شهادة «أبو مصعب السوري» عن تجربة تنظيم الطليعة في سوريا
يرى «أبو مصعب السوري» أن الجماعات الإسلامية على اختلاف مشاربها تكرر نفس الأخطاء بنفس التفاصيل على امتداد الأجيال، ويعد سبب ذلك أنها لم تكتب تاريخها بموضوعية ولم تستحضر الدروس القديمة أو تدرس أسباب الفشل الحقيقي الذي رافق تجربتها، وإنما رغبت بالعيش في كنف المظلومية ومناقب القادة الأبطال والقناعات القدرية، لذا يلقبها السوري بأنها «حركات تلقي الضربات».
انبنى على ذلك التعامل الذي يصفه السوري بمنهج «أعراب البوادي»، الرؤية باللحظة الراهنة وقراءة الموقف بشكل عشوائي، وغياب المراجعة والمحاسبة، وعدم وجود تقييم للمرحلة، وحرمان الأجيال من الاستفادة من توريث التجربة والخبرات التي عدها السوري من أكبر المشكلات الحقيقية، حيث يرى أن الجماعات الإسلامية حرصت على قطع نقل الخبرات بين الأجيال تحت حجج يعتبرها واهية، وقد عانى بالفعل منها، وفي المقابل يرى أن الأعداء على مستوى عالمي يعملون على توريث خبرتهم ودراسة مفاتيح وأرشيفات الجماعات الإسلامية من أجل هزيمتها والتعرف على مواطن قوتها.
ولذا لم يكتف السوري بنصح الإخوة في الجلسات المغلقة، وحاول أن يخرج عن التقاليد ويعوض بنفسه غياب عقلية النقد، فدرس بتوسع ملحوظ التجربة السورية التي شارك فيها في الثمانينيات. وبتجرد ذاتي وسعى للحفاظ على منظور عقلاني وعلمي، أجرى عملية تقييم لمنهج ومسار الحركة الجهادية في سوريا، ثم قدم شهادته ومراجعاته النقدية في عدة دراسات، مع ملاحظة أن أبو مصعب هو أول الجهاديين إن لم الشخص الوحيد – حتي الآن – الذي نشر رؤيته النقدية لهذه الأحداث.
تنبع قيمة كتابات أبو مصعب عن الأحداث السورية في الثمانينيات من أمرين، الأول: الأدوار الميدانية التي لعبها كونه شارك في مجريات الأحداث ضد نظام الأسد الأب، بجانب أن مساره الشخصي يلقي ضوءً مهمًا على تاريخ وطبيعة الحركة الجهادية في سوريا وكذلك تطور مسار الحركة الجهادية العالمية.
والثاني: كشفه عن الأسباب العلمية لفشل الحركة الإسلامية بسوريا في الإطاحة بالنظام، بناءً على تقييمه الميداني والفكري، مع ملاحظة أن السوري مع انتقاداته اللاذعة، فقد هدف من ورائها إلى خدمة المسار التاريخي والتعلم من أخطاء الماضي واستخلاص الأسباب والعبر من تلك التجربة، ومن ثم نقلها إلى الجيل الأصغر من أجل التغلب على الإخفاقات المستقبلية وبناء حركة جهادية على أسس صحيحة.
الأمل: تغيير الهدف
أدت الحملة الدموية التي قام بها النظام السوري في مواجهات حماة عام 1982 إلى سحق التمرد وفشل التجربة الجهادية، وعلى إثرها، شعر السوري بخيبة أمل وتشكيكًا سيتكرر في مراحل أخرى من حياته، لعل بدايته كان في إعلان انفصاله عن جماعة الإخوان المسلمين السورية.
وبعدها مباشرة ارتحل أبو مصعب إلى السعودية التي مكث فيها أشهر قليلة، ثم سافر إلى فرنسا ومنها إلى إسبانيا، واستقر في غرناطة التي فضلها كمكان إقامة (1985 – 1990). ورغم اندماجه في البيئة الأوروبية، ظلت تحدوه آمال بإحياء الحركة الجهادية السورية، لم يتخل أبدًا عن هذا الحلم، وأمضى كثير من الوقت في جمع شتات المنشقين من جماعة الإخوان وأفراد الطليعة المقاتلة الذين فروا من سوريا، واستطاع بالفعل أن يبني مجموعات، لكن فشلت كلها.
لعل أهما ما حدث في عام 1983، حين حاول «عدنان عقلة» في محاولة يائسة «إعادة بناء الجهاد في سوريا» فعبر الحدود السورية مع 70 من رجاله في مجموعات صغيرة، وكان أبو مصعب قد توجه ساعتها إلى تركيا مع بعض رفاقه، منتظرين أوامر عدنان بالسفر إلى سوريا. لكن بعد وقت قصير، قُبض علي عدنان ومعظم من تبقى من تنظيم الطليعة، وانتهى عمليًا وجود أي تنظيم عسكري يعمل في سوريا، ليعود السوري حزينًا إلى فرنسا ويستكمل فيها دراسته.
مع ذلك، لم ييأس أبو مصعب، وحاول أن يجري اتصالات مع بعض الشخصيات، فاتصل بالعالم السوري الشهير «محمد سرور»، وكان يقدره بشكل كبير إلى حد أنه فكر أن ينضم إلى جماعته. كان هذا اللقاء في ألمانيا، واستمر لمدة طويلة، إذ بدأ بعد المغرب وانتهى عند صلاة الفجر، في البدء اتفق الثنائي على معظم العموميات، لكن تبدلت السهرة الجميلة بشجار عندما أدرك الشيخ سرور أن أبو مصعب جاد في الاستعداد العسكري، ويبدو أنه يأس من النقاش معه، فأخبره برفضه إسقاط النظام قبل وجود بديل يمكن أن يحل محله، كما أكد عليه أن أولئك الذين حملوا السلاح، كانوا بمثابة الكارثة التي حلت على العمل الإسلامي.
لم يحصل الغرض من اللقاء، وكانت النتيجة محبطة للغاية، فعلى حد تعبير السوري أخذ الحوار مجرى سيئًا وحصل فيه مهاترات وإسفاف، ومع الوقت ازدادت الخلافات بين الرجلين، وانشغل أبو مصعب بشكل لافت في نقد منهج الشيخ سرور على الرغم من ثنائه على بعض كتبه.
بدت احتمالات إحياء الجهاد السوري قاتمة، لكن هبت مرحلة الجهاد الأفغاني، فكانت بمثابة الشعلة التي أوقدت النيران مجددًا، تحدث السوري مع رفاقه في المنفى من تنظيم «الطليعة المقاتلة» في السفر إلى أفغانستان كمحطة مؤقتة وملاذ آمن، والبدء من هناك في حشد الدعم واستئناف مشروع الجهاد السوري.
