كيف نتصالح مع وقتية الأشياء وفناء العالم؟
لو قلت لك عزيزي القارئ إن الفيلم الذي سوف يُعرَض على شاشة التلفاز خلال الساعتين المقبلتين، لن يُعرض مجددًا أبدًا، وسيكون من المستحيل الاحتفاظ بنسخة منه أو أي دليل على وجوده سوى في ذاكرة من يراه فقط. هل سيجعلك ذلك أكثر حرصًا على مشاهدة الفيلم أم أكثر زهدًا عنه؟
والحقيقة فذلك الفيلم هو الحياة ذاتها، فنحن لا نملك حقائق مؤكدة بالتجربة عن الحياة إلا كونها مؤقتة. فلا نعرف بالدليل ماذا يحدث بعد الموت، ولا نتذكر من أين جئنا قبل أن نُولد، فكل هذه غيبيات تفترضها الأديان والفلسفات، يؤمن بها البعض وينكرها البعض الآخر، أمّا الحقيقة الوحيدة التي لا ينكرها أحد والتي يُدلِّل عليها أكثر من برهان، هي أن الحياة تنتهي، عاجلًا أو آجلًا، تنتهي ليصبح كل شيء فيها مؤقتًا.
فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يعرف أنه سيموت، الكائن الوحيد المُدرِك فناءه وزواله. ليس فقط وجوده بذاته، لكن كل الموجودات، فمهما صوّر لنا ازدهار البدايات وزيّنها في عيوننا، فيأتي وقت ينتهي فيه ما ظنناه دائمًا، ويفنى ما حسبناه من طول الأجل لن يفنى أبدًا.
الفناء ضد العيش
ومع أن الحياة لو شبّهناها بالفيلم الذي لن يتكرر مجددًا، تغدو أكثر تشويقًا وتجعل المرء حريصًا على إدراكها. إلّا أن الأديان عندما حاولت أن تقنع مريديها بذم الدنيا والزهد عنها، استندت بشكل أساسي على حقيقة فناء الأشياء وكونها مؤقتة، فأمرت مُريديها أن يُنزِّهوا أنفسهم عن نواقص العيش، ويتعلّقوا بما هو دائم (النعيم الأخروي)، فيقول علي بن أبي طالب في «نهج البلاغة»:
ويقول المولى عزّ وجلّ في كتابه الكريم:
وتستند على نفس المبدأ الفلسفةُ الرواقية، فنرى أحد كبار روّادها الإمبراطور «ماركوس أوريليوس» يُتفِّه من قيمة العيش ويقول في كتابه «التأملات»:
للوهلة الأولى، لو أسقطنا تلك الفلسفة على الفيلم الذي لن يُعرَض مُجددًا أبدًا، فستنصحنا بعدم قيمة الفيلم وعبثية إنفاق الوقت واستهلاك المشاعر في فيلم مؤقت سينتهي قريبًا ويصبح هباءً منثورًا، فإذا تزامن عرض الفيلم مع شيء آخر له قيمة أُخروية، فسيكون للشيء الآخر الأولوية.
وقتية الأشياء هي مصدر قيمتها
بالرغم من منطقية تلك النظرة، إلا أن هناك من الفلاسفة منْ قرر النظر لها من زاوية معاكسة، بمنظار يرى الفناء هو أصل الحياة، فالموت هو مصير كل الأحياء وهو الباعث الأساسي للحياة، ولذلك لا يجب أن يردعنا عن العيش بل العكس، يجب أن يدفعنا للعيش بأقصى إمكانياتنا والتمتع بكل ما هو زائل قبل فوات الأوان. فالفيلم الذي لن يُعرض مجددًا لا يجب الزهد عنه، بل يجب التركيز فيه بكل قوانا حتى لا يفوتنا منه شيء، فما يفوت لا يمكن تعويضه.
وتلك النظرة تُشبِّه الحياةَ بثلاجة مليئة بالطعام الشره والمأكل اللذيذ، لكن كل هذه الأطعمة ستنتهي صلاحية استخدامها بعد أسبوع. أليس من العقل أن يأكل منها المرء كل ما لذ وطاب قبل أن يفوت الأوان ويفسد الطعام؟
وذلك هو المبدأ الذي قامت عليه الفلسفة الإبيقورية، التي تقول إن اللذة هي الغرض من الحياة، والركض وراء اللذة المؤقتة هو كل ما يجب على الإنسان فعله لكي يفوز بالسعادة، فاللذة هي الخير المطلق، وعلى كل حكيم أن يتحلى بها.
