قصة التلغراف: عندما أنقذتنا شفرة مورس
لعلكم تتذكرون هذا المشهد
إذا ذهبنا لعوالم موازية، عوالِم داخل الأبعاد الكونية التي لا نعرف عنها شيئًا؛ فربما لن تنقذنا سوى شفرة مورس. بالطبع تحتوي الجملة التي قرأتها للتو على شقين.. الشق الأول خيال علمي – حتى الآن – والشق الآخر حقيقة تامة، وهو الشق الذي يخبرنا أن شفرة مورس أنقذتنا نحن البشرية في الماضي والحاضر بشكلٍ أو بآخر.
بدأت القصة عندما حل صاحبها «صموئيل مورس – Samuel Morse» ضيفًا على العالم، والذي تحل علينا ذكرى ميلاده اليوم 27 أبريل/ نيسان 1791. ساهمت الشفرة بعد وجودها وفهم كيفية تبادلها، في تسهيل اتصال البشر بعضهم بالبعض، وإنقاذ حياتهم بصور متعددة.
من قلب تشارلستون
بالعودة بالزمن إلى منزل صموئيل الذي يعرفه التاريخ بأنه رسّام مبدع ومخترع عظيم. ولد صموئيل في تشارلستون في ولاية ماساتشوستس. والده هو الجغرافي البارز ورجل الدين «جديديا مورس – Jedidiah Morse»، ووالدته «إليزابيث آن مورس». التحق صموئيل بأكاديمية فيليبس في أندوفر في الولاية، لكن طباعه كطالب «غير مستقر وغريب الأطوار» دفعت والديه إلى أن أرسلاه إلى كلية ييل (جامعة ييل حاليًا) في نيو هافن، كونيتيكت لدراسة الفلسفة والرياضيات.
على الرغم من أنه كان غير مبالٍ بالجامعة أو الدراسة ككل، إلا أن محاضرات حول الكهرباء كانت تثير اهتمامه. كان شغفه منصبًا على الفنون، فتحول لدراستها في الجامعة، ثم دخلت العائلة في حالة شبه إفلاس وقلة المال، مما اضطره لبدء مشروعه الصغير في رسم لوحات صغيرة وبيعها.
تخرج من جامعة ييل عام 1810، وأصبح محررًا للكتب في مطبعة بوسطن. وبجانب عمله هذا، كان الرسم اهتمامه الرئيسي. ففي عام 1811، ساعده والداه على الذهاب إلى إنجلترا لدراسة فن الرسم مع الرسام الأمريكي «واشنطن ألستون – Washington Allston». أعجب مورس باللمسات والمعايير الفنية الإنجليزية للرسومات مثل الأسلوب التاريخي للرسم، وهو التصوير الرومانسي للأساطير والأحداث التاريخية، وربطها بشخصيات تبرز في المقدمة في أحجام كبيرة وألوان رائعة.
عاد مورس إلى أمريكا عام 1815، وأقام أستوديو خاصًا للرسم في ولاية ماساتشوستس، ثم انتقل إلى مدينة نيويورك عام 1823 واستقر فيها. أهم لوحاته المعروفة (التي يمكنك رؤيتها كاملة هنا) هي لوحته التي رسمها عام 1825، لـ «ماركس دي لافاييت – Marquis de Lafayette»، وهو جنرال فرنسي خدم مع «جورج واشنطن» أثناء الثورة الأمريكية.
لم يخدم الجنرال الفرنسي الآخرين أثناء حياته فحسب، بل خدم بعد مماته أيضًا حين ساعد الناس في اكتشاف موهبة مورس الفنية من خلال جمال تفاصيل رسمته، ليصبح مورس بسبب هذه اللوحة أول رئيس للأكاديمية الوطنية للتصميم عام 1826، وهي المنظمة التي كانت تهدف لتسويق الفنانين والرسامين، ومساعدتهم على رسم لوحات تتناسب مع الذوق الذي يفضله الجمهور.
