طارق البشري: مشوار السعادة الذي رحل إلينا
تلقيتُ صباح يوم الجمعة الموافق 14 من شهر رجب 1442هـ/ 26 من فبراير 2021م نبأ رحيل سيدنا المستشار الجليل، القاضي، والمؤرخ، والمفكر، والأصولي، والفقيه المجتهد، والصوفي الصافي، أستاذنا العلامة طارق البشري، عن عمر ناهز ثمانية وثمانين عاماً؛ إذ كان مولده في يوم الأربعاء الموافق 14 من شهر رجب أيضاً عام 1352هـ/ أول نوفمبر 1933م. ومن يمن طالعه أن وافق يوم مولده يوم رحيله إلينا وفق التقويم الهجري الذي به يؤرخ الزمن الإسلامي.
لم أصدق لأول وهلة عندما بلغني النبأ أنه رحل حقاً، ولكن كيف لا أصدق، وأنا أعلم أن «كل من عليها فان»، وأن «كل نفس ذائقة الموت»؟! وكيف أتهرب من هذه الحقيقة ومحدثي الذي أنبأني على الطرف الآخر من الهاتف هو أستاذنا العلامة محمد سليم العوا؟! قال لي بصوت متهدج: «البقاء لله يا إبراهيم، توفي أخونا الكبير وأستاذنا الجليل طارق البشري». لم يدع لي صوته المتهدج أملاً في قول آخر، فـ«شرقت بالدمع حتى كاد يشرقُ بي».
قلت: «رحل». نعم، «رحل» كما يرحلُ كل حي عندما يحين أجله، فلا يتقدم ساعة ولا يتأخر. وإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقه لمحزونون، ولكن لا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون. لكن رحيل هذا العلمِ الأشمِّ ليس كرحيل غيره.
يرحلون «عنَّا»، ويغيبون، أما هو فقد رحل «إلينا» وصار حضوره أبدياً. هو قد رحل … كما يرحل كبار رجال الأمة وأفذاذ علمائها لا إلى الغياب، ولكن إلى الحضور المستمر الذي تتوارث الأجيال فيه علمهم، ويتداولون أفكارهم واجتهاداتهم وتأملاتهم، ويترسمون طريقتهم في الحياة، ويتعلمون من أدبهم العالي، وينهلون من فقههم العميق ونظرهم الفسيح. أمثال هؤلاء لا يرحلون عنا يوم يموتون، وإنما يكون موتهم رحيلاً «إلينا»، ولا تخسرهم الأمة عندما يموتون كما يقول البعض، وإنما هي تكسبهم وتغنم ما قدموه في حياتهم من علم واجتهاد وإخلاص وتفانٍ، وصدق في قول كلمة الحق أياً كان ثمنها الذي دفعوه.
كلُّ من عرف «طارق البشري»، عن قرب باللقاء المباشر معه، أو عن بُعد عبر قراءة مؤلفاته، أو من خلال الاستماع إلى دروسه ومحاضراته (على ندرتها)، يعرف بيقين أنه كان علماً من الأعلام الخفَّاقة في حياتنا الفكرية والثقافية والقضائية والفقهية في بلدنا مصر، وفي وطننا العربي، وفي عالمنا الإسلامي.
إذا قرأت له، فكأنك تسمع صوته الهادئ يسرُّ إليك بالفكرة إثر الفكرة. وإذا استمعتَ إليه فكأنك تطالع في صفحات مكتوبة بدقة. وإذا رأيته رأي العين يغمرك شعور بالسكينةِ والأمانِ؛ وإذا جلست إليه فإلى أب شفوق جلست؛ إن كنت أصغر منه، وإن كنت في مثل سنِّه – أو أسنَّ منه – فقد جلست إلى أخٍ حبيب؛ بعد أن طالَ فراقه وشط مزاره.
