طارق البشري: قصة الهجرة من العلمانية إلى الإسلامية
يتساءل كثيرون من جيل الشباب في مصر وفي خارجها عن التكوين الفكري للمستشار طارق البشري (طيب الله ثراه) وعن أهم مراحله، وتنصب أكثر الأسئلة على مرحلة انتقاله من المرجعية العلمانية الفكرية إلى المرجعية الإسلامية.
في هذا المقال أقدم أهم تلك الوقائع التي مر بها في تطوره الفكري كما عرفتها منه مباشرة، وذلك بعد أن أمهد لها بنبذة عن السياق التاريخي العام والخاص الذي عاصره. أما وقائع تكوينه الفكري والثقافي فلها مقال آخر.
عاصر المستشار طارق البشري في حياته أحداثًا جسامًا مرت بها مصر، ومر بها العالم من ثلاثينيات القرن الماضي إلى العشرينيات من هذا القرن. وفي تلك الفترة، لم تمضِ حياته الفكرية المعرفية المديدة على وتيرة واحدة؛ بل تتابعت في ثلاث مراحل: الأولى مدتها ست عشرة سنة (1954-1970م) كان فيها علماني التفكير، والثانية مدتها عشرة أعوام (1970-1980م) أخضع فيها توجهه العلماني وأعماله الفكرية وبحوثه التاريخية التي كان قد أنجزها للنقد الذاتي الذي لا هوادة فيه، والثالثة -وهي الأطول والأكثر ثراءً- ومدتها واحد وأربعون عامًا (1980-2021م)، وفيها أصبحت مرجعيته المعرفية إسلامية خالصة، بعد أن هجر العلمانية إلى غير رجعة. وقد بلغ في هذه المرحلة الأخيرة درجة «الاجتهاد» في أغلب القضايا الكبرى المتعلقة بالاستقلال الوطني، وبنهضة الأمة الإسلامية نهضة شاملة. ولكي نعرف قصة هذه «الهجرة» بمعناها ومبناها وما ترتب عليها من نتائج؛ لا بد من وضعها في السياق التاريخي والاجتماعي الأشمل الذي عايشه أستاذنا الجليل، رضي الله عنه وأرضاه في الجنة.
في سنوات التكوين العلمي والثقافي، وفي خلال العقدين الأولين من حياته؛ كانت الحرب العالمية الثانية قد وقعت واستمرت ست سنوات (1939-1945م)، وكانت الحرب أهم حدث مر بالعالم وترك وراءه آثارًا وخيمة بعيدة المدى، لا تزال مستمرة إلى اليوم. وفي مصر وقعت ثورة يوليو 1952م، وكانت أهم حدث مرت به البلاد في مسارها النضالي الطويل من أجل التحرر والاستقلال الوطني. وقد تابع الأستاذ ما جرى عالميًا ومصريًا بوعي شاب مؤمن بالقضية الوطنية، ومتطلع لنهضة بلاده وتطورها في مختلف مجالات الحياة.
كان المستشار البشري واحدًا من أبناء جيل مصري كامل تفتّح إدراكهم السياسي على شؤون بلدهم مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من سنوات. وكان من أبرز أقرانه من أبناء هذا الجيل: الدكتور محمد عمارة، والأستاذ عادل حسين، والدكتور جلال أمين، والدكتور مصطفى محمود، والدكتور عبد الوهاب المسيري، والأستاذ فهمي هويدي، ومحمود أمين العالم، وغيرهم، على ما بينهم من اختلافات في تخصصاتهم، ومن تباينات في اهتماماتهم الفكرية والثقافية. وكانت قضية الاستقلال الوطني هي أهم ما يشغلهم جميعًا في ذلك الوقت، وكان تصور الوطن المستقل الناهض هو «المدينة الفاضلة» التي يتطلع إليها أبناء هذا الجيل.
ورغم بطء وسائل التواصل، وصعوبة الحصول على مصادر المعرفة والثقافة في ذلك الوقت؛ فإن المتاح منها قد اتسم بالرصانة والجدية. وقد نهل أبناء هذا الجيل، بمن فيهم المستشار البشري من علوم الغرب وثقافته؛ تلك العلوم والثقافة التي كانت قد وفدت إلى البلاد واستوطنتها عبر أعمال الترجمة والنقل والتقليد على يد أجيال سابقة من رواد الفكر والثقافة و«دعاة التنوير»، وأنصار الحداثة والتغريب.