لم يقتنع غالبيتهم، ويفسر أبو مصعب سبب ذلك بأن لديهم مفهومًا إقليميًا ضيقًا، لكن السوري أصر على خوض غمار التجربة، فبدأ التجهيز لرحلة السفر إلى باكستان وأفغانستان مع خمسة فقط من أصدقائه الذين اقتنعوا بوجهة نظره، وهناك كانت المفاجأة الأولى والمهمة والتي يتذكرها السوري بالساعة واليوم (الساعة 7 / 7 يوليو 1987) حيث كان لقاؤه بالشخصية الأشهر في الأوساط الإسلامية «الشيخ عبد الله عزام»، كان اللقاء برغبة ملحة من أبي مصعب وبهدف دعم الحركة الجهادية السورية، ويوضح السوري السبب الذي دفعه للسفر إلى أفغانستان، فيقول:
«بالنسبة إلي شخصيًا، فقد كان الهدف الذي حملني إلى أفغانستان، إعادة بناء تنظيم جهادي يعمل على متابعة المشروع الجهادي الذي قام في سوريا… أما الهدف الأول لمعظم الكيانات والتنظيمات والكوادر الجهادية، فكان الإعداد والتدريب وترتيب الصفوف، وجمع الكوادر وتجنيد العناصر وإقامة العلاقات العامة، واستقطاب أموال التبرعات، وتدريب أفراد التنظيم من أجل قضيتهم الذاتية في بلادهم».
كانت هذه هي المرة الأولى التي يزور فيها السوري مدينة بيشاور الباكستانية، وكان فيها لقاؤه الثاني بالشيخ عزام، دهش أبو مصعب حين وجد أن مدربه العسكري السابق «أبو أسامة المصري» موجودًا وقت لقائه بالشيخ عزام، لكن فرحة لقائه بمدربه المخضرم لم تكتمل، حيث قوبلت طلبات أبو مصعب بتشكك كبير من عزام الذي اعتبر أن باب الجهاد السوري أغلق حتى لو تمكن الجهاديون السوريون من إعادة بناء مجموعة مقاتلة في أفغانستان.
وحاول عزام إقناع أبو مصعب بصرف النظر عن فكرة إحياء الجهاد السوري، وبدلًا من الدخول في مغامرات عسكرية في سوريا، جادله في القتال من أجل القضية الأفغانية، وأثنى على مهاراته العسكرية التي لا بد أن أستاذه «أبو أسامة المصري» أشاد بها لعزام، وقد يكون أيضًا هو من سهل هذا اللقاء وساعد في تطوير العلاقة بينهم.
الشيخ عبدالله عزام
ويوضح السورى الأسباب العلمية التي أقنعه بها عزام، أهمها أن نسبة قليلة من المجتمع هي من يمكن حشدها للجهاد، كما شرح له كيف أن الظروف والمعطيات باتت مستحيلة، وبالتالي فالتجربة محكوم عليها بالفشل.
والحقيقة أن عزام كان الرجل الأهم الذي غير تفكير أبو مصعب ليس فقط تجاه التعامل مع سوريا، بل في تطور تكوينه الفكري، فتحت تأثيره، سيبحث السوري على إجابة عن هذا السؤال الذي شغل الكثير من كتاباته، وهو «كيف يمكن نقل المواجهة من مستوى التنظيم إلى مستوى الشعب؟» كما سيتوسع فهمه لقضايا المسلمين، وسيعيد إحياء مفهوم الجهاد عند عزام في وضع جيوسياسي مختلف، ومن هنا تحديدًا سيفتتح مرحلة جديدة ومختلفة في حياته، ويقول السوري:
«نحن بأنفسنا جاهدنا في سوريا إلى الفشل، ثم حاولنا البناء فما استطعنا أن نبني في تلك الظروف. ثم قذفت بنا محاولات البناء إلى أفغانستان، ولما جئنا إليها، لم نجد أي إمكانية لإعادة هذا الجهاد وهذا البناء، لا أموال ولا أشخاص تريد أن تجاهد… جلست عشرين يومًا لنأخذ دعمًا من الشيخ عبد الله عزام ونرجع نبني الجهاد في سوريا، وبدلًا من أن نقنع الشيخ أن يجاهد معنا في سوريا، أقنعنا هو أن نجاهد معه في أفغانستان».
ورغم أننا لا نعرف الكثير عن فحوى النقاشات التي دارت بينهما بعد ذلك، لكن من المؤكد أن عزام أثر على السوري بشكل لافت مثلما يظهر في كتابات الأخير، ويدعي أبو مصعب أنه رافق عزام منذ عام 1987 وقضى وقتًا طويلًا برفقته، وبشكل خاص تأثر بكون عزام رجل ميداني، أقدم على التضحية بنفسه وأولاده على عكس قادة الإخوان السوريين، فعلى حد تعبير السوري، كان عزام من النادرين في هذا الزمان ونموذجًا «للقيادة الصحيحة في العمل».
برهان الدين رباني وعبد الله عزام
وبمرور الوقت، أصبحت فكرة إحياء الجهاد السوري تبتعد عن ذهن أبو مصعب، لكن ظلت أولويته في تلك الفترة دعم الثورات الجهادية الأخرى في صراعاتها المحلية من أجل إقامة دولة إسلامية، ومن المهم ملاحظة أن سوريا لم تشهد أي نشاط جهادي قوي خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، عكس العديد من البلدان العربية الأخرى، ويقول أبو مصعب:
«عمليًا نحن نباتات إجتُثت من مزرعتها الأصلية ورُميت بعيدًا… وحل بنا ما حل بمعظم الجماعات، وذلك بسبب حقيقة أننا لم نعد في الميدان، بيننا وبين بلادنا آلاف الكيلومترات، لم نتمكن من فعل أي شيء على هذا الطريق، فدخلنا في نطاق المساهمة في الجهاد الدولي».
عجلت الظروف الجيوسياسية الجديدة وهزيمة الحملات الجهادية في أوطانها المحلية في فتح النقاشات بين الجهاديين حول العدو البعيد والقريب، ويعتبر السوري أن عام 1990 هو نقطة التحول المفصلية بالنسبة له وللحركات الجهادية الأخرى، إذ يرى أن إعلان قيام «النظام العالمي الجديد» وعملية «درع الصحراء» التي يُطلق عليها «الحملة الصليبية الجديدة» على العالم الإسلامي، خلقت جدلًا ساخنًا حول الطريق الذي سيسلكه الجهاديون في المستقبل، وبدأ السوري نفسه في التحول من محاضر عسكري إلى محاضر في القضايا السياسية والفكرية والشرعية.
اكتشاف الذات
الواقع أن المسرح الأفغاني كان يشهد غليانًا فكريًا وتنافسًا في الآراء والمقالات بشكل غير مسبوق، مجتمع عالمي مفتوح، أخلاط وأجناس متنوعة، بالنسبة لأبي مصعب، فقد كان اختلاطه بهذا الجو، فرصة عظيمة لتوسيع اتصالاته ومعرفته بالجماعات الجهادية من مختلف أنحاء العالم، وأيضًا دافعًا له لاتخاذ منظور نقدي لاستراتيجيات وتصرفات الحركات الإسلامية بشكل عام والجهادية بشكل خاص.
لم يقضِ أبو مصعب وقته في تلك الفترة 1987-1992 في التدريب العسكري فقط، بل كرس نفسه أكثر للمسائل الفكرية، وعكف على كتابات سيد قطب وعبد الله عزام، وابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وأفكار السلفية الإصلاحية بالسعودية، وبدأ يُكون الأرضية الفكرية التي سيتحرك على أساسها فيما بعد، لكن الأهم كان في اكتشاف موهبته كمفكر وناقد والتي كانت مقرونة بتجاربه العملية، ويقول السوري:
«اكتشفت في تلك المرحلة أنني أخطو الخطوات الأولى نحو التحول إلى أحد المنظرين والكُتاب في هذا التيار، واكتشفتها قدرًا، لم تكن في ذهني».