كان رحمه الله موطأَ الأكنافِ، وظل كذلك إلى آخر يوم في حياته: يألفُ ويؤْلفُ. وقد ظل كثيرَ الوقار، جميلَ اللقاء. وظل حتى النهاية ذا صمت وسمت، وتجملٍ وزهد، وعفاف وصيانة. وكنت إذا جلست إليه شعرت أنه أرق من النسمة، وأنه بسيط متواضع إلى حد الدهشة. أحسبه – والله تعالى حسيبه ولا أزكيه على الله عز وجل – أنه كان كثيرَ علم، وكبير ديانة، عظيماً بالصدق والأمانة. لا تخطئ عينك على محياه أمارة التقوى، وإضاءة الحكمة ،ومعرفة أحوال الدنيا؛ وكأن لسان حاله يذكرك كل لحظة بقول الشعراني في ميزانه إن: «العاقل من عرف زمانه، واستقامت طريقته».
ينتسب طارق البشري إلى عائلة مصرية ممتدة، كثيرة عددِ الأنفس، متوسطة الحال في الأملاك والأموال (مستورة)، عالية القدر في العلم والأدب. فاقت مكانتُها الاجتماعية وضعها الاقتصادي. كان جد أبيه فلاحاً من أهالي قرية «محلة بشر» – وهي من قرى دلتا النيل، تابعة لمركز شبراخيت، بمحافظة البحيرة، جنوب الإسكندرية. وجدُّ أبيه هذا اسمه «أبو فراج بن السيد سليم، ابن أبي فراج البشري». ويبدو أنه كان رقيق الحال شأنه شأن الأغلبية الساحقة من أهالي مصر الفلاحين على طول الزمن؛ حتى إنه دفع بأحد أولاده للعمل مع جماعة من «عمال التراحيل يحرس ملابسهم»؛ إذ كان يومها صبياً لم يتجاوز، وقتها، العاشرة من عمره. ولم يكن هذا الصبي سوى «سليم البشري»، الذي أتعب نفسه تعباً شديداً في تحصيل العلم، حتى أصبح فيما بعد شيخاً للسادة المالكية بمصر، ثم شيخاً للجامع الأزهر الشريف. والشيخ سليم هذا هو جد طارق البشري لأبيه عبد الفتاح سليم البشري، الذي كان قاضياً بمحكمة الاستئناف.
عندما كتب صديقي الدكتور هشام الحمامي قبل أيام مقالاً بعنوان «طارق البشري: الأصالة كلها هنا»، بعد أن دخل المستشار الجليل المستشفى قبل أيام قليلة، فإنه عبر تعبيراً صادقاً عن الحقيقة في «الواقع ونفس الأمر» – كما يقول الفقهاء – وهذه الأصالة عميقة الجذور في تاريخ العائلة الممتدة للمستشار الجليل طارق البشري. ومما يؤثر عن جده الشيخ سليم البشري ويؤشر على هذا العمق: أن تلميذه محمد قدري باشا – صاحب كتاب «مرشد الحيران»، وكتاب «قانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف»، وغيرهما من المؤلفات المعتبرة – كان قد عرض عليه ذات مرة وظيفة بمرتب ثلاثين جنيهاً شهرياً، وكان هذا المرتب يعادل أضعاف أضعاف مرتبه كإمام لمسجد إينال اليوسفي بالقاهرة آنذاك، ولكن الشيخ سليم رفض العرض رفضاً قطعياً، مفضلاً الانقطاع لتعليم العلم، قبل أن يصبح شيخاً للسادة المالكية، ثم شيخاً للجامع الأزهر.
أمضى أستاذنا الجليل – الراحل إلينا – طارق البشري سنوات طفولته وصباه ومطلع شبابه في البيت القديم لجده الشيخ سليم – بحلمية الزيتون – إلى أن قارب العشرين من عمره؛ يحيط به أصحاب «العمائم»، وأصحاب «الطرابيش»، وهو يتقلب بين بيت جده لأبيه في المدينة، وبيت جده لأمه في قرية «الدير» التي هي إحدى قرى مركز طوخ بمحافظة القليوبية. وخلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، لم تكن العمائم والطرابيش والقبعات مجرد أغطية للرؤوس، وإنما كانت، أيضاً، رموزاً على تكوينات ثقافية، وعلامات على اتجاهات فكرية؛ بينها من الاختلافات أكثر ما بينها من الاتفاقات. وكان لابس العمامة في أبعد نقطة من لابس القبعة، وكان لابس الطربوش يقف في المسافة الواقعة بينهما، أو قد يكون أقرب للعمامة أحياناً، أو أقرب للقبعة أحياناً أخرى.
