بالدستور والقانون: تيران وصنافير مصريتان ولو كره البائعون
«كل عمل حَظَرَه الدستور لا يجوز لسلطة أو لأحد أن يجيزه، فأرض الوطن لا تخص جيلًا واحدًا من المصريين وإنما تخص الأمة التي عاشت عليها أجيال سبقت وستبقى مهدًا لأجيال قادمة يقع عليها أيضًا واجب الدفاع عن هذه الأمة، امتدادًا لما كان عليه أسلافهم ممن بذلوا أرواحهم وأريقت دماؤهم واختلطت بتراب هذا الوطن حماية له ودفاعا عنه، لذلك منع الدستور التنازل عن أي جزء منه خاصة وأن حماية إقليم الدولة ووحدة وسلامة أراضيه هو التزام وواجب دستوري وقانوني في عنق كل مواطن من مواطني الدولة أيا كان عمله أو موقعه داخل سلطة ما أو فردًا عاديًا، وقد جُبل المواطن على حماية أرض بلاده قبل أن يحضه على ذلك نص في الدستور أو القوانين»
كانت تلك فقرة مما أورده المستشار الجليل يحيى الدكروري رئيس الدائرة الأولى أفراد (دائرة الحقوق والحريات) بمجلس الدولة في حكمه التاريخي، والصادر في 21 يونيو 2016، في شأن تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية، متحجّة بأنها مجرد اتفاقية إعادة ترسيم حدود بحرية متضمنة عودة الجزيرتين إلى الدولة صاحبة الحق فيهما وليست عملية تخلٍّ عن جزء من الإقليم المصري.
والحق أن الشكل الذي تم به إبرام الاتفاقية وإعلانها وما تضمنه من تجهيل للشعب المصري عن وجود أي مفاوضات أو اجتماعات، وعرضها على مجلس الشورى السعودي وإعلام الأمم المتحدة ودول الجوار بها دون إعلانها داخل مصر أو عرضها على البرلمان المصري، بل ورفض تقديم صورة منها لمحكمة القضاء الإداري التي ألزمت الدولة بها هو نوع من الاستهانة بإرادة المصريين والإهدار الواضح لحقوقهم الدستورية.
وهو الأمر الذي واجهه الشعب المصري بالتعبير عن غضبه بالتظاهر تارة وباللجوء لقاضيه الطبيعي والطعن على هذا القرار تارة أخرى.
الحكم وحيثياته
جاء حكم محكمة القضاء الإداري ليقضي «أولا: برفض الدفع بعدم اختصاصها ولائيًا بنظر الدعويين وباختصاصها بنظرهما. ثانيا: بقبول الدعويين شكلا وببطلان توقيع ممثل الحكومة المصرية على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية، الموقعة في أبريل سنة 2016 المتضمنة التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية، مع ما يترتب على ذلك من آثار أخصها استمرار هاتين الجزيرتين ضمن الإقليم البري المصري وضمن حدود الدولة المصرية، واستمرار السيادة المصرية عليهما وحظر تغيير وصفهما بأي شكل لصالح أية دولة أخرى، وذلك على النحو المبين بالأسباب وألزمت جهة الإدارة المصاريف.»
جاء الحكم والطعن من قبله مستندًا بشكل كبير على نص المادة (151) من الدستور المصري، والتي تحدثت عن إبرام الاتفاقيات والتي فرضت ثلاثة أحكام يجب على الدولة متمثلة في السلطة التنفيذية الالتزام بها:
(1) المعاهدات الدولية والتي يوقع عليها رئيس الجمهورية بعد موافقة البرلمان والتي تتضمن أي نوع من المعاهدات، ولا يجوز لرئيس الدولة التوقيع عليها بالإرادة المنفردة أو مجرد إعلام البرلمان بها كما كان ينص دستور 1971، بل أنه لا يملك أن يصدق عليها إلا بعد موافقة مجلس النواب، وتكون لها قوة القانون بعد نشرها وفقا لأحكام الدستور.
