فيلم Tenet: هل تكفي الأفكار المعقدة لصناعة فيلم عظيم؟
يرسخ بعض المخرجين أنفسهم في السينما الحديثة كمخرجين مؤلفين auteurs ذوو أسلوبية واضحة وهموم ملحة، وينجح بعضهم في الجمع بين الرؤية الفنية والجماهيرية الجامحة، نعلم أن دارين أرنوفسكي يهتم بالموت وأن بول توماس أندرسون يتعامل مع النرجسية الذكورية وأن ويز أندرسون يراقب سلوك العائلات، نعلم أن كريستوفر نولان لا تغادره فكرة الزمن بل أنها ملحة في أفلامه إلى حد الهوس، لكن يلجأ بعض المخرجين أيضا لخدعة معينة، يكررها بطرق مختلفة وإذا فاق ذلك الحد المقبول يهبط في دوامة يصعب النهوض بعدها، مثال على ذلك هو المخرج الأمريكي الهندي ام نايت شايملان، لمع اسمه بفيلم الحاسة السادسة the sixth sense وأصبح فيلمه من أيقونات الرعب الحديث خصوصا مع قدرته على خلق مفاجئات محكمة.
لكن نجاح تلك المفاجأة لم يكن مضمونا في كل فيلم له حتى خفت نجمه تماما وتورط في مشاريع أقل من قدراته وأصيب بالإحباط من الهجوم المستمر، يبدو أن كريستوفر نولان أصبح تحت سيطرة فكرة هوسية مثل مفاجئات شايملان وهي التلاعب بالزمن حتى أصبحت غاية في حد ذاتها بعيدا عن هدفها أو علاقتها بنسيج أفلامه ككل، نجح نقديا وجماهيريا بسببها في أفلام مثل تذكارmemento وابتداء inception وبين النجوم interstellar وآخر أفلامه دانكرك Dunkirk حيث قام بتحويل فيلم ملحمي حربي لأحجية ضخمة ذات ثلاثة أزمنة متداخلة لكن كانت النتيجة مربكة بعض الشيء كان من الممكن بسهولة أن يعمل الفيلم بشكل مثالي بها أو بدونها، وشى ذلك بتمسكه بفكرة تفكيك طبيعة الزمن أيا كان موضوع فيلمه، حتى وصل عقيدة tenet آخر أفلامه ، فأصبحت تلك الخدع الزمنية هي الهدف والغاية، هي الشكل والمضمون، وكأنها تمارين عقلية مجردة من كل محتوى، أو أن التفكير كله ذهب في اتجاه إتقان تلك المتاهات بدقة ولم يعد هناك مجال للتفكير في أي عناصر سينمائية أخرى.
هوس الضخامة
في فترة ليست بالطويلة بنى كريستوفر نولان شعبية جارفة بين محبي السينما وبين الجمهور العادي، صنع أفلام تخاطب العقل والمشاعر وترتب على نجاحه خاصة بعد إخراجه لرؤيته الخاصة لثلاثية فارس الظلام المبنية على قصص باتمان المصورة تكون جماعات أتباع مهووسون بما يقدمه، برؤيته للخير والشر وطبيعة العالم والانسان وحتى وصل الى طبيعة الزمن والكون نفسه، محبي نولان وأتباعه يملكون طاقة حب وغضب بشكل متوازي، في أحد مقاطع الفيديو على اليوتيوب تسمى اعترافات محب لكريستوفر نولان يراجع الناقد الشاب معتقداته وتعصباته تجاه ما يحب ويذكر جملة أغضبته لأحد النقاد في حق نولان معلقا على فيلمه فارس الظلام ينهض the dark knight rises وهي “هوسه المتزايد بالضخامة” ويسقط ذلك الهوس أو الاتهام بالهوس على مخرج يسبقه وهو الشهير ديفيد لين صاحب أفلام مثل لورنس العرب، أخذت أفلامه تزداد ضخامة وهيبة حتى فقدت طابعها الإنساني، وأصبح الوسيط وسيلة لإظهار فساحة المناظر الطبيعية واستعراض العدسات الواسعة دون جوهر حقيقي أو إضافة يخرج بها المشاهد من التجربة السينمائية بعيدا عن البصريات الغامرة.
أسعفت تلك الضخامة نولان في فيلمه الأخير دانكرك لأنها لعبت دور أساسي في رؤيته للنجاة وطبيعة الحرب، في ضآلة الفرد في مقابل المؤسسات وقوى الطبيعة، لكن في فيلمه الأخير عقيدة أصبحت تلك الضخامة عائق وليست أداة لإيصال المفاهيم ومناقشة الأفكار الأساسية أو حتى وسيلة للإبهار البصري، تاهت كل العناصر الأخرى في مقابلها، ابتلعت الألاعيب الزمنية والأفكار الكبيرة مثل إيقاف حرب عالمية أو نهاية العالم الشخصيات والمشاعر وتركت فرصة فقط للتأمل في ديناميكيتها المجردة فأتت هي أولا والسياق ثانيا.