كانت العمائم للشيوخ ذوي الثقافة الأزهرية، وكانت الطرابيش للأفندية خريجي المدارس المدنية الحديثة. وأكبر عمامة تأثر بها طارق البشري كانت عمامة جده الشيخ سليم؛ الذي لم يره؛ إذ كان قد توفي قبل مولد «طارق» بستة عشر عاماً. ولكن «طارق» في طفولته وصباه؛ قد سمع عن جده كثيراً من عمَّاته، وظلت بردة الشيخ سليم تلف بيته بعد وفاته لأكثر من عقدين من السنين. وقد أورثته حكايات العمات حب جده «الشيخ سليم»، حتى إنه تعلق ببعض آثاره التي تركها، قال لي ذات مرة:
ومن الحكايات التي سمعها ما رواه أعمامه وعماته عن معاناة جده وعن مواقفه، وقصة فصله من الأزهر جزاءَ رفضِه الخضوع لأوامر الخديوي عباس حلمي. قال لي في يوم من أيام السعادة بلقائه: إن درس الحياة الأول الذي تعلمته من حياة جدي وموقفه الصلب تجاه الخديوي وتجاه المعتمد البريطاني كتشنر هو: أن القيمة الاجتماعية للإنسان «هي في قيمة العلم والموقف، وليست قيمة المال ولا السلطان ولا المنصب». ومن الصور النادرة التي احتفظ بها أستاذنا الجليل معلقة على حائط غرفة الاستقبال في منزله صورة يظهر فيها جده الشيخ سليم جالساً واضعاً الساق على الساق، ومشيحاً بوجهه بعيداً عن المعتمد البريطاني الذي يظهر في الصورة واقفاً وأعين الصفوة السياسية المصرية مشدودة نحوه!
بعد الشيخ سليم، يأتي أصحاب العمائم وأصحاب الطرابيش الذين عاش بينهم أستاذنا الجليل، وتأثر بهم في طفولته ومطلع شبابه. أما الطرابيش، فكانت لأبيه ولعمه عبد الله بك، ثم لأولاد أعمامه الذين سلكوا بلا استثناء سلك التعليم الحديث. وأما العمائم فكانت لسبعة من أعمامه؛ تخرجوا جميعاً في الأزهر، وعملوا به بوظائف مختلفة ولفترات متفاوتة. وثمة عمامة ثامنة، كانت لجده لأمه، وهو الشيخ: محمد محمد حسن غانم؛ الذي تخرج في الأزهر أيضاً، ولكنه عاد بعد تخرجه ليستقر في قريته، وهي «قرية الدير» سابقة الذكر.
وعلى عكس جده لأبيه، كان جده لأمه يمتلك أرضاً زراعية، ولكنه كان وحيداً بهذا التميز في أسرة فقيرة أخنى عليها الدهر، وصار رجالها إلى الملكيات الصغيرة جداً، وبعضهم إلى العمالة في الأجيال التالية. وقد ظل جده محمد حسن غانم يزرع أرضه إلى وفاته في شعبان سنة 1346هـ/ أغسطس سنة 1945م. وكانت لديه مكتبة أزهرية تضم عدداً لا بأس به من كتب الأدب والشعر العربي القديم، اطلع عليها أستاذنا الراحل إلينا في مقتبل حياته وأيام شبابه.
ومن بين تلك العمائم التي أحاطت به في شبابه تبرز عمامة عمه عبد العزيز البشري الذي توفي في سنة 1344هـ/1943م، وكان من ظرفاء زمانه، وكان أيضاً من أعلام الأدب في مصر خلال النصف من القرن العشرين. وكان من أرق الأدباء أسلوباً، وأحلاهم دعابة، وأعذبهم حديثاً … وكان يمتاز بذكاء لماح، وسرعة خاطرة.