توفيت زوجة مورس «لوكريتيا بيكرينج والكر – Lucretia Pickering Walker» عام 1825 في ولادة طفلهما الثالث في كونيتيكت حين كان هو في العاصمة، ولم يعرف بخبر وفاتها إلا بعد وصول خطاب والده الذي يحمل معه مأساته، وحين وصل مورس إلى المنزل، كانت العائلة قد دفنت رفيقته، ومضى على ذلك قرابة يومين.
بعدها أصبح الموت زائرًا ثقيل الظل في منزله، فتوفي والده عام 1826، لحقته زوجته (والدة مورس) عام 1828، وبذلك تكون قد كسرت القشة التي كان يتعلق بها مورس وسط كومة الألم نتيجة فقدانه زوجته ووالده، فليس بعد فقدان هؤلاء الثلاثة، خاصة الأم، شيء يبث الأمل للحياة مرة أخرى.
أصبح المنزل موحشًا، ولم يعد هناك من مبرر لبقائه، فالجميع قد رحل! لذا أتى قرار المغادرة إلى أوروبا بشكلٍ قاطع في السنة التالية. غادر مورس علّه يجد في مياه المحيط الأطلسي متسعًا لأحزانه، أو ليجد الخلاص بأي وسيلة من حجم ذلك الألم الذي عصف به على مدى ثلاثة أعوامٍ متتالية.
رحلات الأطلسي الملهمة: ميلاد التلغراف
العنصر الأساسي في التلغراف هو الكهرباء والمجال المغناطيسي. ولولاهما لما كانت هناك من فكرة نهائيًا للتلغراف. في أوائل القرن التاسع عشر كان لتطورين مهمين في مجال الكهرباء الفضل في إنتاج التلغراف الكهربائي بشكلٍ أساسي.
ففي العام 1800، اخترع الفيزيائي الإيطالي «أليساندرو فولتا – Alessandro Volta» البطارية التي تخزن التيار الكهربائي، وسمحت باستخدام التيار في بيئة مغلقة. أيضًا في العام 1820، أظهر الفيزيائي الدنماركي «هانز كريستيان أورستد – Hans Christian Oersted» طبيعة العلاقة بين الكهرباء والمغناطيسية عن طريق تحريف إبرة مغناطيسية بواسطة تيار كهربائي.
بدأ العلماء في جميع أنحاء العالم بتجربة البطاريات، وتطبيق مبادئ الكهرومغناطيسية لتطوير نوع ما لنظام اتصالات. وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر، في الفترة بين عامي 1830-1840، طوّر مورس جهازًا يعمل على نقل المعلومات عبر مسافاتٍ بعيدة، وأحدث هذا الجهاز ثورة في مجال الاتصالات البعيدة. وكانت البداية على سطح سفينة.
نبدأ الرحلة معه في العام 1832، حين كان مورس في طريق العودة إلى الولايات المتحدة مجددًا. في رحلة من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية على متن سفينة تعبر الأطلسي آنذاك، يعني أن لديك وقتًا، والمزيد من الوقت لاحتساء فناجين قهوة، ومناقشة أي موضوع مع أي صديق تعثر عليه، حتى لو كانت الكهرومغناطيسية هي ضيفة الشرف في هذا الحديث.
وفي المعظم – إن لم يكن دائمًا – نلتقي بمن يشبهوننا ولو في شيءٍ بسيط جدًا. على متن رحلة عودته،التقى مورس بطبيب غريب الأطوار محبًا للابتكارات مثله يدعى «تشارلز توماس جاكسون»، ناقش معه الكهرومغناطيسية. وتلقى مورس المفاجأة من هذا الغريب بأن الإشارات الكهربائية يمكن أن تُحمل وتعبر من خلال سلك معدني.