يقصد «إبيقور» فيما معناه أن كون الفيلم مؤقتًا، يحثّنا على مشاهدته لا الزهد عنه، بل أكثر من ذلك، يدّعي أن الزاهد عن الأشياء المؤقتة هو أكثر البشر حماقة، لأنه يترك الخير الذي بيده من أجل غدٍ غير مضمون.
بطلان الأشياء الموقتة ولعنة سليمان
لو تتبعنا نصيحة «إبيقور» وبحثنا في التاريخ عن امرئ خاض الحياة خوض الجائع الذي لا يشبع أبدًا، لوجدنا مصيرًا يُشابه مصير النبي سليمان في الكتاب المقدس.
فنرى في سُفُر العهد القديم، النبي سليمان وهو يائس من كثرة الركض خلف الأشياء المؤقتة والملذات الفانية، فبعد أن طاف على زوجاته، وبنى الجنات، وشيّد القصور، وسُخِّرت له الريح والطير، وخدمه الإنس والجان، يقول مُتحسرًا في لحظة عدمية خالصة:
وقد ناقشنا كون الأشياء المؤقتة باطلة أم حقيقية في مقالٍ سابق، إلّا أن النبي سليمان أستند في أطروحته على أن الإنسان نفسه باطل، بينما لم يقترح البديل، لم يقترح المسعى المناسب والدواء الشافي الذي نواجه به داء بطلان كل شيء.
قد يدّعي الإبيقوريون أن لعنة سليمان تصب في منهجهم، فإذا كان كل شيء باطلًا فلا يوجد غير اللذة تبرر هذا الوجود الباطل وتعطيه بعض القيمة، لتكون الأرض الثابتة لصاحبها بين تقلبات الدهر وتغير الأحوال، فلو كان مصير الكل هو الزوال فعلى الأقل يكون المرء قد ظفر من حياته القصيرة الفانية ببعض اللذة التي هوّنت أيامه والمتعة التي سرت فؤاده.
كان ذلك لينفع لولا ظهور التشاؤميين Cynicism، التي تُلقَّب فلسفتهم بـ «الفلسفة الكلبية»، والذين فجروا المفاجأة قائلين إن اللذة الخالصة مستحيلة، فيقول شوبنهاور في كتابه «فن العيش الحكيم»:
قد تُشبه تلك الفلسفة نظرة الآية الكريمة:
والتي لا تعني فقط النهي عن الفرح بعمق والحزن بعمق على أشياء مؤقتة لا تدوم، لكنها أيضاً تعني أحيانًا أن نفرح كما نريد دون أن ننسى أن الفرح ذاته مؤقت، وأن نحزن كما نريد دون أن ننسى أن الحزن ذاته مؤقت. فوقتية الأشياء لا تمنعنا من تقديرها، لكن تذكُرّها يحمينا من الانغماس بها أكثر من اللازم حتى لا يُخال لنا دوامها فتكون الغفلة والندامة.
تصالح الإنسان مع وقتية الأشياء
ومن هنا نعود إلى النظرة التي بدأنا بها المقال، وقد يبدو أنها نظرة متشائمة أكثر من شوبنهاور نفسه، فهي تتقبل مأساة كون كل الأشياء مؤقتة بالزهد عنها، والزهد لا يعني الانصراف عنها بل الاعتدال في الانغماس بها. ومن الممكن اعتبار تلك النظرة رد فعل طبيعي لعجز الإنسان عن مقاومة الزمن وإبطال تأثيره، لكن الفيلسوف الفرنسي «ألبير كامو» كان له رأي آخر.
يقول كامو في «مذكراته» إننا بالرغم من أمنياتنا المستحيلة بدوام الحال وسخطنا اللا متناهي على تغير الزمان، إلّا أننا لا نريد حقًا للأشياء أن تدوم، لأن التعوّد والأُلفة سوف يُفسدان الأشياء إذا دامت، فبدلًا من الزهد عنها لن يجد الإنسان أمامه خيارًا سوى الملل والضجر من التكرار وسلطة التعود المتوحشة التي يمكنها أن تبخس أكثر الأشياء قيمة وتُلقي بنا إلى الهلاك.
وفي ذلك يرى كامو تصالح الإنسان مع وقتية الزمان وقبوله، ليس فقط لأنه شيء لابد منه، بل أيضاً لأنه عامل مساعد كفلته الطبيعة لإصلاح كفة العالم وإرساء التوازن خوفًا على الإنسان من نفسه.
ليقول الشاعر الفارسي في لحظة خالصة من التصالح مع وقتية الأشياء تلخيصًا لحكمة كامو في العيش: