رواية «عشرُ نساء»: في حضرة الحكايا
ماذا يحدث إذا ما اجتمعت عشر نساء في مكان واحد، لا تجمعهن صلة قرابة أو صداقة، كل ما يجمع بينهن هو كونهن نساءً يحتجن إلى الكلام، إلى تفريغ المعاناة في صورة ذبذبات صوتية نابعة من القلب مباشرة؟
المرأة مجبولة على القص وحب الحكايا، تعطي التفاصيل اهتماماً خاصاً، اللون والصوت والضوء، كلها عناصر تأخذ في قصتها مكاناً معتبراً، ولا يمكن أن تمر مرور الكرام، في أحاديثهن العادية والسرد اليومي.
لا تغفل إحداهن تفصيلة، لأن كل العناصر مهمة حتى تصل إلى جوهر حكايتها، وحتى تنقل للمستمع ما يدور في عقلها بدقة وصدق. لا عجب في أن شهرزاد (أيقونة الحكي) كانت امرأة، حيث إنه لا يمكن أن تنقلب الأدوار ويصبح شهريار هو الحكَّاء في الأسطورة، ليس لأن شهريار ذو طبيعة دموية لا تقدر على خلق هذا الكم من القصص ونسج كل هذا الخيال، ولكن لأنه سوف ينهي قصته في ليلة أو اثنتين، في أفضل الأحوال عشر ليالٍ، لن تكون ألف ليلة من الخيال العربي الأسطوري الخصب، وحدها شهرزاد قادرة على ذلك، ووحدها المرأة سيدة الحكاية.
ربما تنال النساء دوماً وصمة أنهن ثرثارات، ولكن هي الطبيعة، الجدة التي تحكي لأحفادها ما مر من عصر غابر لتنقل لهم تجارب يستحيل عليهم أن يعيشوها، لاستحالة الرجوع بالزمن، ولكنها خبرات حتمية للاستفادة مما كان، لولا تلك الثرثرة اللذيذة لما تكوَّنت حلقة الوصل بين الأجيال، مُطعَّمة بالحب ومُشبَّعة بالعاطفة الصادقة.
ألف ليلة من الحكايا في حالة شهرزاد، وعمر مديد من الرثاء والحكايات المنظومة على شكل قصائد في حالة الخنساء، وحده قلب المرأة هو القادر على تجديد الحزن بشكل تلقائي، ولذا وُصمت في المجتمعات العربية على وجه التحديد بالكآبة والنكد عِوضاً عن الرقة ورهافة الحس.
ذاكرة المرأة هي عدوها الأول، فهي لا تتخلى عن الذكريات بسهولة، ولا أفضلية لديها لتلك السعيدة على سواها، ربما كان العكس هو ما يحدث، تتشبث المرأة بتفاصيل حياتها ولا تتخلى عنها إلا رغماً عنها، وإذا خانتها ذاكرتها لأسباب مرضية، فالأنثى هي الذاكرة.
تنوع الحكايات والسياقات
تستند رواية «عشر نساء» لمارثيلا سيرانو، على السرد الفردي. كل امرأة تحكي قصتها في جلسة للعلاج النفسي الجماعي. الطبيبة في هذه القصة اعتمدت على أن تفتح عشر نوافذ دفعة واحدة ليتدفق من كل منها هواء ذو رائحة وطبيعة مختلفة عن القادم من النافذة الأخرى. أحدثت مارثيلا سيرانو عاصفة من الهواء المنعش أحياناً، وذو حرارة لافحة للوجوه أحياناً، وذو رائحة مثقلة بالفقر والعوز، قادم من المساكن المتواضعة التي لا يتجدد فيها الهواء، في أحيان أخرى.
جاءت كل امرأة من خلفية ثقافية واقتصادية واجتماعية مختلفة عن الأخريات، بعضهن جئن بمعونة للعلاج من خلال التأمين الصحي المجاني، وبعضهن لديهن من المال، ما يجعل آخر ما يفكرن فيه هو توفير ثمن العلاج وأجر الطبيب.
النظر عبر النوافذ الأخرى ربما فتح آفاقاً جديدة أمام كل واحدة منهن، ربما تنفست إحداهن الصعداء بعد أن سمعت حكاية رفيقتها في الجلسة لأنها لا تعيش حياتها، وربما استخفت أخرى بمحنة الجالسة بجانبها لأنها لا تعرف سوى مشاكل الأغنياء والتقلبات المزاجية للمترفين.
اختلاف الأعمار أيضاً كان نقطة قوة في هذه الرواية، ماذا يمكن أن يحدث لو اجتمعت امرأة جاوزت السبعين مع أخرى في العشرين وثالثة في الأربعين وهكذا. ربما عادت العجوز بالزمن وتذكرت ما كان، وربما اختلست الشابة نظرة على مستقبل يمكن أن يتشابه مع ذلك الذي تعيشه المرأة الخمسينية أو الستينية الجالسة بجانبها.
مقابلات خيالية من قلب الواقع
لا أعرف ما إذا كان تصنيف الأدب على أنه نسائي هو أمر صحيح أم لا، ولا أقصد هنا نوع الكاتب، ولكن نوع القارئ، أو القاعدة الجماهيرية التي تنحاز لهذا الأدب أو ذاك، متى ينحاز عدد أكبر من النسوة لعمل أدبي ويحقق مقروئية أعلى لديهن؟ ومتى يحدث العكس؟ لا أعرف الإجابة، ولكن طرح السؤال ضروري في هذا السياق.
فإذا نظرنا إلى رواية «عشر نساء»، فسنجد أن جميع القصص بطلاتها من النساء، والدور الثاني يُسنَد للرجل أو الأطفال أو الأهل، وإننا والحال هذه سوف نجد أن شعور المرأة بعمل كهذا سوف يكون كبيراً ودقيقاً. سوف تجد كل امرأة تقرأ هذا العمل نفسها في سطر أو أكثر، أو ستجد نفسها بين السطور، لا بتطابق قصتها مع القصة التي تقرؤها، ولكن بتشابه الإحساس وردود الأفعال مع المواقف المشابهة في الحياة الواقعية.
اختارت الكاتبة أسلوباً في الكتابة ملائماً تماماً لما أرادت الحديث عنه، فقد كتبت رواية في قالب مجموعة قصصية، أو مجموعة قصصية في إطار روائي، وهو ما جعل القارئ مجذوباً حتى النهاية بلا ملل، وهو ما يؤكد أن الأدب ليس له قانون أوحد، فالكتابة الجيدة هي سيدة الموقف مهما كان القالب الذي تتشكل فيه.
كان التنوع هو الأساس، فنجد على سبيل المثال من اختبرت الفقد مثل «لويسا»، التي أُخذ زوجها في فجر أحد أيام الحرب، فُقد، ساقوه مثل خروف ولم تعلم ماذا حدث له بعد ذلك. تجرَّعت ألم الفقد الذي يقبع على حافة الألم المميت، لأنه مُكلَّل بانتظار لا يعلم أحد متى سينتهي. تقول «لويسا» إن ألم الموت أخف وطأة من ألم الاختفاء. هو درس حياتها الذي تعلمته بنفسها دون أن يُلقِّنه لها أحد أو تقرأ عنه في كتاب. الموت سيف بتَّار يقطع بلا تردد، يقتنص ولا ينظر خلفه، ولكن الاختفاء سكين غير مسنون، يقطع على مهل ويُحدِث شقاً في الروح يتحول مع الوقت إلى أخدود، إلى صدع لا يمكن رأبه.
أمَّا «آنا روسا»، فقد كانت سيئة النشأة، مارست معها أمها كل وسائل الهدم، كانت كلمات الأم دوماً معولاً ينال من ثقتها بنفسها، علَّمتها أن تحترم الجميع وألا تلقي بالاً لنفسها، حتى أصبحت تثق في كل شيء عدا نفسها وإحساسها ورغباتها. كان حالها أسوأ من «فرانثيسكا» التي كان حضور أمها شكلياً في حياتها، أثَّرت فيها بالسلب لأنها اختارت الغياب، في بادئ الأمر كان وجودها مادياً فقط، ثم اختفت نهائياً واختارت مصيراً لا تكون فيه أماً ولا زوجة، هكذا بمنتهى اللامبالاة تخلَّت عمَّا اختارته بمحض إرادتها. بدأت «فرانثيسكا» حكايتها بجملة «أكره أمي، أو إنني أكره نفسي». لم تستطع أن تتنصل من حقيقة أنها ابنة تلك السيدة، كراهيتها لها جعلها تكره نفسها، لا يمكن لإنسان أن يتنصل من رحم أتى به إلى الحياة.
اختارت «آنا» ألا تنجب وألا تكون بدروها سبباً في مأساة أشخاص آخرين، واختارت «فرانثيسكا» أن تصنع لنفسها تجربة من الأمومة المغايرة تماماً لما عاشته حين كانت في موقع الابنة، اختارت أن تكون الأم التي تمنَّتها لنفسها في السابق، ويا له من تحدٍّ، أن تنتصر إحدانا على النموذج الذي عايشته وأن تتقيأ – دفعة واحدة – الألم الذي تجرعته، أن تطمس نقشاً حُفر في على جدران وجدانها وتجذَّر في عقلها الواعي والباطن على حد سواء.