حينها فكر مورس بأنه إذا كان الأمر كذلك، يمكننا إذن تحديد موضع وجود الكهرباء في أي جزء من الدائرة الكهربائية، ولا يوجد سبب لعدم إرسال أي شيء عن طريق الكهرباء إلى أي مسافة. وعلى الفور رسم بعض الرسومات الأولية لجهاز يمكن أن يحقق هذا الغرض: إرسال النبضات الكهربائية إلى أماكن متفرقة بواسطة الأسلاك.
أوضحت رسوماته على سطح السفينة عام 1832 بوضوح الأجزاء الثلاثة الرئيسية من التلغراف: جهاز الإرسال، طريقة فتح وغلق الدائرة الكهربائية، وجهاز استقبال يستخدم مغناطيس كهربائي لتسجيل الإشارة. طور مورس الجهاز لتنتقل فيه المعلومات في هيئة نبضات (إشارات) كهربائية، تنتقل بين محطات مختلفة عرفت بـ«خطوط التلغراف».
صُنع التلغراف، وسرَت اللسعات (النبضات) الكهربائية عبر الخطوط، لكن كيف نفهم ما يقوله الكائن على الجانب الآخر من خلال لسعات كهربائية متتالية فحسب؟
كان هذا السؤال، وكان لابد من إيجاد حل له. حاول مورس التفكير في شيءٍ ما يستطيع به الناس تمييز النبضات الكهربائية (المعلومات) التي يستقبلونها على هذا التلغراف ويفهمونها. فكانت مجموعة «النّقاط والشرَطَات»، هي وليدة أفكار مورس الذهبية لحل هذه المشكلة. وبالطبع لم يكن هناك مجال للتفكير مليًا في ماذا سيصبح اسمها، حيث أطلق عليها اسم «شفرة مورس – Morse Code».
جهاز إرسال التلغراف، مرفق بدليل الشفرة الذي يوضح كيف تترجم الحروف والأرقام إلى نبضات (نقرات).
تتكون الشفرة من مجموعة من النقاط والشرطات لكل حرف من الأبجدية الإنجليزية والأرقام أيضًا، والتي سمحت بنقل الرسائل المعقدة عبر خطوط التلغراف. بحلول يناير/ كانون الثاني 1836، كان لدى مورس نموذج عمل للجهاز، فعرضه على الفيزيائي الأمريكي «جوزيف هنري». ونتيجة لذلك، تمكن مورس من تحسين كفاءة جهازه بشكلٍ كبير.
في العام 1844،أرسل مورس أول رسالة تلغراف من العاصمة واشنطن إلى بالتيمور في ولاية ماريلاند. وبحلول عام 1866، تم وضع خط تلغراف عبر المحيط الأطلسي من الولايات المتحدة إلى أوروبا، وتبادل الرئيس «بوكانان» والملكة فيكتوريا الرسائل عام 1858، كتبت صحيفة «تايمز أوف لندن – Times of London» آنذاك:
نَقْرات أنقذت حياة
لن نتحدث الآن عن عوالم في المستقبل، أو ما وراء المستقبل في أكوانٍ موازية، ولا حتى حاضرنا؛ بل سنعود إلى القرن الماضي لنلقي نظرة من شُباك الأرشيف البشري على المواقف التي أنقذتنا فيها شفرة مورس. أو بمعنى آخر، ما الدور الذي لعبته شفرة مورس في حياة الأجداد؟
الاتصالات العسكرية
كانت حرب القِرم التي خاضها البريطانيون عام 1854، أول ميدان معركة تم فيها استخدام التلغراف كوسيلة لنقل المعلومات والأوامر والأخبار، لكن قدرات هذه الآلة الجديدة لم تكن مفهومة جيدًا، ولم تستخدم على نطاقٍ واسع. وبعد ثلاث سنوات، أثناء التمرد الهندي كان التلغراف الذي سيطر عليه البريطانيون، وأنشئ حديثًا، عاملًا حاسمًا في تلك الحرب.