تبنى فرضية الفيلم الأساسية على هجوم قادم من المستقبل، حرب عالمية ثالثة تعتمد على أسلحة متطورة لديها القدرة على التحرك العكسي، عكس الزمن، وعلى الجيل الحاضر أن يتحرك لمنع الدمار المستقبلي ونهاية العالم، يتقدم المجندين لإنقاذ العالم شخص غير مسمى لكنه يملك القدرة على التضحية والكتمان (جون ديفد واشنطون) يمضي في طريقه للبحث عن مصدر تلك الطلقات المعادية للزمن ويقابل أحد الزملاء نيل (روبرت باتنسون) ويكملان الرحلة سويا مكتشفين أن وراء كل شيء شرير مطلق يمكنه إنهاء الحياة كما نعرفها بضغطة زر، يتكون الفيلم من تتابعات حركة مبهرة تعتمد على التضاد بين الحركة الطبيعية والحركة العكسية للزمن تتخللها مشاهد حوار قصيرة لشرح الأفكار التي يتبناها الفيلم لتفسير التحرك في الزمن قدما وخلفا.
من هؤلاء
دائما ما يعاب على سيناريوهات نولان المباشرة أو الخطابية لم يسلم آخر أفلامه من ذلك أيضا، طيلة الفيلم لا نملك فكرة عن دوافع أي من البطل protagonist أو الشرير antagonist لكن في مشهد واحد ودون مبرر واضح يتم تبرير الدوافع وتبادل الاتهامات حواريا، يتهم الشرير البطل بأنه مهووس لا يملك عقيدة أو قضية، يرجع ذلك المشهد للذاكرة مشهد مونولوج في فيلم interstellar تشرح فيه شخصية آن هاثواي رسالة الفيلم الأساسية، يرسخ ذلك لطبيعة الشخصيات في الفيلم، رجال دون أبعاد، أخيار وأشرار، وامرأة ذات غريزة أمومية تحتكر المشاعر الانسانية الوحيدة التي يختبرها أيا من الأبطال.
لا يوجد ما يجعل المشاهد يتمنى أن ينجح البطل في مهمته أو ما يجعله يمتلك مشاعر سلبية أو إيجابية تجاه الشرير، جزء كبير من نجاح أفلام نولان رغم تعقيدات حبكاتها وضخامة موضوعاتها هي بساطة دوافع شخصياتها الخيرة وتعقيد دوافع شخصياتها الشريرة، يعتبر نولان أحد أفضل من صنع شخصيات شريرة في العقد الفائت حينما أتيحت له الفرصة لصنع نسخته الخاصة للأبطال الخارقين، صنع أشرارا قادرين على التدمير دون رحمة لكن يمكن فهم دوافعهم وتعقيداتهم الداخلية مثل شخصية الجوكر في فارس الظلام أو حتى شخصية بين في فارس الظلام ينهض، كما أن أبطاله الأخيار يتسمون بنزعة مركبة anti-heroes حيث تلتبس قيمهم ويغلف الضباب مبادئهم العليا،، لكنه يلجأ فيtenet إلى شخصية شريرvillain نوعية generic لا تملك بعد آخر فهي شخصية نمطية لرجل روسي الجنسية (كينيث برانا) ذو لكنة أجنبية ركيكة ودوافع غامضة وعنف لانهائي أو مبرر كعادة أفلام الحركة الهوليوودية التي تختزل الخير والشر في ثنائيات يكون طرفها الآخر عدو تقليدي مثل روسيا، والبطل لا يملك أبعاد من الأساس يسمى ببساطة وتجهيل البطل the protagonist، يمكن النظر لفكرة تسميته بالبطل كتعليق على طبيعة ذلك النوع من الأفلام التي تختار فرد عادي لا يملك مميزات خاصة في مهمة كبرى مثل إنقاذ العالم أو لطبيعة دوره داخل الأحداث ففي النهاية نستمع له يقر بأنه ورغم شكوكه السابقة هو فعلا البطل وأنه أيا كانت البطولة التي قام بها فإن الناس يهتمون بما حدث ليس بما كان من الممكن أن يحدث فمن الممكن تفسير تجهيله على أنه مرتبط بطبيعة دوره في العمليات كشخص متخفي ينقذ العالم قبل أن يعي العالم نفسه أنه هناك خطر يداهمه لكن حتى ان كان ذلك تحليل ملائم أو مغالاة في التحليل فإن اختيار جعل الشخصية الرئيسية بتلك المجهولية صنع مسافة واغتراب بينه وبين المتلقي.
هل يجب أن ننقذ العالم
ما جعل inception فيلم ناجح صامد وليس مجرد ظاهرة في شباك التذاكر هو أنه لم يكن يحاول أن ينقذ العالم بل لجأ الى تكثيف الدوافع، لا يريد أحد انقاذ العالم ولا يريد أحد تدميره بل ومثل قصة الفيلم التي تتناول طبيعة الأفكار والعقل الباطن يتم زرع فكرة بسيطة في عقولنا، أب يرغب في رؤية أبناؤه ربما لمرة أخيرة، يسعى للتخلص من عبء الذنب والتسامح مع ماضيه، بناء على ذلك الدافع البسيط يمكن بناء عالم معقد غني بالألغاز والعوالم المتداخلة.
في tenet يتم إقحام فرضية كبيرة عن نهاية العالم، وصبها بأكملها في شخصية واحدة ، عن طريق تبني ثنائية الروسي ضد الأمريكي في إطار سياسي غير مكتمل دون سياق حقيقي، هدفه هو تضخيم حجم العملية حتى أن العلاقة الرومانسية المفترضة في محاولة لإعادة تأثير inception أو interstellar العاطفية في فكرة الحب والعائلة تبدو مقحمة وغير مبررة من الطرفين، يبدو الفيلم نتاج لبعض الأفكار الملحة لدى نولان ومزيج بين ما فعله من قبل وما يريد أن ينفذه في المستقبل لكن ذلك لا يجعل من أي مشهد لقطة أيقونية تعيش في الذاكرة سواء صوتيا أو بصريا أو دراميا، استعان نولان بالمؤلف الموسيقي لودفيج جورانسون الفائز بالأوسكار عن فيلم black panther لكنه لم يخرج منه طاقاته الحقيقية بل جعله يعيد خلق نسخة باهتة من تعاوناته مع هانز زيمر فأصبحت المشاهد تبدو مثل أفلام نولان وكأن الهدف الرئيسي هو صنع تلك الوصفة من آلات النفخ الزاعقة وتصميم الحركة المبتكر والمبهر دون جوهر حقيقي.
هذا لا يعني أنه ليس من الممكن أن تتعامل أفلام الحركة مع أفكار مثل نهاية العالم ووجود بطل واحد منقذ لكن على الأقل يحدث ذلك عن طريق بناء سياق واعي سياسيا أو حتى خلق حقيقة موازية على غرار Avengers: endgame ، لكنه السياق أصبح في النهاية مجرد اجترار لمئات الأفلام التي يهزم فيها البطل الأمريكي الشرير الروسي المتعجرف الذي يقضي أيامه يهرب السلاح ويحتسي الفودكا مغلف ذلك بالأفكار العلمية الكبيرة والبصريات المبهرة التي ولفترة قصيرة تستحوذ على المشاهد لكن سرعان ما يتلاشى تأثيرها.
التلاعب كغاية
يمكن التعامل مع tenet كفيلم حركة ممتع ومجدد اذا لم يحاول أن يتخطى هو ذلك بزرع بذور لقضايا كبرى دون إكمالها أو استكشافها بأي جدية، اذا وجدت ببساطة روابط إنسانية بدائية تجعلنا نتعاطف مع أبطال لا نعلم عنهم شيئا، يترك الفيلم رأسنا مزدحم بالأفكار وخاويا في اللحظة ذاتها فعلى جانب يمكن محاولة استخراج وتحليل أفكار حقيقية وراء بناء الفيلم وأفكاره وأهداف ودوافع شخصياته، وعلى الجانب الآخر يمكن تجنيب تلك المحاولات والاكتفاء بتقدير جودة مشاهد الحركة والانفجارات الكبرى، لكنها ومع كل تكرار تصيح أكثر عادية وألفة وتفقد خطورتها وأصالتها وتصبح أشبه بتمرين عقلي وتحدي في توقع كل مرة يصطدم الماضي بالحاضر بالمستقبل.
يعزز من اغتراب شكل الفيلم عن مضمونه أن حتى تسمية الفيلم أو الإشارة التي تمثل العقيدة لا تملك دور حقيقي، تيمة العقيدة نفسها عائمة وغير محورية تظهر فقط كاتهام للبطل من الشرير بشكل عابر، لفظة عقيدة بالإنجليزية tenet هي تكملة للخيارات الجمالية المتعلقة بسير الزمن للأمام والخلف فهي تنطق بالكيفية نفسها من اليمين واليسار فتصبح هي الأخرى قطعة من أحجية كبيرة تجعل التلاعب والتجربة غاية تسمو على أي عناصر سينمائية أو فنية أخرى.