(2) بالإضافة لموافقة البرلمان فقد استثني من تلك المعاهدات ثلاث أنواع وهي: (الصلح والتحالف وما يتعلق بحقوق السيادة)، وفي تلك الحالة لا تكفي موافقة البرلمان، بل يجب أيضًا عرض المعاهدة على الاستفتاء، فالمرجع في الموافقة على هذا النوع من المعاهدات إلى الشعب صاحب السيادة وحده، في مظهر من مظاهر الديمقراطية التي تبناها الدستور.
(3) أما الحكم الأهم في المادة هو حظر إبرام المعاهدات التي يترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة، بأي شكل كان سواءً بعرضها على البرلمان أو الاستفتاء الشعبي.
ومن ثم فإن هذا العمل يعتبر عملا منعدمًا لمخالفته الصريحة لنصوص الدستور؛ فلا يمكن لأي من السلطات في الدولة الاقدام عليه. بمعنى أنه لا يجوز ذلك بقرار إداري أو حكم قضائي أو عمل تشريعي أو حتى استفتاء شعبي، فالنص واضح وصريح وقاطع الدلالة.
البرلمان ليس له حق التصويت
وحيث أن دفاع الدولة قد انحصر في عدم اختصاص المحكمة – والقضاء عمومًا – ولائيًا بنظر الدعويين استنادًا إلى نقطتين:
(1) أن إبرام الاتفاقية محل الدعويين يعد عملا من أعمال السيادة.
(2) أن الطلبات في الدعويين تتعلق بأعمال برلمانية لأن مجلس النواب يختص بالموافقة على المعاهدات.
أما عن الدفع الأول بإعمال نظرية أعمال السيادة فهو الدفع الذي رد عليه الحكم بأن الدستور الحالي حظر في المادة 97 منه تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، ومن ثم فالأصل هو اختصاص القضاء بنظر جميع الطعون التي توجه ضد أي عمل أو قرار يصدر عن جهة الإدارة، ولا يخرج عن رقابته إلا ما يُصدّق عليه من هذه الأعمال أو القرارات أنه من أعمال السيادة، وهي تلك الأعمال التي تباشرها الحكومة باعتبارها سلطة حكم في نطاق وظيفتها السياسية.
ومن حيث أنه حتى يمكن لجهة الإدارة التمسك بنظرية أعمال السيادة لمنع القضاء من نظر عمل من أعمالها، فان أول شروط أعمال تلك النظرية هو أن يكون العمل القانوني داخلًا في اختصاصها، وأن يكون مستوفيًا للاشتراطات التي يقررها الدستور ومتجنبًا المحظورات التي يفرضها. فإذا ثبت أنها غير مختصة به أو أن جهة الإدارة أهدرت الشروط التي يقررها الدستور أو وقعت في الحظر الذي يفرضه، فلا يجوز لها أن تستتر خلف ستار أعمال السيادة لمنع القضاء من بسط رقابة المشروعية على عملها.
أما عن الدفع بأن الاتفاقية هي عمل من الأعمال البرلمانية التي لا تسري عليها الرقابة القضائية؛ فهو الأمر الذي رد عليه الحكم بأن التنازل عن جزء من إقليم الدولة يزيل سيادتها عليه ويخرجه من نطاق إقليمها ومن حدودها، وهذا الحظر لم يرد فقط على إقرار البرلمان هذا النوع من الاتفاقيات حال عرضها عليه، وإنما ورد على إبرام الاتفاقية من الأصل. فيمتنع وفقًا لنص المادة 151 من الدستور التوقيع على اتفاقية تؤدي للتنازل عن الأرض المصرية أو الموافقة عليها أو عرضها على البرلمان أو الاستفتاء أو التصديق عليها، ويسري هذا الحظر في مواجهة السلطة التنفيذية وفي مواجهة السلطة التشريعية وفي مواجهة جمعية الناخبين من أبناء الشعب.
وعيله منع الدستور مجلس النواب من الموافقة على أي اتفاقية من هذا النوع، لأن أعضاء البرلمان ينوبون عن الشعب والشعب ممنوع بدوره من التنازل عن أرضه، وليس للنائب سلطة تزيد على سلطة الأصيل.