ولأنه كان لديه شعور قوي بأهمية النقد والتحليل، فقد عكف على التأليف بشكل منتظم، وكتب أول دراسة له عن الثورة الجهادية في سوريا مستعينًا ببعض زملائه الذين شاركوا معه في التجربة والكتاب أيضًا، وكان عنوان الكتاب في الأصل «الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا.. آلام وآمال»، ضمت جزأين في حوالي 1000 صفحة بما في ذلك الملاحق، الجزء الأول مختص بالتجربة والتاريخ، والثاني مختص بالفكر والمنهج.
كان السوري يدرك أن نشر هذا الكتاب على العلن سيعرضه للمضايقات وحتى لمخاطر أمنية، لكنه شعر بإحساس قوي بالأمانة والرسالة التي عليه أن يؤديها، وجادل بأنه كان محايدًا وموضوعيًا، كتب دراسته بأعصاب هادئة، كما تمنى أن يتعلم الجيل القادم من الجهاديين من الماضي ولا يقعون في الأخطاء التي دفع جيله ثمنها بدمائهم، ويقول أبو مصعب:
«إن هذه الشهادات التي كُتبت في هذا الكتاب هي كتابات أناس عايشوا هذه المرحلة وكانت لهم مسؤوليات معينة… وأنا عشت هذه القضية ولم أكن إلا في الصف الذي أريد أن أحاكمه الآن، فمعظم ما رويته، هي أحداث عايشتها ساعة بساعة، أو تفاصيل سمعتها مشافهة من أصحابها المجاهدين الثقات. ولقد كان لي احتكاك بمعظم الشخصيات الرئيسية التي أسهمت في تلك الحوادث، كما ربطتني بأغلبهم صداقات أو علاقات عمل حركي في مختلف المراحل».
واجه أبو مصعب نقدًا من العديد من الجهاديين بسبب استخدام مصطلح «الثورة» لأن الشيوعيين واليساريين يستخدمون هذا المصطلح، لذا غير اسم الكتاب بعد ذلك إلى «التجربة السورية».
أنتهى أبو مصعب من كتابة هذه الدراسة في أواخر عام 1987، ونشر ساعتها نسخًا قليلة منها، ثم قام ببعض التعديلات وأضاف بعض الفصول، ونشر الكتاب بشكل رسمي في بيشاور عام 1991 بعد أن راجعه الشيخ عبدالله عزام والدكتور فضل.
واجه الكتاب انتقادات من الإسلاميين السوريين وكذلك من بعض الجهاديين، ففي حين اعتبر بعض الجهاديين الكتاب متساهلًا مع الإخوان بسبب أن السوري أقر بالجوانب الإيجابية التي رآها عندهم، وأشار إلى أن جماعة الإخوان – رغم أنه وصفها بـ«مدرسة العصمة الكهنوتية» – لديها الكثير من المخلصين في صفوفها وليس كل ما تدافع عنه شر وانحراف. مع ذلك جادل الإخوان بأن الكتاب أضر بقضيتهم، لأنه كشف الكثير من أسرارهم، وشوه شخصيات الحركة التاريخية وزرع الشك في أنشطتهم وجعل الأعداء يشمتون بمصابهم.
وزع الكتاب بشكل واسع، وحظي السوري بشهرة واسعة في صفوف المجتمع العربي الجهادي على عكس الشخصيات الجهادية الأخرى التي صعدت إلى الصدارة كقادة ورجال دين. وكان السوري يجمع بشغف التعليقات والانتقادات على كتابه ويرد عليها، وكثيرًا ما تم تقديمه في تلك الفترة على أنه صاحب «التجربة السورية».
لكن مع ذلك شعر بإحباط شديد بسبب لامبالاة زملائه السوريين بالكتاب، وعزا ذلك إلى تفشي اليأس بينهم، فيقول عنهم بتأسف: «إن درجة الإحباط العالية لدى من تبقى من حطام الجهاد في سوريا بلغت حدًا أنهم لا يريدون العمل لقضيتهم ولا حتى القراءة عنها، وللأسف فقد ملوا حتى سماع أخبارها».
العزلة: استراحة مفكر
بين عامي 1990 و2000 مر أبو مصعب بتحولات فكرية ومنهجية تغيرت فيها نظرته تجاه الأحداث في سوريا، من الممكن القول إن مسيرته الفكرية بدأت منذ منتصف الثلاثينيات من عمره، وهذا راجع بشكل كبير إلى سعة اطلاعه في تلك الفترة وانهماكه في دراسة كتب الفكر الغربي والتخطيط الاستراتيجي، بجانب جدول سفره المزدحم إلى عديد من الدول الإسلامية والأوروبية في 1992-1996، حيث ذكر أن هذه الأسفار ساعدته على دراسة معظم الحركات والتنظيمات السرية وقيادات التيار الجهادي المعاصر بشكل خاص.
ورغم عودته الأخيرة مع عائلته للاستقرار بأفغانستان عام 1997، وحفاظه على استمرار التواصل مع معظم الجماعات الإسلامية، كان السوري يشعر بكونه وحيدًا في المجتمع الجهادي، وفي 1999 أشار إلى أنه علاقة بالجماعات الجهادية دخلت في حالة من الجمود، لكنه لم يوضح السبب.
لذا بحث لنفسه عن دور قيادي، فأنشأ معسكراً وأكاديمية الغرباء وفق أيديولوجيته ومبادئه الخاصة، وسجل فيها نهجه الجديد وخلاصة أفكاره وتجاربه، كما خصص المزيد من الوقت لتدريس الأعمال الغربية في الإدارة والمبادئ العسكرية والنظرية السياسية وعلوم الاجتماع، وتناول قضايا فلسفية أكثر جوهرية مثل: من نحن؟ ماذا نريد؟ من هم أعداؤنا؟ ماذا يريدون؟ الجهاد هو الحل؛ لماذا وكيف؟
لكن يبدو أن شخصيته المستقلة بشدة وعدم انتمائه تنظيمًا إلى إحدى الجماعات الجهادية قلل من دوره ونفوذه في أفغانستان في تلك الفترة، حيث إن معظم الجهاديين كانوا ينتمون إلى جماعات، والمشهد يهيمن عليه شخصيات كاريزمية.
هذا بجانب احتقار أبو مصعب الأيديولوجية الضيقة والإطار التنظيمي للجماعات الأخرى، مع ميله الجاد نحو الأعمال الإستراتيجية والتحليل النقدي الذاتي المفتوح، خصوصًا لغة النقد المباشرة والصريحة الموجهة صوب زملائه، التي لم تجذب له شريحة واسعة، ونتيجة لذلك، وجد السوري صعوبة في التعامل وقوبلت أفكاره بفتور، لكنه في المقابل تأثر بشدة بالثقة والدفء الذي تعاملت به طالبان معه.
ورغم هذا الضيق الذي شعر به وابتعاده عن سوريا، وتبني مواجهة جديدة، فإن سوريا في الحقيقة لم تكن فقط أكثر التجارب التي أخذت من أبى مصعب جهداً ووقتاً كبيرين، بل إن معظم لقاءاته وكتاباته يظهر فيها الحنين الواضح لمسقط رأسه، لذا يقول في عام 2000:
«من ثغر كابل.. أحب أن أقول: يعلم الله تعالى أن من أحب ما أحب إلى نفسي بعد الإيمان بالله تعالى ما من شيء أشهى إلى نفسي من أن يمكننا الله من جهاد هؤلاء النصيرية العلوية واليهود والصليبيين الذين دنسوا تراب الشام المبارك… ويعلم الله أني أفرغت من مداد قلمي على هذه الورقات ما كنت أحب أنه يكتب بدمي وأعصابي ونبضات قلبي وسبحات روحي، وإني لو كنت أقدر على حرب هؤلاء المجرمين من العلوية النصيرية وأعوانهم وقتي هذا لكان ذلك أحب إلى نفسي… فقد عشت أبذل عمري ووسعي في هذا الهدف، فإن عجزنا عن تحقيق تلك الأمنية، فلنا العزاء بما نؤمله من ذراري المسلمين الموحدين من بعدنا أن يكملوا المسيرة ويمشوا على ضوء أنوار ما مشينا عليه».
ومن الواضح أن أبو مصعب رافقه شعور بأن إنتاجه القديم في التجربة السورية بحاجة إلى تطوير، فبين عام 1997 وعام 2001 كان اهتمامه الرئيسي هو الكتابة والتدريس، وشعر ساعتها أنه وصل إلى مستوى نضج واستوعب المبادئ والأفكار والأسس، ومما لا شك فيه أن شعوره بالتميز والفخر يتكرر في مواضع كثيرة في كتاباته.
وعلى هذه الخلفية، فقد رأى أن دوره يتطور أكثر نحو الإيديولوجي والمحلل، فألقى العديد من الدورات والمحاضرات وألف العديد من الكتب والدراسات عن التجربة السورية ما بين النقد التفصيلي والنقد الموجز، سرد فيهما تقييماته الجديدة وأهم استنتاجاته والمشاكل المتوقعة، بجانب إدراج شهادته الميدانية.
ففي عام 2000 كتب أحد مؤلفاته عن التجربة السورية، «أهل السنة في الشام في مواجهة النصيرية والصليبية واليهود»، بجانب مجموعة المقالات التي نشرها في مجلة «قضايا الظاهرين على الحق». كذلك في آخر مؤلف له «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية» أولى التجربة السورية اهتمام بالغ، لذا من المهم ملاحظة أن كتابات أبو مصعب عن تجربته في سوريا لم تسر على نمط واحد، فقد استمر في إعادة صياغة وتعديل أفكاره.
تحت الركام: «الطليعة المقاتلة لحزب الله»
غرقت سوريا منذ استقلالها في موجة الاضطرابات السياسية، وفي خلال سبعينيات القرن الماضي تصاعد فيها النشاط الإسلامي بقوة، وبدأت الحركات الإسلامية بمختلف توجهاتها تشهد انتشارًا واسعًا، تزامن ذلك مع قهر مساحات التنفس السياسي، التي أدت إلى موجة من الاضطرابات والعنف السياسي.
كانت جماعة الإخوان السورية منذ تأسيسها منتصف ثلاثينيات القرن الماضي منخرطة في مجموعة واسعة من الأنشطة الاجتماعية والسياسية، وظلت نشطة حتى تم حظرها في نهاية الخمسينيات لتنتقل بعدها إلى العمل السري. ثم بعد وفاة قائدها الأول «مصطفى السباعي» الذي كان له دور كبير في توحيد الحركات السورية المتفرقة، عصفت بالحركة انقسامات وصراعات داخلية أدت إلى ظهور مجموعات متناقضة في الرؤية والأهداف، وبرز تكتلان، أحدهما في دمشق، والآخر في حلب وحماة، هذا الانقسام سيتجلى في أحداث السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي.
وبمجرد وصول الأسد الأب إلى الحكم، أوقف الطريق المأمول للانفتاح السياسي، وانقسم الإخوان حول نهج الصدام مع النظام، وبحسب أبو مصعب، فإن خيار المواجهة العسكرية مع النظام ولد على يد «مروان حديد» مسؤول فرع جماعة الإخوان في حماة، ويعتبر الأب الروحي للجهاديين السوريين، و «الشخصية الثانية» بعد أستاذه سيد قطب التي أسهمت في نشأة التيار الجهادي الحديث.
كان حديد شخصية حركية وخطيبًا وشاعرًا بارعًا، على قناعة بأن الحركة الإسلامية سيتم سحقها سواء حملت السلاح أم لا، ونظر للسلاح باعتباره الأمل الوحيد لتحقيق هدف تغيير النظام، كما حاول إقناع الإخوان المسلمين بتشكيل جناح عسكري استعدادًا للمواجهة مع السلطة، وقال كلمته المشهورة: «سأجر الإخوان إلى الجهاد جرًا، وإذا أخرجوني من الباب، سأدخل عليهم من النافذة».
لكن تنامت الخلافات بين أفرع الإخوان، وفي نفس الوقت تفاقمت أوضاعهم مع السلطة، وفر الكثير منهم إلى السعودية، وبدأت الأحداث في الداخل تتطور إلى احتجاجات شعبية واشتباكات مسلحة ضد حزب البعث، شارك حديد فيها في مدينته حماة عام 1964، فيما عُرف بـ«أحداث جامع السلطان»، حيث حاصرت قوات الجيش المسجد وقصفت مئذنته، ليقع صدام مسلح وقتلى من الجانبين، انتهى بالقبض على حديد ورفاقه وحكم عليهم بالإعدام، لكن قُبيل تنفيذ الحكم، تدخلت جهات إسلامية في البلد، وأفرج عن حديد ورفاقه بقرار من رئيس الجمهورية خشية انفجار الأوضاع إن نفذت الأحكام.
ظل حديد على قناعته تجاه النظام، لكن بعض مجموعات الإخوان رفضت نهجه، فتوجه صوب الأردن في معسكرات الإخوان وحركة فتح الفلسطينية عام 1969، وهناك تمكن من إعداد النخبة الأولى لجماعته، وبهذا أوجد ازدواجية وتنظيم داخل الجماعة المنقسمة، ويوضح أبو مصعب أن حديد لم ينفصل عن الإخوان بهذا التنظيم، وإنما أراد جر الإخوان إلى هذه المعركة لأنهم الكتلة الأكبر. كما يعتبر السوري أن تنظيم حديد هو أول تجربة جهادية في سورية، ويُؤرخ لها من بداية عام 1965 م.
ثم في عام 1973 اندلعت مظاهرات – بخاصة في حماة – بسبب إصرار حافظ الأسد على إلغاء المادة الدستورية التي تنص على أن دين الدولة هو الإسلام، وهي المادة التي جاهد السباعي على إضافتها، أدت جماعة الإخوان دورًا في هذه الاحتجاجات، ونجح خطاب الإسلاميين في حشد المشاعر المناهضة للنظام، لكن بطش النظام بالإسلاميين وقمع المظاهرات بوحشية.
حاول حديد مرة أخرى إقناع الإخوان بجهاد النظام، وعندما يئس منهم، توصل إلى قناعة أنهم لن يشاركوه أهدافه، لذا في جملة يملؤها الألم، صاح حديد مخاطبًا الإخوان: «لقد جعلتم من مصلحة التنظيم وثنًا يعبد من دون الله». ثم قرر أن يستقل نهائيًا بجماعته التي سماها «الطليعة المقاتلة لحزب الله» ودعا علنًا إلى جهاد النظام من على أحد منابر حماة، كما نشر بيانه الأول إلى جميع العلماء والجماعات الإسلامية يحضهم على جهاد النظام الذي وصفه بأنه علوي كافر يضطهد السنة.