في الحرب الأهلية الأمريكية أيضًا، التي دارت رحاها بين عامي (1861-1865)، استخدم التلغراف الكهربائي بشكلٍ كبير. وبالإضافة إلى توظيف التلغراف للعمل على امتداد مسافات طويلة في مؤسسة التلغراف العسكرية المدنية، تم توفير الخدمة الميدانية المتنقلة في جيش الاتحاد، بواسطة قطارات زودت بأسلاك معزولة، وأعمدة خفيفة الوزن من أجل وضع خطوط التلغراف السريعة.
كذلك وفرت الجيوش «البروسية» والفرنسية قطارات التلغراف المتنقلة، خلال الحملة البروسية القصيرة ضد النمسا عام 1866. ساعد التلغراف الميداني الكونت «هيلموت فون مولتك»، القائد البروسي حينها على قيادة جيوشه البعيدة. بعد ذلك بوقتٍ قصير، نظم البريطانيون أول قطارات التلغراف لهم.
القطارات
أحد أشهر استخدامات التلغراف في الولايات المتحدة الأمريكية، هو استخدامه في محطات القطارات، حيث تمكن العاملون من معرفة مواعيد القطارات المغادرة والواصلة للمحطات، الأمر الذي أدى إلى تبسيط عملها، وتطوير صناعة السكك الحديدية.
الرسائل الشخصية
أيضًا إرسال الرسائل إلى الأشخاص في أي مكان، وكانت ذات تكلفة عالية، ولم تكن ترفًا. لكن مع انتشار استخدامه وتطويره، انخفض سعر الرسائل، وأصبح معدل توصيل الرسائل أكثر سهولة، ثم تم تطوير التلغراف إلى جهاز يسمى «teletypewiter»، الذي عرض طريقة فريدة وتلقائية لإرسال الرسائل وتلقيها، والذي غير تمامًا شكل الترميز التلغرافي إلى الأبد.
في مطلع القرن العشرين، في العام 1914، تم تطوير شكل التلغراف لشكل من أشكال النقل الآلي، حيث جعل نقل الرسالة أسرع بكثير، واعتمدت جميع الاتصالات البعيدة بشكلٍ كبير على التلغراف الحديث.
أخيرًا؛ الفكرة الأولى هي الأهم رغم ما يجيء عليها من تطورات وابتكارات. فعلى الرغم من أن التلغراف أعلن استقالته، وانعدم استخدامه في بداية القرن الحادي والعشرين، وحل محله أدوات اتصال مختلفة مثل: الهاتف، جهاز الفاكس والإنترنت، إلا أنه قد وضع الأساس لثورة الاتصالات التي أدت إلى تلك الابتكارات، وما نشهده حاليًا في مجال الاتصالات.
يعطينا صموئيل مورس درسًا في الكيفية التي يمكن لأي شخص أن يصبح عليها. فهو رجل أحب الفنون والعلوم أيضًا، وفي نفس الوقت لم يدرس الفيزياء في الجامعة، بل تبع شغفه في محاضرات الكهرباء والمغناطيسية، وجلس مع أولئك الأكثر منه علمًا ليشرح لهم ما يود فعله.
الأفكار لي، والعلوم لكم.. ربما نرى هذا المبدأ في شركاتٍ كثيرة تنشط في مجال الابتكارات العلمية المختلفة، سواء أكانت الاتصالات أم غيرها، دون أن يكون صاحبها على دراية كافية بالعلوم التي تعمل فيها الشركة، بل يكفيه أن هناك طواقم متخصصة في ذلك.
وعلى أيّ حال، كانت شفرة مورس هي البداية والنموذج المصغرة لعالمنا الحالي، وربما نأخذها هي نفسها لعالمنا في المستقبل الآخر حال وجوده، كما أنها نموذج العمل لتطبيقات الدردشة التي تتوه فيها، والتي ربما تستقبل إحدى رسائلك من خلال أحدها أثناء قراءتك لهذا التقرير.