ميليشيات طهران تحكم العراق: قصة اختفاء مليون مواطن
ما إن يُعثَر على إحدى المقابر الجماعية المجهولة حتى تثور ثائرة العراقيين، خاصة السنة منهم، الذين فقدوا أعدادًا كثيرة من أبنائهم راحوا في عداد المفقودين خلال السنوات الماضية، فلا هم في قائمة الموتى ولا المعتقلين، ولا تعرف أسرهم لهم مكانًا ولا مصيرًا معينًا حتى كتابة هذه السطور.
ويتهم العراقيون الجهات التابعة لإيران باختطاف أبنائهم، سواء ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لطهران أو وكلاؤها المتنفذون داخل الأجهزة الأمنية الحكومية الذين يتمتعون بنفوذ لا يُضاهَى ويمثلون الدولة العميقة، فهذا السلوك ليس جديدًا على العراق الذي ذاق مرارات بقاء عشرات الآلاف من شبابه في سجون إيران بعد إنهاء تبادل الأسرى بين البلدين رسميًّا عام 1991، وفقًا لنزار السامرائي، عميد الأسرى العراقيين.
أعلى عدد مفقودين في العالم
مع اختفاء التقديرات الرسمية للمختفين قسريًّا بسبب نفوذ إيران في الدولة العراقية ومؤسساتها الحكومية، لجأت المنظمات غير الحكومية إلى جمع البيانات والشهادات الموثقة عن المفقودين، وتواصلت مع ذويهم وتوصلت إلى حقائق وأرقام صادمة، إذ وصل الرقم إلى مليون مواطن بحسب مركز جينيف الدولي للعدالة، بينما قالت اللجنة الدولية للمفقودين إن العدد غير معروف ولو على سبيل التقريب، لكنه يتراوح بين ربع مليون ومليون مفقود، وتؤكد اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن العراق به أعلى نسبة من المفقودين في العالم بأعداد تبلغ مئات الآلاف.
وتشير منظمة هيومن رايتس ووتش إلى أن الجيش وقوات الأمن العراقية وميليشيات الحشد الشعبي مسئولون عن عمليات الإخفاء القسري التي لم تستثنِ الأطفال تحت شعارات مكافحة الإرهاب في محافظات العراق؛ فبعد هجوم تنظيم داعش الإرهابي على المناطق السنية في 2014 توجهت الميليشيات الشيعية إلى تلك المناطق من أجل “تحريرها”، لكن ما حدث هو أن جميع السكان كانوا أهدافًا مشروعة لتلك الميليشيات التابعة لإيران، فأفلت من أيديها دواعش دفعوا فدى تحريرهم مبكرًا، وظل في قبضتها مدنيون فروا من مناطق داعش والتجئوا إلى القوات التي جاءت لـ “تحريرهم”، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار، لا سيما في محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وكركوك.
وبحسب منظمة العفو الدولية فقد تورطت القوات الحكومية والميليشيات في جرائم حرب وحشية بحق تلك العوائل السنية الهاربة من داعش، حيث عاقبت الناجين من العرب السنة على جرائم داعش، بينما تعرض آخرون للاعتقال من داخل مخيمات إيواء النازحين التي أقامتها الحكومة أو على نقاط تفتيش، أو حتى من داخل المنازل وأماكن العمل.
أما أهالي المخطوفين فقد بُحت أصواتهم من المطالبات غير المجدية في معرفة مصير أبنائهم، ودفعوا أموالًا طائلة وصلت إلى درجة بيع البيوت، ونجحت تلك الوساطات في تحرير البعض، وأحيانًا أخرى كانت بلا فائدة سوى إثراء الوسطاء الوهميين الذين يستغلون مآسيهم، إذ إن بعض المخطوفين تعرضوا لعمليات إعدام خارج نطاق القضاء بالطبع، وتُخلِّص من جثثهم.
مغيبو تشرين
مع انطلاق الاحتجاجات في المدن الشيعية في الجنوب العراقي في تشرين الأول/أكتوبر 2019، طالب المتظاهرون بإنهاء النفوذ الإيراني وأُضرمت النار في القنصلية الإيرانية أكثر من مرة ومقرات ميليشيات الحشد الشعبي وعدد من المباني الحكومية، فعادت عمليات الاختطاف لتنتعش من جديد، وأصبحت ملازمة للتظاهرات، وحتى اليوم لم يعد كثير من هؤلاء المختطفين رغم الفعاليات الشعبية العديدة التي نُظِّمت من أجلهم.
وبعد تولي رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي منصبه العام الماضي، بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي بسبب ثورة تشرين، زار وزارة الداخلية وأمر بسرعة الكشف عن مصير آلاف المخطوفين والمغيبين إبان سنوات الحرب ضد داعش، وأصدر العديد من القرارات التي تعزز حقوق الإنسان، بينها: الإفراج، والتحقيق فيما إذا كانت هناك سجون سرية في البلاد، لكن حتى الآن لم تُنفَّذ تلك التوجيهات وظلت الأمور على حالها.
سجون غير حكومية!
قضى الآلاف من المخطوفين سنوات من زهرة شبابهم داخل سجون غير حكومية يديرها أمراء الحرب – وما أكثرهم في العراق – الذين يرتبطون جميعًا بشكل أو بآخر مع الحرس الثوري الإيراني، واشتهرت هذه السجون، على غرار السجون التابعة لميليشيات الحشد الشعبي التي تقع ببلدة جرف الصخر التابعة لمحافظة بابل جنوب العاصمة بغداد، وتعد تلك الأماكن مناطق محرمة على الجيش والشرطة النظاميين، وقد تحولت منشآت التصنيع العسكري التي أُنشئت قبل الاحتلال الأمريكي إلى معتقلات للعراقيين.
ومع بقاء هؤلاء المعتقلين في السجون النظامية وغير النظامية يظلون عرضة للتصفية الجسدية في أي وقت، ففي يناير/كانون الثاني الماضي صدر حكم بإعدام عدد منهم، لكن المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب أكد في بيان له أن أغلب هؤلاء المعتقلين سيُعدمون بسبب اعترافات انتُزعت منهم تحت التعذيب وتهديدات بملاحقة عائلاتهم.
كما يظل مصير هؤلاء محلًّا للمزايدة بين الفصائل الأكثر تشددًا، فعلى سبيل المثال نظم نواب كتلة صادقون البرلمانية، التابعة لميليشيا عصائب أهل الحق، حملة لجمع توقيعات لإعدام 700 معتقل، وهدد أوس الخفاجي قائد ميليشيات أبو الفضل العباس بأنه سيعدم كل المعتقلين في سجون الحكومة إن لم تقم الدولة بذلك.
ولم تفلح دعوات الأمم المتحدة للحكومة العراقية من أجل إعلان مصير المغيبين والمختطفين، ولم تثمر قرارات القضاء العراقي بتشكيل هيئات تحقيق مختصة بقضية المختطفين، ولذا وضع بعض الأهالي آمالهم على تدويل القضية لا سيما مع صدور قرار مجلس الأمن رقم 2474 عام 2019، الذي يطالب أطراف الصراعات المسلحة بالبحث عن المفقودين والتواصل مع عائلاتهم وإخطار أسر المحتجزين وتسجيل مواقع دفن القتلى، لكن حتى اليوم لا توجد خطوة ملموسة يمكن التعويل عليها لإنجاز تطور حقيقي في هذا الملف.