ولم يجعل الدستور للشعب – ممثلًا في هيئة الناخبين – سلطةَ الموافقة على التخلي عن أي جزء من إقليم الدولة في استفتاء عام، لأن الدستور أوصد جميع الأبواب التي يمكن أن تؤدي إلى التنازل عن جزء من إقليم الدولة، وكل عمل حظره الدستور لا يجوز لسلطة أو لأحد أن يجيزه.
وهذا الوضوح والحزم في النص اتضح في منطوق الحكم وإقراره ببطلان التوقيع على الاتفاقية من الأصل وليس فقط إلغاءها، حيث أن الحكم اعتبرها غير قائمة وكل فعل ترتب عليها هو باطل بالتبعية.
الدولة أصبحت في مأزق
بمجرد صدور الحكم صرحت هيئة قضايا الدولة أنها ستقوم بالطعن على الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا، مستشهدين بقضية اتفاقية تصدير الغاز والتي كان القضاء الإداري قد قضى بإلغاءها ثم قامت المحكمة الإدارية العليا بإلغاء الحكم وإقرار الاتفاقية من جديد. وإن كان الموقف في كلا القضيتين مختلف تمامًا؛ حيث أن المخالفة الدستورية شديدة الوضوح في قضية الجزيرتين، سواءً لإثبات أنهما مصريتان أو لكون القرار صادرًا بغير الشكل المنصوص عليه قانونًا، وفي كل الأحوال طعن المحكمة الإدارية العليا لا يوقف تنفيذ الحكم الصادر من القضاء الإداري.
فالسلطة التنفيذية وحتى الفصل في الطعن الذي ستتقدم به أمامها أحد اختيارين:
الأول: أن تحترم القضاء وتوقف أي أعمال خاصة بنقل السيادة على الجزيرتين للمملكة السعودية، وأن تزيل أي آثار لأي إجراء سابق قد قامت به، سواء تنكيس العلم المصري أو سحب أي قوات مصرية، وعليها أن تعود لتمارس كامل سيادتها على الجزيرتين.
الثاني: أن تتجاهل الدولة الحكم متعللة بالطعن عليه ومتجاهلة حقيقة أن الطعن لا يوقف التنفيذ وتستمر في إجراءات تسليم الجزيرتين، أو أن تخالف الحكم بأن تقوم بعرض الاتفاقية على البرلمان أو الاستفتاء الشعبي، وفي تلك الحالة يكون السيد رئيس الجمهورية بصفتة رئيس السلطة التنفيذية قد ارتكب الجريمة المنصوص عليها في المادة 123 من قانون العقوبات؛ بأن استعمل سلطة وظيفته في وقف تنفيذ حكم صادر من محكمة والذي يعاقب عليه بالحبس والعزل من منصبه.
المملكة العربية السعودية حائرة
لإبداء الرأي القانوني في موقف المملكة في تلك المسألة كان يجب علينا أن نطلع على الاتفاقية التي عرضت على مجلس الشورى السعودي، لكنها حُجبت عن المواطنين المصريين، إلا أنه وبقراءة للشكل الذي جرى به توقيع الاتفاقية وتصريحات المسئولين السعوديين نتبين ثلاثة مواقف من الممكن أن تتخذ المملكة أحدهم.
الأول: أن تتفق مع الجانب المصري على إيقاف أي إجراءات لتسليم الجزيرتين لحين الفصل في الطعن المنتظر تقديمه أمام المحكمة الإدارية العليا، وذلك حفاظًا على الشكل القانوني للاتفاقية.
الثاني: أن يتم إلغاء الاتفاقية – سواءً الآن أو حال رفض الطعن المقدم أمام الإدارية العليا – وذلك سيكون للحفاظ على علاقتها بمصر كشريك إستراتيجي مهم للمملكة، وربما لحفظ ماء وجه النظام المصري إذا قرر الالتزام بالقانون.
الثالث: حال رفض الجانب السعودي إيقاف أي أعمال لتسليم السيادة أو رفض الطعن المقدم من الحكومة المصرية على الحكم والتزامها به ورفض الجانب السعودي إلغاء الاتفاقية، فليس أمامهم سوى اللجوء للتحكيم الدولي كما فعلت مصر من قبل في قضية طابة، على أن تقرر المحكمة الدولية طبيعة وجنسية الجزيرتين.