جزء من نص البيان الأول لـ مروان حديد
في المقابل قامت جماعة الإخوان بفصل حديد وكل شاب يتصل به ويحضر دروسه، مع ذلك اعتبر أفراد جماعة حديد أنفسهم التلاميذ الحقيقيين لحسن البنا وسيد قطب، وظلوا على بيعتهم لحديد وظلوا أيضًا في الإخوان كغطاء فيما لو قُبض عليهم. وبحسب السوري فقد عمد الإخوان إلى تشكيل جهاز عسكري بهدف ضم المتحمسين للأفكار مروان الجهادية، حتى يقطعوا الطريق عليه، لكن السوري يعتبر أن هذا الجهاز كان رياضيًا أكثر منه عسكريًا.
ثم في عام 1975، قام تنظيم حديد ببعض الهجمات المسلحة ضد رموز السلطة، لكن استطاعت الأخيرة بسهولة أن تعتقله بعد اشتباك مسلح، وحكمت عليه مع بعض رفاقه بالإعدام، ومات أقوى زعيم سوري جهادي في 1976 بعد سنة واحدة من اعتقاله، يعتبر أبو مصعب أن مروان حديد كان فاشلًا من الناحية التنظيمية والتخطيطية.
وبعد موت حديد، تعهدت الخلايا الباقية من التنظيم بالانتقام لمقتله وحمل لواء إشعال الثورة، وتولى قيادة التنظيم تلميذه الضابط والدكتور «عبد الستار الزعيم»، وبدأت الطليعة مرحلة العمل السري التام، وكان الكثير من عناصر التنظيم ذوي ازدواجية في تنظيم الإخوان والطليعة. كما كان عبدالستار يأخذ تمويلًا قليلًا من «عدنان سعد الدين» مراقب جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، واشترط الثاني عليه أن الذي ينتمي إليه يقطع صلته تنظيميًا بالإخوان، ورغم ذلك لم يُطلع عبدالستار الإخوان على أي عملية كان يقوم بها.
وفي الفترة 1976 – 1979 وقعت سلسلة من الاغتيالات لشخصيات بارزة في النظام، كان التنظيم الذي أسسه حديد هو من يقف خلف هذه العمليات، لكنه لم يعلن تبنيه عنها، وظنت المخابرات السورية أن العراقيين هم الذي يقومون بها، ثم كشفت السلطة عن التنظيم في عام 1978 وبدأت تطارد أفراده.
هنا رأى أفراد الطليعة أنه لا فائدة من السرية، وقرروا أن يعلنوا عن هويتهم، فتبنوا العمليات السابقة وسموا أنفسهم باسم جديد «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» لم تكن هذه التسمية تعني ارتباطهم تنظيميًا بالإخوان، وإنما أرادوا من خلالها حشد الإخوان للدخول في الصراع العسكري وإعادتهم إلى مسار البنا وقطب، واستطاع «عدنان عقلة» خليفة عبد الستار الزعيم، أن يُدخل الطليعة في مرحلة حرب عصابات مدن منذ منتصف عام 1979.
صافرات الحرب
تصاعدت العمليات المسلحة بين الطليعة وقوات النظام في العديد من المدن السورية، بخاصة حلب، سيارات مفخخة وهجمات كر وفر، هز التنظيم أركان النظام، واغتال مناصب رفيعة، مثل الهجوم على مكتب رئيس الوزراء، ومقر القوات الجوية، ومركز المستشارين السوفييت، ومركز التجنيد العسكري، ومدرسة المدفعية في حلب – الحادث المفصلي – وبعض الهجمات الأكثر جرأة وقعت في العاصمة نفسها، بجانب المحاولتين الفاشلتين لاغتيال حافظ الأسد.
في نفس الوقت، غرقت البلد بالاضطرابات والمظاهرات، ورد النظام بارتكاب فظائع واسعة النطاق ضد المدنيين وحتى السجناء، وعلى الرغم من أن قيادة الإخوان سارعت إلى نفي علاقتها بعمليات الطليعة، فقد أعلن النظام الحرب على كل الإخوان، كما أصبح الانتماء للإخوان جريمة يعاقب عليها القانون بالإعدام.
بيان الإخوان في 3 يوليو/تموز 1979 ينكرون علاقتهم بالعمل المسلح
فرض الأسد الصراع ودفُعت الحركة الإسلامية إلى المواجهة، البعض يسميها بـ«الورطة»، واعتقل قسم من الإخوان وفر الباقي إلى الأردن، ومنها بعد ذلك أعلنوا في أواخر 1979 الدخول في المواجهة المسلحة دفاعًا عن النفس، فذهب عدنان عقلة إلي الإخوان للحصول على الدعم والتنسيق، وبعد عدة جلسات مطولة، اتفقوا على تنظيم العمل فيما يعرف بـ«الوفاق الثلاثي»، وهو التفهم الهش الذي لن يستمر طويلًا
ثم بدأت الألوية الجهادية تتشكل، وانفجر الوضع أشد مما كان عليه، إلى درجة أن الكثيرين باتوا على قناعة بأن أيام النظام محدودة. وفي شهادته على تلك الفترة، يقيم «سعيد حوى» أحداثها، فيرى أن العمل المسلح جاء كرد فعل على انتقاص النظام من الدين – العلمنة المفرطة – والحرمان من الاحتياجات الاقتصادية الأساسية، بجانب الإقصاء السياسي وتعزيز مكانة الأقلية العلوية على حساب الأغلبية، وتصاعد الصراع بسبب ممارسات النظام، التي بحسب «حوى» أوجدت مناخًا مواتيًا لاستمرار المواجهة. وجعلت العنف هو الخيار الوحيد للتأثير على السياسة.
لم يكن أبو مصعب ذو الخلفية العائلية البارزة بمعزل عن كل هذا الزخم، كان قد تخرج في الثانوية العامة عام 1976، وبدأ دراسته الجامعية في سن الثامنة عشرة بكلية الهندسة قسم ميكانيكا، كان طالبًا مجتهدًا وموهوبًا، لكن استمرار الغليان وتصاعد الاحتجاجات، ووصول التجاوب الشعبي للأحداث إلى القمة في مسقط رأسه حلب، وخصوصًا مشاهدته المتكررة لعمليات القتل الجماعي التي تمت في الشوارع ونجاته من أحدها بأعجوبة، دفعته لأن يتحول من طالب جامعي متفوق إلى عضو نشط في حركة مسلحة.
ويحكى أنه شعر بضغوط داخلية للالتزام بالإسلام والدفاع عن أعراض الناس ضد مما اعتبره جرائم النصيرية والبعثية. ولم ير حلًا سوى الخيار العسكري، فاتخذ القرار بترك الجامعة بعد مكوثه فيها أربع سنوات (1976 – 1980) من أجل المشاركة في القتال ضد حافظ الأسد، وعن طريق بعض زملائه في الجامعة انضم إلى أبرز التشكيلات العسكرية، «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين»، وافتتح مشواره الجهادي عام 1980.
لا ينسى السوري يوم انضمامه إلى الطليعة في 27 رجب 1400هـ، يتذكر بوضوح تفاصيل هذا اليوم بنبرة سعيدة، كان عمره 21 عامًا، وبعد ثلاثة أشهر من انضمامه إلى إحدى المجموعات الصغيرة، بدأت مجموعته تلعب دورًا أكبر، فكانوا يقومون بالخدمات اللوجستية وبعض العمليات الصغيرة، لكن بعد وقت قصير، كشفت السلطة عن مجموعة السوري واعتقل عديد من زملائه، وصدرت مذكرة اعتقال بحقه.
فقرر أبو مصعب مع بعض رفاقه الفرار إلى الأردن نهاية 1980، وهناك انضم إلى جماعة الإخوان على الرغم من عضويته في الطليعة المقاتلة، لكنه يحكي أنه في ذلك الوقت لم يكن مهتمًا بالخلافات الأيديولوجية بين أفرع الجماعات الإسلامية، وانضم إلى الإخوان على أساس استكمال مشروع إسقاط النظام.
الثأر: الدماء الساخنة
رغم أن وتيرة العمل العسكري سارت دون تخطيط استراتيجي، فقد حقق التمرد نجاحات عدة حتى أواخر 1980، وبحسب السوري فقد تمكن الإخوان من ابتلاع الساحة بسبب الدعم الخارجي الكبير الذي تلقوه من بعض الدول العربية الذي وصل إلى حد التدريب العسكري والتسليح والدعم المالي وتسهيل العبور على الحدود، كما غضت تركيا الطرف كذلك، واتخذوا من أراضيها مجالًا للحركة والاتصالات، ووصل الأمر أن مصر أيضًا قدمت دعمًا في مجال التدريب الأمني، وكان من المفترض أن يتطور، لكن مقتل السادات أغلق الباب.
ومن الأردن والعراق، أعادت جماعة الإخوان تنظيم صفوفها، وضمت فيها ضباط منشقين من الجيش السوري. تعرف أبو مصعب عن قرب على الإخوان وتم تعيينه أميرًا لمجموعة من المقاتلين. لم تتح هذه الفترة لأبي مصعب التدريب والإعداد العسكري فقط، بل احتك بشخصيات معروفة في الحركة الإسلامية، وتم اختياره ضمن مجموعة صغيرة من أجل السفر إلى بغداد في أوائل 1981 بغرض تلقى تدريبات عسكرية رتبها الجيش العراقي مع كوادر من الإخوان المسلمين، مع التركيز بشكل خاص على هندسة المتفجرات العسكرية، التي أصبحت في ما بعد أحد أهم مجالات السوري خبرة.
في الكثير من أحاديثه، يتذكر أبو مصعب على وجه الخصوص تدريبه في العراق على يد شخص يدعى «أبو أسامة المصري» الذي كان عضوًا في الجناح العسكري لجماعة الإخوان المصرية. وبحسب السوري فقد أقسم أبو أسامة يمين الولاء لحسن البنا، وشارك في حرب فلسطين عام 1948، كما كان مقربًا من سيد قطب، لكنه غادر مصر من أجل التدريب في معسكرات منظمة التحرير الفلسطينية بالأردن.
ووفقًا لرواية السوري، فقد كان أبو أسامة منخرطًا بشكل كبير في تقديم المساعدة للمقاتلين السوريين، وقد درس أبو مصعب مع رفاقه على يد هذا المخضرم لمدة شهرين، ثم في أواخر الثمانينيات ذهب أبو أسامة إلى أفغانستان والتقى السوري هناك رغم أنه كان في الخامسة والستين من عمره، ويقول السوري عنه: «كان قدوة عظيمة للشباب السوري، لقد ترك هذا الرجل المبارك إرثًا في داخلي حتى يومنا هذا».
وبعد الانتهاء من دورات أبو أسامة، أثبت السوري أنه متدرب ماهر، وعول عليه الإخوان، فتم تكليفه بمسؤولية التدريب العسكري في المعسكرات العسكرية للإخوان في كل من الأردن والعراق، وقبل أشهر من اغتيال السادات، أرسلته الجماعة مع عشرة من الكوادر العسكريين للحصول على تدريب أمني سري في مصر، كان أبو مصعب نائب رئيس هذه المجموعة.
بحسب السوري، كان البرنامج مفيدًا جدًا، استمر لمدة ستة أسابيع، وكان من المفترض أن يستمر لمدة ستة أشهر، ولكن تم تقليص المدة بسبب تنامي الصراع بين السادات والجماعات الإسلامية. أشاد أبو مصعب بجودة الدورة التي عُقدت في فيلا سكنية، وتألف طاقم التدريب من 14 ضابطًا مصريًا، أقلهم رتبة نقيب، وكان المشرف على الدورة برتبة فريق، الأمر الذي أثار إعجاب السوري.
التمايز والمفاصلة: نقطة الانهيار
رغم أن جماعة الإخوان دعمت الطليعة ودفعت لها المال دون قيد أو شرط، فقد جرت عدة مناقشات ساخنة بينهم حول قيادة العمل العسكري، كانت نقطة الخلاف الأساسية التي رسخت القطيعة التامة بعد ذلك، هي من الذي يحق له قيادة التمرد العسكري، القيادة الميدانية، أم القيادة الفارة في الخارج، نوقشت هذه المسألة بتوسع كبير انتهت برفض الإخوان للفصل بين القيادة السياسية والعسكرية، وخرج عدنان عقلة من التحالف الثلاثي ليلعن نهاية الوفاق.
جزء من الرسالة الطويلة التي أرسلها عدنان عقلة للإخوان بالخارج
ومع الوقت كثرة الخلافات بين الطرفين حول القضايا الفكرية التي نوقشت منذ أوائل الستينيات، وأصر الإخوان على أن الطليعة خرجت عن الطاعة، فنتج عن ذلك مشاحنات، على أثرها، قطع الإخوان الأموال عن الطليعة وأنشأوا جهاز عسكري مستقل، بنت الجماعة من خلاله جيوب عسكرية جديدة تابعة لها بشكل مباشر، لكن تمكن النظام في خلال شهرين من القضاء على هذا التنظيم.
ثم دخل الطرفان (الطليعة والإخوان) في مفاوضات لتسوية الخلافات وتحقيق قيادة موحدة، وبعد أشهر من المفاوضات غير الناجحة، أعلنت الطليعة الانفصال رسميًا أواخر عام 1981، ورفضت الاحتكام إلى الجماعة، كما حدث سجال طويل عريض حول التحالف مع القوى العلمانية واليسارية، وانتهى الجدل بإصدار الطليعة بيانًا شديد اللهجة، قالت فيه: «إننا نرفض ما يسمى بالجبهة الوطنية لأن شرع الله يرفضها».
وفي مشهد دراماتيكي، بدأ كلا الفريقين ينفي علاقته بالآخر، وأثرت خلافتهما على مسار التمرد، فعانى أفراد الطليعة من نقص الموارد اللازمة التي كان يدفعها الإخوان من أموال التبرعات ودعم الدول العربية لمواصلة العمل العسكري. وبحسب رواية أبو مصعب، فبعد أن أصر الإخوان على حصار الطليعة، وسع عدنان من دائرة الصدام الفكري، وأعلن كفر قيادة الإخوان ومن أقر بالتحالف الوطني، ومنذ عام 1981 تراجع العمل العسكري.
المصير: أذيال الخيبة
خلال الأشهر الثلاثة الأولى الحرجة من عام 1982 كان أبو مصعب وقتها في العراق يقضي كل وقته مع القيادة العسكرية، يتدرب يوميًا لمدة 15 ساعة، وأحيانًا 20 ساعة، وفجأة وجد نفسه الرجل الثاني في قيادة «هجوم حلب» وهي حملة كان من المتوقع أن تتقدم نحو حلب لتحريرها من النظام في أوائل عام 1982.
فعلى الرغم من صغر سن السوري، رقته جماعة الإخوان إلى موقع بارز في التنظيم، فكان عضوًا في القيادة العسكرية العليا برئاسة الشيخ «سعيد حوى»، لكن مع ذلك، يرى السوري أن هذه الترقية لم تكن اعترافًا بمؤهلاته العسكرية بقدر ما أرادت القيادة السياسية للإخوان عدم التورط بشكل كبير في حال فشل الهجوم، لذا قامت بترقية الكوادر الصغيرة.
أما في داخل سوريا، فقد ازدادت وتيرة الصراع المسلح، ودخل في مرحلة الذروة من أوائل 1982. كانت اللحظات القادمة حياة أو موت بالنسبة للنظام الذي واجه تمردات وثورات في جميع أنحاء البلاد، والأهم محاولات انقلاب عسكري تم الكشف عنها.
وبعد أن نجح النظام في قمع انتفاضة كبيرة في حلب، أراد أن يوجه ضربة قاسمة لرمز قوي بغض النظر عن التكلفة والغضب الذي قد تثيره، المهم ألا يضطرا إلى الضرب مرتين، وفي نفس الوقت يُرسل رسالة جدية إلى الجميع في الداخل والخارج بشأن الطريق الجديد الذي سيسلكه مع المدن الأخرى المتمردة، فكانت حماة، المدينة الأكثر حماسة دينية والمعروفة بتاريخها المتمرد ضد النظام؛ هي رأس الأفعى التي لا بد من احتلالها عسكريًا وإذلالها رمزيًا.
وبقيادة رفعت شقيق الأسد الأصغر، الذي أقسم على خوض مائة معركة، وتدمير ألف معقل، والتضحية بمليون شهيد، أرسل عدة مئات من الجنود إلى مشارف مدينة حماة، ومعهم قوائم بأسماء الإخوان المسلمين، كان رفعت يريد أن يستدرج المسلحين للخروج من مخابئهم إلى أماكن مكشوفة، وعلى الفور تعرضت قواته لكمين نصبه المتمردون، وتراجع رجال رفعت، مما دفع جماعة الإخوان إلى نشر شائعات حول تحرير حماة ومدن سورية أخرى، والدعوة علنًا إلى الاشتباك المفتوح مع النظام، والاستعداد لاستقبال المجاهدين الفاتحين، ويقول أبو مصعب:
بعدها بأيام قليلة، حاصرت القوات السورية حماة وقطعت جميع اتصالات المدينة عن بقية العالم، ثم حشدت المدفعية والدبابات والطيران الحربي، كما تم طرد أي جندي من أصل حموي من القوات المهاجمة، وبحسب رواية السوري، التي أكدها أيضًا «عدنان سعد الدين»، فقد ذهب عدنان عقلة إلي الإخوان في محاولة أخيرة لإنقاذ الموقف والحشد للمواجهة الكبرى، لكن لم ينجح في مسعاه، فذهب إلى العراقيين، ووعوده بتقديم الدعم، لكن فجأة أداروا ظهرهم له.
كانت حماة إذًا معركة أخيرة سيتقرر على أثرها مصير الجميع، وبحسب السوري، فلم تكن هذه المعركة برغبة من الطليعة، وإنما اضطروا لها لأنهم كانوا أمام خيارين إما أن يُقتلوا من دون قتال، أو أن يقاتلوا ويدافعوا عن أنفسهم.
بدأ الهجوم الشامل في فبراير 1982، لم يكن هناك تعادل في القوة بين الطرفين، وضع تنظيم الطليعة كل بيضهم في سلة واحدة، ومع اشتداد المعارك، أعلن الإخوان النفير العام، وراهنوا على انشقاق الجيش وقيام انتفاضة شعبية ضد النظام، إذ كان هناك توقع بأن مستوى العنف الذي يمارسه النظام سيؤدي إلى ثورة جامحة، وهو أمر لم يغب عن ذهن الأسد.
وبعد ما يزيد من أسبوعين من القتال الشرس، انتهى التمرد بسحق حماة وتسوية جزء كبير منها بالأرض. تختلف تقديرات خسائر الضحايا بشكل كبير، وتتراوح ما بين قتل 10,000 و40,000 من المدنيين، وحوالي ألف جندي من الجيش السوري.
وفي الوقت الذي كانت حماة تواجه مصيرها، أرد أبو مصعب أن يذهب لنجدتها، وينفذ «مخطط الحسم الشامل» الذي وضعه الإخوان وانتظره الجميع، لكن مع اتضاح النتيجة الكارثية، وعدم قدرة الإخوان على التدخل لإنقاذ الوضع، اكتشف السوري مدى الزيف الذي عايشه، وأصبح يائسًا حانقًا مما اعتبره خيانة الإخوان العسكرية ورغبتهم في وقف العمل العسكري والوصول إلى تسوية سياسية رغم أن النتائج كانت دموية، وعلى حد تعبيره «ذهبت الدماء هدرًا». وفي محاولة لتوجيه جبل المشاعر الغاضبة التي سيطرت عليه ساعتها، ألقى اللوم على الإخوان في دمار حماة وتصفية المجاهدين وأعلن انفصاله عنهم لأسباب شرعية واحتجاجًا على فسادهم.
ولكي نكون أكثر دقة، فإن صدمة الحدث واختيار جماعة الإخوان طريق التسوية، والتراجع عن التمرد بعد قرار التعبئة، كان بمثابة صفعة لشاب غاضب ومستاء، شعر ساعتها بالاكتئاب الشديد، وتركت الأحداث ندوبًا عميقة لديه، وإلى آخر أيامه كانت تمثل له ذكرى قاسية، ومن أكثر دروسه ألمًا.
كما تذكر في ما بعد بمرارة اختفاء الحلفاء الذين دعموا الإخوان، وكيف أن الدول العربية التي قدمت المساعدة والتدريب للمقاتلين، وقفت مكتوفة الأيدي حين كانت الطائرات والمدفعية السورية تقصف المدينة لمدة أسبوعين، وزعم أن ما يقرب من 40 ألف شخص قُتلوا، وبرأيه، فإن هذا يوضح حدوث تواطؤ مع الأسد، فالجميع التزم الصمت بشأن المجزرة وكأنها غير موجودة، كما أن مليارات الدولارات من دول الخليج بدأت تدفقت على النظام الذي أجمع كل عمائم الخليج على كفره على حد تعبير السوري.
والواقع، أن هذه الهزيمة عرضت أبو مصعب لتحولات جذرية في حياته وقادته إلى الشك والتساؤل حول الحكمة من شن ثورة عسكرية عندما لا يكون الأساس الأيديولوجي صلبًا، وفي حالة يأس، قرر مع بعض رفاقه التخلي عن الكفاح العسكري والتفرغ لطلب العلم الشرعي، وارتحل إلى السعودية في 1982.
ولأكثر من مرة حاول الالتحاق بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، لكن خلافاته مع الإخوان خلقت أزمة له، وشعر أنهم يضعون العراقيل في طريقه هو وغيره من المنشقين، حيث تم رفض طلباتهم للانضمام إلى الجامعة، وقطعت رواتبهم الشهرية، بحسب السوري فقد استسلم البعض للضغوط وجددوا البيعة لجماعة الإخوان.
ونتيجة لذلك، شعر أنه لم يعد قادرًا على تحمل هذه المضايقات والتوافق مع الأجواء الخانقة التي فرضها الإخوان في السعودية، فعرض عليه أحد أقاربه مساعدته في السفر إلى فرنسا للدراسة فيها والتكفل بمصاريفه بشرط أن يتعهد أبو مصعب بمساعدة شخص آخر في الحصول على التعليم بعد أن يتخرج في الجامعة.
