساء»، وعرَّف نفسه فيها بأنّه «مستشرق اختار أن يحاول فهم العرب، وها هم بعض العرب يسجنونه بلا سبب».

نحن المخابرات

يحكي ميكيل: البداية يوم 25 نوفمبر عام1961، حين دهمت قوة أمنية منزل ميكيل في القاهرة، يقول عن لحظة اعتقاله: «جذبوني من ذراعي، واصطحبوني معهم، وهنا وجهت إليهم كلمة أخيرة، قائلاً «أريد أن أعلمكم بأني أحمل جواز سفر دبلوماسيًا، وأنه في الدول المتحضرة.. فباغتوني بصفعة أخرى، وأخذوا يتضاحكون». 

نقل أندريه في يومياته تفاصيل تجربته عقب القبض عليه في القاهرة، ودخوله السجن كي يتم التحقيق معه بِاعتباره يهوديًا وجاسوسًا، يعمل في المكتب الثاني الفرنسي (المخابرات الفرنسية)، ونُقل بعدها إلى سجن الاستئناف التابع لمديرية أمن القاهرة، بصحبة مجموعة من السجناء السياسين، الذين اعتبرتهم السُلطات المصرية «جواسيس».

تعرّض ميكيل، خلال التحقيقات معه، إلى أشكالٍ متنوعة من الضغط النفسي والتهديد، فقال له المحققون: «إن لم تتعاون فالسجن مصيرك، وربما عقوبة الإعدام شنقًا، هل سمعت جيدًا يا ميكيل؟ نحن لسنا الشرطة، نحن جهاز المخابرات، ونحن أصحاب الكلمة الآمرة في مصر». 

استعملت الأجهزة الأمنية المصرية سياسة العصا والجزرة في تعاملها معه، فلم يكتفوا بترهيبه فقط وإنما أيضًا طلبوا منه التعاون معهم والعمل لصالح جهاز المخابرات، مقابل منحه الجنسية المصرية وتسهيل سفره إلى الخارج.

وعلى الرغم من اشتهار أجهزة الأمن، خلال هذه الفترة، في الإسراف من استعمال عمليات التعذيب المنهجية ضد سُجنائها، فإن ميكيل لم يتعرّض لها، وهو ما أثار تفاؤله في محبسه، يقول «سبب آخر منحني الأمل، وهو سبب ضعيف، ولكني أتشبث به، لقد تمت معاملتي بقسوة، وتعرضت للضرب، ولكن لم يتم التنكيل بي بالمعنى القبيح للكلمة».  

تنوّعت أساليب الترهيب المعنوي التي تعرّض لها ميكيل في محبسه، مثل الاعتداءات البدنية الطفيفة كالصفعات أو إخافته عبْر إسماعه لتسجيلات مزوّرة لمجموعة من رفاقه يزعمون بأن ميكيل لديه نشاط سري ضد الدولة المصرية.

طلب المحققون المصريون من ميكيل أن يعترف على زملائه كما اعترفوا عليه فلم يُصدِّق هذه التسجيلات، شكَّك في صحتها وطلب منهم مواجهته بزملائه ليتأكد من الاعتراف بنفسه فرُفض طلبه.

يقول متحدثًا عن رجال الأمن المصريين: لماذا لم يستجوبوا العاملين في منزلي وأفراد سكرتاريتي الذين كانوا سيقولون لهم إن الراديو الوحيد الذي أسمعه هو راديو مصر، وإن الصحافة الوحيدة التي أقرؤها هي الصحافة المصرية؟ لماذا لم يجروا معهم هذا التحقيق؟ أجيبوني أيها الأوغاد فهل تخافون من إظهار الحقيقة؟». 

احتمل ميكيل كافة هذه الضغوط، وظلَّ طوال التحقيقات ينفي قيامه بأي محاولة للتجسس على مصر، وأنه فقط كان مهتمًا بالدراسة والكتابة عن الحضارة العربية، أما دولته فرنسا فلقد احتجَّت على كافة الإجراءت الأمنية المرتكبة بحق ميكيل ورفاقه، وأمرت بِاستدعاء كل المدرسين والأساتذة التابعين لها في مصر كردٍّ على سجن مواطنيها.

4*4 أمتار

في كتابه، نقل لنا المستشرق الفرنسي كافة تفاصيل هذه التجربة المريرة، بدايةً من وصفه الدقيق لزنزانته التي بلغت مساحتها 4*4 أمتار، في مبنى يضم عشرين زنزانة متقابلة، تفتح أبوابها جميعًا على ممرٍ لا سقف له وإنما مُغطَّى بشبكة من السلك يُمكن من خلالها مُطالعة السماء، لذا كانت تزورهم من وقتٍ لآخر أسراب العصافير، لتهوِّن عليهم أصوات الكلاب البوليسية. 

يصف شعوره داخل محبسه فيقول: « أنا هنا في زنزانتي الصغيرة، وحدي مع الصمت. لدي حوالي عشر دقائق من المشي يوميًا. نقوم بتنظيف المكان خلال هذه النزهة القصيرة. أنا لا أرى أحدًا»

وبفضل إجادة ميكيل للغة العربية فلقد استطاع قراءة المكتوب على حوائط زنزانته بواسطة السجناء الذين سبقوه إلى الإقامة فيها، وفي الغالب الأعم منها، كانت نصوصًا من القرآن الكريم تساعد كاتبيها في التهوين عليهم من مشقة السجن ووطأته، كنوع من أنواع العزاء والسلوان. 