لم تكن مشكلة هذا الجيل محصورة فقط في إنجاز مهمة الاستقلال السياسي عن الاستعمار الأجنبي، ولم تكن مشكلته فقط هي الاستقلال الاقتصادي عن السيطرة الأجنبية، وإنما كانت هناك مشكلة أخرى وهي: كيف ستسير شؤون البلاد بعد الاستقلال؟ وبأي فكر ونظم وأساليب إدارية ستمضي؟ وماذا عن تنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل الوطن «المستقل»؟ من هنا بالضبط وقع الخلاف بين أبناء هذا الجيل، وتنوعت مواقفهم حول ما يؤخذ من الغرب وما يجب تركه، وحول ما يجب التمسك به من موروثنا الحضاري ومن تراث أمتنا وما يجب تجاوزه.
في المرحلة الأولى من تطوره الفكري والمعرفي (1954 ــ1970م)، تعمق المستشار البشري في قراءة المصادر الغربية بمختلف فروعها المعرفية من الأدب والتاريخ، والاجتماع والسياسة والقانون، إلى الفنون والموسيقى الكلاسيكية والمسرح، واندمج ضمن التيار «العلماني الوطني» الذي يأخذ الغرب وثقافته كلاً لا يتجزأ، ويظن- مخلصًا- أن ذلك هو ما يؤدي إلى النهضة والتقدم ببلده وبمجتمعه. وساد تلك المرحلةَ التوجهُ العلماني بوجهه الاشتراكي القومي كليًا، الماركسي جزئيًا.
ورغم أن الاقتصار على مصادر الثقافة الغربية كان ديدن أغلب رفقائه من أبناء جيله؛ فإنه انفرد بميزة معرفية عنهم، هي: دوام صلته بمنابع التراث الإسلامي. والظاهر أنه لم يكن بوسعه الفكاك من هذه الصلة بحكم نشأته وانتمائه العائلي، وبحكم دراسته للحقوق بجامعة فؤاد (القاهرة) وحبه لمادة الفقه وأساتذة الشريعة، ومنهم الشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ علي الخفيف، والشيخ محمد أبو زهرة. وقادته هذه الصلة إلى أصول الفقه والمقاصد العامة وعلوم التصوف. وعبّر عن حبه لهذه المصادر فقال لي ذات مرة: «كان يوم مذاكرتي مادة الفقه هو يوم نزهتي»، وقال أيضًا إن الشيخ خلاف فاق تأثيره فيه عن بقية شيوخه، قال لي:
دليل آخر على استمرار اتصاله بمنابع التراث ومراجعه الكبرى، أنه في أيامه الأولى بوظيفته بمجلس الدولة استدعاه -مع عدد من زملائه- النائبُ العام وقتها المستشار عبد الحليم الجندي، وطلب منهم ومنه أن يشتري نسخةً من كتاب «الموافقات في أصول الشريعة» للإمام الشاطبي، على أن يقرأه ثم يعود لمقابلته للحديث معه بشأنه بعد ثلاثة أشهر كاملة؛ بحيث يكون قد أنهى فيها قراءته كاملاً.. وقد فعل. وحكى لي فقال : «بعد أن قرأت الموافقات شعرتُ أنني صرت أذكى مما كنت قبل قراءته، وأن عقلي أصبح مرتبًا، ونفعني ذلك كثيرًا في عملي القضائي طول الوقت، وفي حياتي كلها». والعجيب أنه وهو في عز تفكيره العلماني، كان شغوفًا أيضًا بقراءة كتب التصوف مثل «إيقاظ الهمم في شرح الحكم العطائية». وأثرُ قراءاته الحرة في تكوينه المعرفي يحتاج مقالاً خاصًا به.
على الصعيد الوطني كانت تلك المرحلة (الخمسينيات والستينيات) مرحلة المد القومي وآمال الاستقلال والقضاء على الاستعمار، وإنجاز تطلعات العدالة الاجتماعية وتحقيق حلم الوحدة العربية. ولكن لم يكن شيء من ذلك، وإنما كانت الواقعة السوداء، أو الفاجعة الكبرى؛ وهي هزيمة يونيو 1967م، تلك الواقعة التي صدمت جميع أطياف المجتمع وطوائفه المثقفة وجماعته السياسية. وكانت الهزة الفكرية والنفسية التي نتجت عن الهزيمة من القوة بحيث تخطت التساؤل عن مدى استبدادية نظام عبد الناصر وفشله في إدارة البلاد وإغراقها في عار الهزيمة، إلى التساؤل الأعمق عن مكمن الخلل في المرجعية الثقافية والمعرفية السائدة.