قرأ أستاذنا الجليل – الراحل إلينا – طارق البشري لعمه عبد العزيز أكثر مما رآه أو سمع منه؛ إذ توفي هذا العم وطارق ابن تسع سنين فقط. وكان لأستاذنا الجليل نصيب من عمه؛ من حيث براعته اللغوية، وروحه المرحة؛ بما لا يخرجه عن وقاره. وأذكر الآن أنني كنت في صحبته ذات يوم مع بعض أصدقائه ومحبيه عقب صلاة الجمعة في يوم من أيام سنة 1419هـ/1998م، وتطرق بنا الحديث يومها إلى السيارات ومشاكلها، ثم انصرف الجميع وأصر هو أن يبلغني منزلي بسيارته وهو في طريق عودته لبيته، وكانت سيارته ماركة «سيات» حمراء اللون صغيرة الحجم، وفجأة تعطلت قبالة سور «القمر الصناعي» في حي المعادي بجنوب القاهرة ونزل هو من السيارة لما تعطلت ونزلت في إثره، ودفعناها معاً بأيدينا رجاء أن تستأنف السير، وبينما انهمكنا معاً في دفعها؛ توقف برهة وقال لي:
ثم أخذ نفساً عميقاً وقال: «زَقَقْتُها أكثرَ مما سقتُها». فانفجرت ضاحكاً حتى فقدت القدرة على مشاركته في «زق» هذه «السيات» التي تعطلت بنا أيضاً.
لا يفوتني أن أذكر هنا شيئاً عن أم أستاذنا الجليل – الراحل إلينا طارق البشري – واسمها/ زنوبة بنت الشيخ محمد حسن غانم، ومما قاله لي عنها أنها كانت «مثالاً لهدوء الطبع، والنفس الراضية، والعطاء والصبر»، وقد توفيت في محرم 1388هـ/أبريل 1968م. وعندما سألته ذات مرة عنها قال:
ولا أثر يعدل أثر الأم في ولدها، وقد قالوا قديماً إن «الطبع يُأخذ بالمخالطة»، فما بالنا والأمر هنا ليس مجرد مخالطة، وإنما أمومة وبنوة ومعيشة ووقائع حياة يومية.
أمضى أستاذنا الجليل – الراحل إلينا – طفولته وصباه ومطلع شبابه بين عمائم الشيوخ وطرابيش الأفندية في أسرة ممتدة ومترابطة؛ تغلبت فيها علاقات القرابة على الانفراد الطبقي الذي ميز بعض أعضائها. وإلى جانب هذا، فإنه أمضى تلك الفترة أيضاً بين «المدينة» و«القرية». ويمكن القول إن الكلمات الأربع: «العمامة»، و«الطربوش» و«المدينة» و«القرية» تلخص المحيط الاجتماعي – بمعناه الخاص وبمدلوله العام – الذي نشأ فيه أستاذنا الجليل – الراحل إلينا – منذ مولده إلى تخرجه في كلية الحقوق في سنة 1372هـ/ 1953م. ومن محيطه هذا تشرب الكثير من المبادئ والقيم، ومنه أيضاً أخذ طريقه إلى مصادر تكوينه الفكري والثقافي؛ وإلى الحياة الوظيفية بدءاً بتعيينه في مجلس الدولة، وصولاً إلى توليه منصب النائب الأول لرئيس هذا المجلس.
مدارس البشري
ترك أستاذنا الجليل – الراحل إلينا – لأمته مدارس عدة لا مدرسة واحدة: ترك مدرسةً في «كتابة التاريخ»، ومدرسةً في «القضاء الإداري»؛ وما أدراك ما القضاء الإداري المتعلق بالمصالح العامة! وترك أيضاً مدرسةً في «النقد الذاتي»، ومدرسة في «الاجتهاد والتجديد»؛ والتجديد الذي أقصده هنا هو التجديد بمعناه الأصولي الدقيق، كما ترك كذلك مدرسة في النزاهة والاستقامة ويقظة الضمير ومكارم الأخلاق ومحاسنها.
