تيريزا هلسة: الفدائية التي سكنت رصاصتها كتف نتنياهو
عام 1970 قبضت قوات الاحتلال الإسرائيلي على فردٍ قالت إنه ضمن مجموعة فدائية تُسمى «مجموعة عكا»، بعد القبض قتله الإسرائيليون. لم يكتفِ الجنود بقتله بل تواجدوا عند تشييع جثته ليحرصوا على ألا تراها زوجته وأبناؤه كي لا يشاهدوا آثار التعذيب عليها.
من بعيد تشاهد فتاة جاوزت الخامسة عشرة لتوها ذلك المشهد، فتقرر الانتقام. ربما كان ذلك الحدث مفصليًّا في قرارها لكنه لم يكن الدافع الوحيد. تيريزا هلسة ترى أن للمرأة حق التواجد في صفوف القتال الأمامية جنبًا إلى جنب مع الرجال. وأفضل الصفوف الأمامية في نظرها هى صفوف الفدائيين الذين بدأت عملياتهم تتصاعد ضد الاحتلال منذ بدايات السبعينيات.
تيريزا، أو تيريز كما تحب أن تُنادى، من مواليد مدنية عكا شمال فلسطين. عكا أيضًا هى مسقط رأس أمها ناديا حنا، أما أبوها فأردني جاء إلى فلسطين عام 1946. أنهت تعليمها الثانوي في مدرسة أهلية في عكا، ثم درست التمريض في مدرسة في الناصرة. لكن دورها في تضميد الجرحى لم يكن كافيًا لها، أرادت المزيد.
في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1971 غادرت تيريزا قريتها ووالديها واثنين من إخوتها. خاضت رحلتها سرًّا دون علم أهلها، من عكا إلى الضفة الغربية إلى لبنان. في لبنان دخلت مباشرةً ضمن صفوف حركة فتح، ثم تخصصت أكثر فصارت من أفراد مجموعة «أيلول الأسود». مجموعة «أيلول الأسود» كانت هى الأخرى وافد أردني جديد إلى لبنان بعد مشادات بينها وبين الجيش الأردني.
لقاء الأربعة
بعد أقل من عام من انضمامها كانت تيريزا في الصفوف الأمامية كما أرادت. رابعة أربعة كوَّنوا معًا فريقًا لاختطاف «سابينا 571». أربعة كانوا في الطائرة هم تيريزا هلسة، وريما طنوس، وعلي طه أو سنينة، وزكريا الأطرش. لم يعرف أي من الأربعة الآخر سابقًا، ولم يلتقوا إلا في ليلة تنفيذ العملية. أما الفرد الخامس فلم يكن على الطائرة إلا أنَّه كان المخطط للعملية بأكملها، محمد يوسف النجار.
سابينا هى طائرة بوينج 707 أقلعت من مطار فينسيا على أمل أن تحط رحالها في مطار اللد في «تل أبيب». الطائرة كانت تقل 140 إسرائيليًّا، والهدف من العملية كان مبادلة أسرى في سجون الاحتلال بالرهائن. سافر الأربعة من بيروت إلى روما قبل أيام من موعد الرحلة بجوازات سفر لبنانية، كانت تيريزا تحمل اسم سميرة في هذا الجواز. ثم سافروا بنفس جوازات السفر إلى ألمانيا حيث تم تغيير أوراقهم ومنحهم جوازات سفر إسرائيلية، مريم كان اسم تيريزا هذه المرة.
الطائرة في السماء تقصد مطار اللدّ، بن جوريون الدولي حاليًّا. قام الأربعة كأنهم متوجهين للحمام ثم أشهروا أسلحتهم. توجه علي إلى داخل قُمرة القيادة، ووقف زكريا على باب القُمرة من الخارج. كانت تيريزا في المنتصف وريما عند ذيل الطائرة. أعلن للطياريّن والركاب أن الطائرة قد اختطفت، وبسبب عبريتها تيريزا الجيدة أبلغت هى برج القيادة أن الطائرة تم اختطافها.
أبلغتهم تيريزا أيضًا أن هدف الاختطاف هو تحرير الأسرى من سجون الاحتلال، وانتزاع اعتراف دولي بمنظمة التحرير الفلسطينة. وأضافت أنه إذا لم تتم الاستجابة لتلك المطالب خلال 6 ساعات فسوف يتم تفجير الطائرة.
القيادة خذلت تيريزا
لم يتلق الأربعة أي استجابة من الجانب الإسرائيلي، فقررت تيريزا أن تنفذ وعدها بتفجير الطائرة. كانت هى من ترتدي الحزام الناسف، لكن قيادة العملية أصرت على أن يتم تمديد المهلة لست ساعات أخرى. لم تقتنع تيريزا بالأمر ورأت فيه إضعافًا لموقفهم التفاوضي لكنها رضخت. للمرة الثانية نفدت المهلة دون أن يتلقوا أي رد، فأرسلت تيريزا للقيادة أنها ستشرع في تفجير نفسها. أصدر علي طه، بصفته قائد العملية، قرارًا بسحب الحزام الناسف منها ووضعه في ذيل الطائرة.
