طارق البشري: التكوين الفكري والثقافي
سألت الدكتورة «نادية مصطفى» أستاذة العلاقات الدولية بجامعة القاهرة -حفظها الله- المستشار «طارق البشري» ونحن في حضرته في يوم من الأيام سؤالَ تعجبٍ لا يحتاج إلى جواب قالت: كيف تجمع في قراءاتك في وقت واحد بين كتاب مثل: «الملاك» لـ «يوري بار جوزيف» وهو في الجاسوسية والسياسة، وكتاب في التراث مثل كتاب «شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل» للإمام الغزالي وهو في أصول الفقه؟
كنَّا يومها مجموعةً من مُحبيه ومريديه برفقة الدكتورة نادية في زيارته -طيب الله ثراه- بمنزله العامر، وتجاذبنا الحديث معه، وطاب لنا الإنصات إليه سويعات. وتشعبت موضوعات الحديث بين القانون والقضاء، والفقه والأصول، والسياسة والتاريخ، والأدب والشعر؛ حتى أنشدنا -طيب الله ثراه- قصائد كاملة وبعض قصائد في أغراض شعرية متنوعة، كان منها قصيدة شوقي التي قالها في رثاء مصطفى كامل ومطلعها:
ومنها أيضًا قصيدة صلاح عبد الصبور التي يقول فيها:
وحكى لنا كذلك قصة الشعراء الستة الذين رثوا الإمام محمد عبده، ثم وافتهم المنية على حسب ترتيبهم في إلقاء قصائدهم يوم وفاة، وهم كل من: الشيخ «أحمد أبو خطوة»، و«حسن عاصم بك»، و«حسن باشا عبد الرازق»، و«قاسم أمين»، و«حفني ناصف»، و«حافظ إبراهيم». فلما توفي رابعهم وهو «قاسم أمين» بعد أن توفي كل الذين تقدموه في الترتيب يوم رثوا الإمام محمد عبده، ولم يبق من الستة إلا «حفني ناصف» و«حافظ إبراهيم»، هنالك كتب حفني قصيدته إلى حافظ إبراهيم، التي قال فيها:
كان -طيب الله ثراه- متنوع الثقافة، واسع الأفق. وقد استثار تساؤل الدكتورة نادية الرغبة في البحث عن مصادر تكوينه الفكري والثقافي: كيف أثّر فيه محيطه العائلي ومحيطه الاجتماعي؟ ماذا قرأ في شبابه الباكر؟ ومنْ هم أولئك الأساتذة أو العلماء الذين كان لهم أثر في توجيهه وفي تثقيفه؟
وجدتُ -في ضوء مفاهيم علم اجتماع المعرفة- أن ثمة أربعة مصادر قد أسهمت بدرجات تفاوتة، من حيث الكم والكيف، في التكوين الفكري والثقافي للمستشار البشري. أولها هو: المناخ الثقافي العام للمجتمع الذي نشأ فيه وتأثر به، وتسربت قضاياه إلى وعيه منذ صباه الباكر. وثانيها هو نظام تعليمه الرسمي الذي سلكه، عبر مراحله المختلفة من الابتدائية إلى الجامعة. وثالثها هو: قراءاته الحرة في كتب العلم والمعرفة. ورابعها هو: تأثره ببعض أعلام العصر وكبار مفكريه، وذلك إمّا بقراءته لهم، أو باتصاله المباشر معهم، أو إعجابه بأعمالهم ومشاركتهم في بعض أفكارهم.
المناخ الثقافي وروح العصر
المناخ الثقافي الذي نتحدث عنه هو ذلك المناخ الذي شكَّلت «القضية الوطنية» ملامحَه الأساسية في مصر قرب منتصف القرن الرابع عشر الهجري/ خلال الربع الثاني من القرن العشرين الميلادي. وروح العصر التي نقصدها هي تلك التي جسدها الصراع الدولي، آنذاك، وقد بلغ بها الذروة في الحرب العالمية الثانية (1939-1945م).
تفتّح وعي «طارق البشري» بشأن جماعته الوطنية وبشأن أمته الإسلامية في ذلك المناخ الذي سيطرت عليه القضية الوطنية المصرية سيطرة شبه تامة. وفي ذلك المناخ كان النضال قد استعر من أجل الاستقلال وتحرير البلاد من كل سلطان أجنبي. وكانت وقائع الصراع الدولي تترى أثناء سنوات الحرب. والتقط وعيه آنذاك -في حدود قدرة ابن الثامنة أو العاشرة- بعض الأحداث التي كانت تموج بها مصر في تلك الفترة؛ وبخاصة ما كان منها متعلقًا بالقضية الوطنية، وبالتطور الديمقراطي.