أما عن كيفية قضاء ميكيل وقته داخل الزنزانة، يحكي أنه اصطحب معه نسخة من الكتاب المقدس، ونسخة من القرآن الكريم كان يشغل وقته في قراءتهما، كما كان يُقسِّم وقته ما بين الرياضة والنوم والقراءة ودراسة اللغة العربية، إلا أنه أحيانًا كان يسافر بخياله إلى فرنسا ليخرج من أسر اللحظة الراهنة، فكان يتخيل ذكرياته في الطرقات والمُدن الفرنسية التي تبعد عنه عشرات الكيلومترات، يحكي أن هذه العادة لم تكن المُفضَّلة لديه لأنه ما إن يستغرق فيها حتى يأخذه الحنين إلى بلاده فيبكي!

كما شغل ميكيل نفسه كثيرًا بالاطلاع على أعمال عمالقة الأدب العالمي، معتبرًا أن القراءة في السجن أتاحت له «تأسيس بنيان عقلي متوازن»؛ فقرأ رواية دون كيشوت Don Quixote التي وصفه بأنه «كاتب معطاء وثري وإنساني وأوروبي وحديث، لكنه ممل»، وقرأ لأونوريه دي بلزاك Honoré de Balzac «العملاق الذي لا مثيل له»، كما اطّلع على الأعمال الكاملة لتوفيق الحكيم وعلى ثلاثية نجيب محفوظ الذي سيترجم بعض أعماله بعد خروجه من محبسه إلى الفرنسية وسيدعم ترشحه إلى جائزة نوبل للآداب.

وبالرغم من مرارة تجربة السجن التي مرَّ بها ميكيل إلا أنها كانت خير معين على أداء مهمته التي جاء مصر لأجلها وهي فهم العرب بطريقة أفضل، بعدما أجبره السجن على مذاكرة اللغة العربية بشكلٍ مكثف؛ 7 ساعات يوميًّا لمدة 5 أشهر كانت كافية لتوطين حُب اللغة العربية والتراث الإسلامي في أعماقه، وهي الرحلة التي كانت قد بدأت قبل أعوامٍ من سجنه، لكن هذه التجربة أعطته زخمًا كافيًّا ليستمر فيها إلى الأبد.

كفّارة

لم يُفرج عن ميكيل إلا في أعقاب إفراج فرنسا عن بن بيلا، وتحديدًا في الأيام التالية لتوقيع اتفاقية إيفيان بين باريس وقادة التحرير الجزائريين، يقول عن يوم خروجه من السجن بعد زيارة بن بيلا للقاهرة: «هذا اليوم محفور في ذاكرتي بحروف من نار». 

بعد خروجه من السجن، حافظ ميكيل على موقف متزن بشأن مشاعره ناحية مصر، مؤكدًا أنها لا يُضمر في نفسه شيئًا لشعبها الذي أكد أنه يحبه كثيرًا، أما بالنسبة لنظامها الحاكم (نظام عبدالناصر)، فظلَّ مؤمنًا بإخلاصه وإيمانه به رغم ما حدث!

يقول:

لقد رأيت قدرًا من إنجازاته (عبد الناصر) القادرة على إقناعي اليوم –على الرغم من الألم الذي سببه لي نظامه– بأنه يحقق بلا شك لبلده أكثر مما حقق السابقون. ولكن هل أغض الطرف عن هذه الإجراءات التي اتخذوها تجاهي؟ لا أظن ذلك أبدًا أنه لا يمكنني ذلك سواءٌ هنا في مصر أو هنالك في فرنسا .
المستشرق أندريه ميكيل يُلقي ندوة في معهد العالم العربي في باريس

عاش ميكيل بعد هذه التجربة طويلاً، فتقلّد عددًا من المناصب الأكاديمية، منها تعيينه مديرًا للمكتبة الوطنية في باريس، كما ألّف عشرات الكتب التي تركزت على الثقافة العربية وإن تنوّعت موضوعاتها بين التأليف والترجمة وبين التراث العربي، والأدب المعاصر، من أهمها: «العالم والبلدان: دراسات في الجغرافيا البشرية عند العرب»، و«موسوعة جغرافية دار الإسلام البشرية» في أربعة أجزاء والتي نال عنها درجة الدكتوراه، بالإضافة إلى قيامه بأهم ترجمة حديثة لكتاب «ألف ليلة وليلة» مع الجزائري جمال الدين بن شيخ وترجمته لكتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع، كما أصدر كتابًا عن الخليفة المأمون، لفرط شغفه به بسبب عنايته بالعلماء والمترجمين واستضافة قصره لمجالس العلم الشهيرة.

كما نال أندريه جوائز عربية كبرى مقابل إسهاماته البارزة في إثراء الثقافة العربية، مثل: الجائزة العالمية للترجمة من ملك السعودية عام 2010، وجائزة محمد بن رشيد للغة العربية من إمارة دبي عام 2019.