كان السوري سعيدًا بقبول هذا العرض، وبعد أن أدى فريضة الحج ارتحل إلى فرنسا لمواصلة دراسته في الهندسة، وعلى مدى العشرة أعوام التالية، سيدخل أبو مصعب في حالة من التخبط بشأن الطريق الذي عليه أن يسلكه، خصوصًا الصراعات النفسية بين الدراسة والعمل والعائلة ومتابعته قضيته الجهادية، لكن في نهاية المطاف كرس نفسه للأخيرة بشكل كامل.
فاتورة المواجهة ومأزق الخيال: من يتحمل المسؤولية؟
يرى السوري أن التجربة السورية فشلت لأسباب متعلقة بقيادة الإخوان والطليعة، أهمها عدم وجود قيادة متماسكة على مستوى المنهج أو التنظيم، فالمجموعات المقاتلة لم يكن بينها أي تنسيق، وجماعة الإخوان كانت تشهد خلافات وصراعات في بنيتها التنظيمية، ومن اللافت أن أبو مصعب يعتبر أن جماعة الإخوان السورية ليست كيانًا واحدًا، ولا فكرًا واحدًا، إذ يراها جماعة تجميعية لمختلف المشارب، فيهم الصوفي والسلفي، والذي ليس له فكر، والبرلماني والجهادي، لذا يرى أن القيادة في كثير من الأحيان كانت ضحية لانفعال هذه التجميعات.
كما يؤكد السوري بشكل قاطع أن الإخوان وتنظيم الطليعة لم يكن لديهم رؤية سياسية واضحة، وخطة استراتيجية عامة أو قرار بشأن المواجهة بالمعنى العسكري الشامل مع النظام، كما لم يوضحوا أسباب هذا الصراع للناس ويدرسوا الساحة وحالة البلاد وطبيعة النظام ليستفيدوا من المعطيات، وبحسب السوري، لم يفشلوا فقط في الاتفاق على شكل الحكم، إنما غاب أي تصور عن مرحلة ما بعد سقوط النظام.
وإحدى أهم المشكلات التي رصدها السوري هي الفوضى في إدارة الأمور وحدود الصلاحيات وتداخل المسؤوليات، أو ما يطلق عليه «المخططات الهوائية»، كاعتماد الإخوان على الهيكل الدعوي السلمي لإدارة العمل العسكري، ويعد حدوث ذلك بسبب انعدام وجود الأكفاء على عموم المستويات، وضحالة الوعي السياسي. بجانب أن التربية التي تلقاها أبو مصعب ورفاقه عند الإخوان كانت تربية أخلاقية دينية وليست تربية سياسية اجتماعية.
كما يشير أبو مصعب إلى أن قيادة الإخوان والكوادر الجهادية حين انتقلوا للخارج، وأصدروا القرارات من هناك، نشأ اضطراب بين القيادة الميدانية والخارجية، وأخطأت القيادة الخارجية دائمًا في تقدير الموقف والوقت، لكن الأسوأ بحسب السوري هو أن الثورة فقدت احتكاكها بالجماهير، وبالتالي قُطع عنها المدد الطبيعي للإمكانات المادية والبشرية والمعنوية، فتحولت لجسد معزول، وشيئًا فشيئًا دخلت إلى مرحلة التآكل.
ويجادل السوري أن سياسة الإخوان هي من أهم العوامل وراء فشل الثورة المسلحة، بسبب أن الجماعة أبدت ترددًا وفتورًا في التحضير لانتفاضة واسعة النطاق ولم ترسل الشباب الذين تدربوا بالخارج إلى سوريا، والأسوأ برأيه أنها قطعت الدعم عن وحدات الطليعة المقاتلة التي قامت بمعظم القتال الفعلي، ووقع أفرادها في ما يسميه أبو مصعب بـ «جهاد الشحاتيين».
كما بدأت جماعة الإخوان مناقشات مع المعارضة العلمانية، لمحت فيها إلى إمكانية الوصول إلى تسوية سياسية مع النظام. وبالتالي سار الإخوان على درجة من المراوغة وإمساك العصا من المنتصف، إذ يرى أبو مصعب أنهم ساروا في الطريق حين كان يحقق نجاحات، ثم فكروا في ترك الطريق حين لم يعد يحقق شيئًا، وتعاملوا بأسلوب المواجهة المحدودة ورد الفعل، مما سهل على النظام استدراجهم بمواجهة صفرية غير متكافئة واجتثاثهم في ضربة قاضية.
وبشيء من التفصيل ينتقد السوري اتكال الإخوان والطليعة على الخارج «الصديق الممول» وكشف كل أوراقهم لمخابرات أنظمة الجوار، التي بحسبه تحكمت في معظم قراراتهم وتحولوا إلى ورقة سياسية ومنفذين للأجندات، فيذكر على سبيل المثال أن النظام العراقي طلب من الإخوان ضرب خطوط النفط السورية، لأن سوريا أغلقت ساعتها خط النفط بين العراق والبحر المتوسط، وبالفعل نفذ الإخوان الأوامر العراقية رغم أن هذه الأهداف بحسب السوري ليس لها علاقة بأهداف التمرد المسلح.
لذا يرى أبو مصعب أن هذا الدعم الخارجي لم يكن وليد قناعة بالثورة وأهدافها، وإنما جاء في إطار معاقبة النظام على مساندته النظام الإيراني وقتها، ويعتبر السوري أن مسألة الدعم الخارجي دمرت الثورة، وحاولت كل القوى الخارجية المختلفة استغلال الحدث لصالحها.
وبحسب السوري فقد كانت هذه المواجهة العسكرية أمرًا لا مفر منها، وفي تقديره يرى أن كل الإمكانيات والظروف لانتفاضة جهادية ناجحة في ذلك الوقت كانت متوفرة، وخصوصًا الظرف السياسي والإقليمي الاستثنائي، الذي أمدهم بالدعم، مع ذلك لم يتمكنوا من استغلاله واستمر العمل «على البركة» بتعبير السوري، ولذا يقول:
«التجربة الجهادية في سوريا هي التجربة المعاصرة الوحيدة التي اكتملت حلقاتها، اكتملت دوراتها من البعد الدعوي إلى الجهادي إلى الاستئصالي إلى المخابرات إلى كل ما يمكن أن يخطر على البال».
يؤكد السوري ضرورة المحاسبة التاريخية لقيادات هذه الفترة، ليس فقط للزج بالناس في طريق لم تستمر فيه، ولكن لجهل هذه القيادات التي يتهمها بالكسل والحماقة والسطحية وتكرر نفس الأخطاء التي لن يخرجوا منها سوى بنتيجة واحدة، كما يرى أن الصراع في سوريا حتمًا سيشتعل مهما بدا أن النظام مسيطرًا، حيث شبه الوضع بالرماد الخادع الذي يخفي تحته نارًا مشتعلة، لأن الندوب التي خلفها النظام لا تمحى من الجسد والذاكرة، كما يرى أبو مصعب أن المستقبل لا يتناقض مع الماضي، بل يعيد إحياءه، ولذا يقول:
«لقد تجبر العلوية النصيرية القرامطة وقامت دولتهم، وها هو الملك يترسخ فيهم من الأب لابنه، فأين نحن من كل هذه المهازل… ومن المحزن المبكي أن تركيبة السكان في المنطقة في غاية التناقض مع هذا الحال».