نستمِع إلى المستشار البشري وهو يحدثنا عما جرى له ولأصحابه آنذاك، قال:
ثم قال:
ولم تكن تلك الممارسة النقدية بالأمر الهين، وقد وصف لنا صعوبتها بنفسه فقال:
كان الراحل المستشار البشري وأصحابه قبل هزيمة يونيو ناضجين فكريًا، وكان لكل منهم نشاطه الثقافي وآراؤه وكتاباته التي يرى أنها صواب. ولكن بعد تلك المحنة الوطنية ومع بدايات السبعينيات بات كل واحد منهم يطلب من نفسه أن يعيد طرح أركان فكره للنقد الذاتي والحوار مع أصحابه الذين يشاركونه ذات القضايا والهموم. وخرج كل منهم برؤية معدَّلة في مجالات اجتهاده وتخصصه: الأستاذ عادل حسين في العمل السياسي، والدكتور محمد عمارة في الفكر الإسلامي، والمستشار طارق البشري في بناء تيار أساسي للأمة، والدكتور عبد الوهاب المسيري في نقد العلمانية والفكر الغربي نقدًا مرًا وواسع المجال.
انتهت مرحلة «العلماني الوطني» عند المستشار الجليل في بداية السبعينيات، ووصفها ذات مرة بأنها مرحلة تشبه «الإعارة للعمل بالخارج» والعودة بعدها مرة أخرى لأرض الوطن! وبدأت المرحلة الثانية وهي مرحلة النقد الذاتي التي استمرت إلى قرب نهاية السبعينيات، وكانت مرحلة سماها هو «مرحلة انتقالية»، جعلته يمكث فترة لا يعرف كيف يكتب. بل إنها جعلته – على حد قوله: «في حالة فقدان توازن لفترة».
وفي هذه المرحلة تضاعفت معاناته الفكرية؛ ونهض بما أملته عليه من أعباء كثيرة وضغوط هائلة، وتمكن من إنجازها في أواخر السبعينيات، وهو «بصحة كهل لم يحتمل قلبه الضغط فانجرح» حسب تعبيره في مقالته المنشورة بمجلة الهلال بعنوان «التكوين». وسألته (وكان قد بلغ 87 وثمانين عامًا): ماذا قصدت بقولك: «لم يحتمل قلبه الضغط فانجرح؟».
فنظر مليًا.. ثم قال: أيامها يا إبراهيم كنت قد جاوزت الأربعين من عمري، وأصابتني جلطة قلبية نتيجة ارتفاع في ضغط الدم، ولما كشف علي الطبيب (ذكر لي اسم أحد كبار أطباء القلب في مصر وقتها، وكانت تربطه به صلة قرابة) قال لي: «شوف اسمع يا طارق: أنت ربنا كرمك لأن الجلطة في منطقة حساسة جدًا من القلب، وكان يمكن أن تترك آثارًا سيئة جدًا لكن الله سلم، وإذا أردت أن أزورك وأتابع حالتك في البيت حتى تتعافى بإذن الله، فعليك الالتزام بخمسة أشياء، وإلا لن آتي إليك مرة أخرى:
- تبقى شهرًا كاملاً لا تخرج من غرفتك مع غلق شيش الشبابيك.
- تبطل قراءة الجرائد وسماع نشرات الأخبار طول هذه المدة.
- تواظب على الدواء ولا يدخل عليك إلا الأستاذة عايدة (حرمه المصون مد الله في عمرها).
- تمتنع من الآن فصاعدًا عن التدخين امتناعًا تامًا.
- تستمع فقط إلى القرآن الكريم، أو الموسيقى الهادئة.
قلت له متلهفًا:… وماذا فعلت؟ قال: «طبعًا التزمت بالتعليمات حرفيًا… والحمد لله». وكانت ذروة هذه المأساة الفكرية والصحية هي بداية ما وصفته بكلامي أنه «مشوار السعادة المعرفية» إلى آخر يوم في حياته.