كان السياق العام يقود المصريين وشعوب أمتنا الإسلامية كافة إلى الخيار الوطني التحرري. وقد ألقت الحرب العالمية بظلالها الكثيفة على الواقع الاجتماعي والسياسي برمته، وأسهمت في تشكيل المزاج النفسي، وعمّقت الشعور بالهوية لدى عامة الناس وخاصتهم. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، تعبأ المناخ العام كله بقضية الجلاء، والمطالبة بالاستقلال. وعن أثر هذا المناخ يقول طارق البشري:
أمر آخر يتعلق بأثر المناخ الثقافي ودوره كمصدر من مصادر تكوينه الوجداني والفكري هو: اتصاله بـ «دوائر المجال الثقافي الحيوي» التي أحاطت به في حياته. وقد كانت عائلته أول تلك الدوائر بمن كان فيها من أصحاب العمائم وأصحاب الطرابيش؛ أي ذوي الثقافة الأزهرية، وذوي الثقافة الحديثة وفق السياق التاريخي والاجتماعي في الثلاثينيات والأربعينيات.
والدائرة الثانية هي: «دائرة النخبة الثقافية الجديدة من أهل المدينة»، وأساليبها الحديثة في نشر الوعي وإشاعة الأفكار والمعارف الجديدة، وبخاصة عن طريق الصحافة، والإذاعة، والمسرح، والسينما، والترجمة. أمّا الدائرة الثالثة فهي دائرة «المجتمع الثقافي الريفي»، وما كان يعتمل فيه من ممارسات ثقافية وروحية يقوم بها شيوخ القرية -ومنهم الذين تعلموا في الأزهر- ورجال الطرق الصوفية بتقاليدهم وأعمالهم التي غطت معظم أنحاء البلاد؛ في الريف، وفي الأحياء القديمة من المدن.
كان المناخ العام -مناخ النشأة والتكوين- غنيًا بأفكاره، وبقضاياه، وبأحداثه، وبرجاله. وقد اغتنم طارق البشري -طيب الله ثراه- مما وفره ذلك المناخ؛ فاغتنى وعيه باكرًا بالواقع، وبهموم الجماعة الوطنية. وأفاده في هذا المجال -أيما إفادة- كبر فارق السن بينه وبين معظم أعضاء أسرته (الأب، والأعمام، وحتى أبناء الأعمام)؛ إذ جعله هذا الفارق يترعرع بين ثلاثة أجيال في وقت واحد، ويراقبهم معًا، ويتشرب منهم جميعًا، ويستمع إليهم، ويصغي إلى قصصهم وذكرياتهم.(Aziza Sami, Tarik El-Bishri: A Socialist Islam? In: Al-Ahram Weekly,5-9 November 1995, p.18).
وهؤلاء جميعًا قد شكّلوا جزءًا من ذاكرته، وأسهموا في تعميقها لتصل إلى بدايات القرن العشرين، حيث الجيل الأول الذي عاصره، وهو جيل شباب مطلع القرن العشرين، ويليه الجيل الثاني، وهو جيل شباب ثورة 1919م، ثم الجيل الثالث وهو جيل: شباب الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين.
ومنْ بين قضايا ذلك المناخ العام، احتلت القضية الوطنية مكانًا مركزيًا في وعي «طارق البشري» ووجدانه، وصارت إحدى المحاور الرئيسية في اهتماماته الفكرية والسياسية فيما بعد، وظهر أثر هذا الاهتمام في معظم مؤلفاته من الكتب والدراسات والمحاضرات. قال في إحدى محاضراته العامة:
تأثيرات نظام التعليم الرسمي
المصدر الثاني من مصادر تكوينه الفكري والثقافي هو «التعليم الرسمي» في المدارس الحكومية (الأميرية)؛ بدءًا بمدرسة حلمية الزيتون الابتدائية التي التحق بها وهو في السابعة من عمره (في أكتوبر/تشرين الأول 1940م)، ومرورًا بمدرسة مصر الجديدة الثانوية (من أكتوبر/تشرن الأول سنة 1944م، إلى مايو/أيار سنة 1949م)، وانتهاءً بكلية الحقوق بجامعة فؤاد (جامعة القاهرة حاليًا) التي تخرج فيها في سنة 1953م.
كان طريقه في مؤسسة التعليم هو الطريق المعتاد الذي سلكه كثيرون من قبله ومن بعده من عموم أبناء مصر. ويبدو أن فارق السن الكبير بينه وبين أقربائه قد ترك لديه شعورًا بالعزلة والانطواء، ولما التحق بالتعليم، ظل شعوره أقرب للعزلة والانطواء، ولكنه تمكن في نهاية المرحلة الجامعية من تجاوز هذين الأمرين تقريبًا. ويعرف كل من عرفه، أنه قد بقي لديه شيء منهما حتى آخر حياته طيب الله ثراه.
وبرغم أنه أمضى سنوات تعليمه الرسمي بطريقة عادية، إلا أن هذا التعليم -في مراحله المختلفة- قد ترك آثارًا بعيدة المدى على تكوينه المعرفي والفكري؛ إذ نلحظ أن كل مرحلة قد علقت منها بذهنه بعض المواقف المؤثرة، ونقشت في عقله نقوشًا بارزةً، وكان الفضلُ الأساسي فيها راجعًا إلى مدرس من مدرسيه، أو أستاذٍ من أساتذته، أو كتاب من الكتب التي كانت مقررة في سنوات الدراسة.
أنهى المرحلة الابتدائية وهو كاره لمادة «الرسم»، منصرف بكليته إلى الفنون الكلامية والكتابية، حتى صارت هي وسيلته الوحيدة في التعبير. حدّثنا عن ذلك فقال:
وفي المرحلة الثانوية أعجبته مادة التاريخ وأحبَّ مدرسها. وكان الكتاب المقرر هو كتاب: «أوروبا في القرن التاسع عشر» لمحمد قاسم وحسن حسني، وكان مدرس المادة هو الأستاذ «محمود الخفيف». وكان هذا المدرس أديبًا وشاعرًا ومؤرخًا، وله مقالات وقصائد منشورة في مجلة «الرسالة»، التي كان يصدرها «أحمد حسن الزيات». والأستاذ «محمود الخفيف» هذا هو الذي ألّف أهم كتاب عن أحمد عرابي بعنوان: «أحمد عرابي الزعيم المُفترَى عليه». وفي ذلك الكتاب -الذي صدر سنة 1948م- هاجم الخديوي توفيق ووصمه بالخيانة. كان الأستاذ «محمود الخفيف» وطنيًا صادقًا وكان شجاعًا ولا يهاب، ولا يخشى في الله لومة لائم.
ومن ذكرياته: أنه عندما كان في المرحلة الثانوية، وكان الأستاذ الخفيف يدرس مادة التاريخ، وكان السعديون وقتها في الحكم، وكانت لدى الأستاذ الخفيف ميول وفدية معارضة لحكمهم، وكان يجهر بآرائه بين طلبته والمحيطين به؛ سواء في الحصص المدرسية، أو في فترات الفراغ، أو حتى عندما يكون في طريقه إلى المدرسة في الصباح، أو وهو عائد منها في الظهيرة راكبًا «المترو»، يتكلم بصوت عالٍ جهير غير هيّاب. وقال لي:
وهذا هو الأثر العميق الذي تركه الأستاذ «محمود الخفيف» في تلميذه وأستاذنا طارق البشري رحمهما الله؛ منه أحب التاريخ، ومنه ومن أبيه عرف أيضًا أن «العمل رسالة»، وليس مجرد وظيفة، ومن أستاذنا عرفنا ذلك، واجتهدنا في لزومه.
كانت مرحلة دراسته الجامعية في كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول من سنة 1368هـ/ 1949م إلى سنة 1372هـ/ 1953م. وقد صادف التحاقه بالجامعة أول سنة لبدء سريان القانون المدني الجديد -الذي كان قد صدر في أكتوبر سنة 1949م- ووقتها لم تكن هناك كتب مؤلفة عن هذا القانون الجديد، وتغّلب منهج المقارنة بين مواد القانون الجديد والقانون القديم. وأفاد طارق البشري من هذا المنهج المقارن في تعميق رؤيته للأمور، وضرورة النظر إليها من أكثر من زاوية، إلى جانب الموازنة والترجيح بين وجهات النظر المختلفة، وفقًا لمعايير واضحة ومحددة.
وفي كلية الحقوق أحبَّ القانون، وأُضيف إلى حبه للتاريخ الذي كان قد اكتسبه في المرحلة الثانوية على ما ذكرنا. وفي كلية الحقوق أيضًا تأثر بعدد من أعلام الفقه والشريعة، ومن أبرزهم: الشيخ «عبد الوهاب خلّاف»، والشيخ «علي الخفيف»، والشيخ «محمد أبو زهرة». وعن ذلك يقول:
حكى لي أيضًا عن تأثره بالشيخ «خلّاف» أثناء دراسته الجامعية فقال:
وكان الشيخ «خلّاف» وقتها يُدرِّس مادتي «الفقه»، و«الوقف» لطلبة السنة الرابعة في كلية الحقوق.
ومن الموافقات -ونحن نبحث في مصادر تكوينه الفكري الثقافي- أن تكون دراسته للحقوق هي التي أتاحت له فرصة الاطلاع على الفقه الإسلامي من خلال دروس ومحاضرات مادة الشريعة الإسلامية؛ التي كانت -ولا تزال- ضمن مقررات كلية الحقوق بالجامعات المصرية. وكانت تلك الدروس من الأمور التي أبقته مجذوبًا إلى الإسلام كنظام للمجتمع وللمعاملات. يقول:
تلك هي أهم تأثيرات نظام التعليم الرسمي -بمراحله المختلفة- في التكوين الفكري والثقافي والوجداني لأستاذنا البشري طيب الله ثراه. وعلينا أن نلاحظ أن هذه التأثيرات قد جاءت مختلطة، أو ممزوجة، بتأثيرات مصادر تكوينه الأخرى، وبخاصة تأثيرات المناخ السياسي والثقافي العام، وتأثيرات قراءاته الحرة، وتجاربه الذاتية، فلابد أن تلك المصادر قد تفاعلت تأثيراتها معًا، وأسهم كل منها بنصيب -يصعب تحديده بدقة- في عملية بنائه الفكري، وفي وضع المعالم الرئيسية لأسس تفكيره، ولمنهجه في النظر فيما بعد.