وهكذا أصبحت مدة اختطاف الطائرة 24 ساعة كاملة. في تلك الساعات الطويلة نفد الوقود من الطائرة الساكنة في مطار اللدّ، نفاد الوقود يعني توقف المحركات، ما يعني عدم وجود مولدات لضح الأكسجين للموجودين داخل الطائرة المغلقة. كان بإمكان الأربعة الاستفادة من الأكسجين الاحتياطي وحدهم، تاركين الركاب لموتٍ بطيء بالاختناق لكنهم رفضوا. في مجازفة هائلة قرر الأربعة فتح أحد أبواب الطائرة للسماح بدخول الأكسجين للطائرة.
طبقًا لمعاهدة جنيف دارت المفاوضات بين الأربعة والمسئولين الإسرائيليين عبر وساطة من هيئة الصليب الأحمر. إصرار القيادة على منع الأربعة من تفجير الطائرة زاد من ساعات الاختطاف، فأصبح الطعام والماء مطلبًا لا يقل إلحاحًا عن الأكسجين. طالب الأربعة بالسماح بإدخال أطعمة ومياه لهم وللرهائن، وافقت سلطات الاحتلال. كانت موافقتهم فخًّا أدى لفشل العملية.
تخفى جنود فرقة «سييرت متكال»، نخبة الجنود الإسرائليين، في ملابس «الصليب الأحمر» ودخلوا الطائرة لتفقد أحوال الرهائن. كما وقفت سيارة رباعية الدفع بجوار قمرة القيادة معلنة أنها جاءت لهم بالطعام والمياه. فتح علي طه نافذة صغيرة ومد يده ورأسه ليتلقى منهم الطعام والماء، فباغتته رصاصة في رأسه مات فورًا منها.
220 عامًا في السجن
هرعت تيريزا إلى مسدس علي كي تطلق منه على المتفجرات الموجودة في آخر الطائرة فأخرج مرتدو زي الصليب الأحمر أسلحتهم وأغرقوا ذراعها بالرصاص. ردت تيريزا وريما بإطلاق الرصاص قدر استطاعتهما، فأصابت تيريزا كتف أحد الجنود.تبين لاحقًا أن ذلك الجندي سوف يصبح رئيس وزراء إسرائيل حاليًّا، بنيامين نتنياهو. كذلك كان من بين الجنود الذين اقتحموا الطائرة إيهود باراك، أصبح رئيسًا للوزراء أيضًا.
لكن في النهاية قبض الجنود على ريما وتيريزا واقتادوهما للمحاكمة. قبل خروجهما من الطائرة تروي تيريزا أن جنديًا إسرائيليًّا قطع شريان يدها اليسرى بسكين كانت موجودة في بندقيته وتركها تنزف في الطائرة حتى فقدت الوعي. لم تفق تيريزا إلا في مستشفى تل هشومير العسكري بسكب الماء على رأسها، لتغرق بعدها في دوامة من التحقيق والتعذيب.
دخلت العمليات عدة مرات بسبب قيام المُحققين بسحب الخيوط الجراحية من الغُرز الموجودة في معصمها ما أدخلها في غيبوبة عصبية بسبب الألم الشديد مصحوبةً بفقد كميات كبيرة من الدماء. كذلك حُرمت تيريزا طوال فترة التحقيق من الماء، وفي حالة اقترابها من الانهيار الجسدي بسبب الجفاف الشديد كانت تُعطى المغذيات عبر محاليل وريدية لكنها لم تُعطَ الماء طوال فترة التحقيق.
كذلك حاول المحققون إيهامها بالجنون، فكانوا يتركونها عدة ساعات ثم يعودون بملابس مختلفة كأنه يوم جديد. مع اقترابها من حافة التصديق أن عقلها فعلًا قد ذهب، اهتدت لوضع قطعة خبز بجوارها. عندما عادوا لها بملابس جديدة قائلين إن عدة أيام قد مرت منذ زيارتهم الأخيرة، نظرت إلى الخبز فوجدته طازجًا فعلمت كذبهم. حينما كشفت لهم خدعتهم زاد عذابها. ولم يجدوا بُدًا من تقديمها للمحاكمة بعد 4 شهور من العذاب.
في محاكمة صورية لم تستمر طويلًا حصلت ريما على حكم بالمؤبد، أما تيريزا فحصلت وحدها على حكمين بالمؤبد إضافة لأحكام متفرقة بلغ إجماليها 220 عامًا. قضت منها 12 عامًا كاملة في سجون الاحتلال، ثم خرجت في صفقة تبادل أسرى. شرط خروجها ضمن الصفقة كان أن تُنفى للأردن.
دخلت تيريزا الأردن عام 1984 لكنها لم ترَ أهلها إلا في عام 1996 حين وقع الأردن معاهدة سلام مع إسرائيل. وبقيت في الأراضي الأردنية حتى وفاتها في 28 مارس/ آذار 2020 بسبب سرطان الرئة.