ترك لنا «تجربة في النقد الذاتي» نادرة المثال. والذين اطلعوا على مؤلفاته التي تغطي مساحات واسعة في التاريخ والقضاء والثقافة والفكر والفقه والأصول يعرفون أن من واحدة من أهم معالم تطوره الفكري تمثلت في نقده لذاته وهجرته من العلمانية، وعودته إلى الإسلام. وترجع أهمية هذه الهجرة إلى أنها نقلته من مسار إلى مسار آخر؛ من مسار النخبة المتغربة والداعية إلى التغريب، إلى مسار الإسلامية الأصيلة الداعية إلى النهوض والتجديد، على أسس الإسلام وعقيدة التوحيد، وفي نور مقاصده العامة.
لم تحدث هجرته التي نتحدث عنها فجأة، أو بين عشية وضحاها، ولكنها استغرقت سنوات عدة، وصلت إلى عقد كامل من الزمان؛ وامتدت من أعقاب هزيمة يونيو سنة 1967م، إلى أواخر سبعينيات القرن العشرين. وقد قام فيها بعملية نقد ذاتي؛ كانت عسيرة وطويلة وشاقة، وبعدها ظهر «طارق البشري الجديد» صاحب التوجه الإسلامي، وسرعان ما أضحى في القلب من النخبة العلمائية الإسلامية التجديدية. ويجب أن نلاحظ هنا أن تحوله من العلمانية إلى الإسلام ونقده لذاته لا يعني أنه كان قد انقطع في أي لحظة عن الإسلام كعقيدة إيمانية دينية، أو أن إيمانه الديني قد اهتز في أي وقت من الأوقات، لقد كان بقلب مؤمن وعقل علماني. وسرعان ما اكتشف أن هذه الحالة غير سوية، وأنه لا بد من الخروج منها برفع التناقض بين ما يتبناه عقله وما يؤمن به قلبه.
أحدث هذا النقد الذاتي لديه نقلة معرفية إلى الإطار المرجعي الإسلامي، وانعكس على منهجه في البحث والنظر، وعلى معاييره في الحكم على الأمور وتقديرها، وكذلك على رؤيته لذاته، وللعالم من حوله. وحدث ذلك كله بعد أن مر بمرحلة انتقالية جعلته يمكث فترة لا يعرف كيف يكتب. بل إنها جعلته – على حد قوله: «في حالة فقدان توازن لفترة».
وهو يصف لنا ما كان يشعر به في تلك الفترة بأسلوب أدبي أخَّاذ، يعبر عن عمق إيمانه القديم بأن «الهدى هدى الله» أولاً وقبل كل شيء، وبأن مشيئته سبحانه وتعالى قد اختارت له الهداية إلى أقوم السبل، قال:
وما إن استوت رؤيته الجديدة خارج النسق العلماني، حتى شرع يعيد النظر فيما كان قد قدمه من رؤى وتصورات وأفكار وكتابات، وأعلن على الملأ نتائج «مراجعاته» لنفسه، وكشف عن حصيلة نقده لذاته. ومن هناك بدأ عنده ما أسميه «مشوار السعادة»، أعني مشوار السعادة الفكرية الحقيقية، وهو ما سنفرد له مقالاً خاصاً بإذنه تعالى. ثم توالت أعماله الفكرية بعد الهجرة على أساس المرجعية الإسلامية الخالصة من أي شائبة، واستمر في «مشوار السعادة» هذا إلى منتهاه. وقد استقر إيمانه بالمرجعية الإسلامية بعد أن تأكد له أن العلمانية تفقده «الهوية»؛ لأنها تنفي البعدين: الروحي والعقدي معاً، ومن ثم تفقد الشخص إرادة الاستقلال التام. وقد تحدث عن ذلك في كتابه «المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية» (ص5): قال:
دخل أستاذنا الجليل – الراحل إلينا – إلى نقد التوجه العلماني في مجتمعاتنا من مدخل وطني صرف، وهذا المدخل دفعه للبحث عن البعد الذي غاب عنه من مفهوم «الاستقلال الوطني»، وهو: البعد الفكري الثقافي التشريعي، وأوصله هذا إلى إدراك مسألة «الهوية الذاتية الحضارية»، ووجد أن أساس هذه الهوية هو «الإسلام»؛ بما له من تراث حضاري موروث عريق، ولأنه قبل ذلك وبعده: عقيدة راسخة في قلوب وعقول جماهير الأمة. وعليه فإن واحدة من خلاصات تجربته تقول لنا: إن من أراد أن يكون وطنياً مصرياً أو عربياً خالصاً من الطراز الأول يجب أن يكون «الإسلام» هو النواة الصلبة لتوجهه، أو المسلمة الفكرية الأولى التي يتشبث بها، ويكون على هذه النواة مدار رؤيته وحركته، ويكون الإسلام لديه أيضاً هو المرجعية العليا المطلقة من كل وجه وبكل اعتبار. يقول:
وفي رأيي أن هذه الخلاصة السابقة هي لب المنظور الحضاري الإسلامي، الذي يؤمن به جيل جديد من مفكرينا الإسلاميين المعاصرين، وفي مقدمة مؤسسي هذا الجيل: أستاذنا الجليل – الراحل إلينا – طارق البشري. إن أساس هذا المنظور لدى هذا الجيل هو الوعي العميق بأصالة الحضارة الإسلامية، وعدم الانسحاق أمام الحداثة الغربية، والثقة في الذات، والإيمان بتميزها، والشعور بواجب القيام بتجديدها، وبث عناصر القوة في أوصالها، وإحياء مجدها وعزها. ولا يصل إلى هذا الهدف إلا من حسم مشكلة الهوية في داخله لصالح أمته وجماعته الحضارية، ولم تعد لديه مشكلة تعوقه، ولم يعد عنده التباس يعرقله أو يضلله، وهو يحاول فهم علاقات الترابط بين كل من «الهوية» و«الانتماء».
وعلى هذا المستوى من التأصيل النظري، والتأسيس المعرفي، أتت معظم كتابات أستاذنا الجليل – الراحل إلينا – أثناء سيره في «مشوار السعادة الفكرية» بكل ما في هذا المشوار من جهد واجتهاد وعناء، بدءاً من مشرق القرن الخامس عشر الهجري، بداية ثمانينيات القرن العشرين الميلادي، وحتى يوم رحيله إلينا. وهي كتابات تقدم – في مجملها – إسهامات رصينة ومفعمة برحيق القرآن في بناء النظرية الإسلامية المعاصرة؛ في مجالات الفكر، والقانون، والتشريع، والسياسة، والاجتماع، والثقافة، والأخلاق، والتاريخ.
امتد «مشواري» في معية أستاذنا الجليل – الراحل إلينا – خمسة وثلاثين عاماً؛ نعم، امتد خمسة وثلاثين عاماً، مشيت إليه فيها آلاف المرات؛ وكان من تصاريف القدر أنها بدأت مع بداية مشوار سعادته الفكرية التي تكلمت عنها هنا باقتضاب. وكان كل مشوار مشيته إليه يبدأ بمهاتفة قصيرة أقول له فيها: «سآتي للسلام عليك بعد قليل …» نصف ساعة، أو ثلث، أو ربع ساعة! فيرد مرحباً في كل مرة، وكأنها المرة الأولى.
لم يردني مرة واحدة طيلة خمسة وثلاثين عاماً، ولا اعتذر، مهما كانت الدقائق قليلة بين مهاتفتي إياه، وذهابي إليه؛ إلا إن كان مسافراً خارج القاهرة. وكل مشوار مشيته إليه وسعيت فيه للقائه كان بالنسبة لي «مشوار سعادة» لم أعرف لها مثيلاً، ولا بديلاً إلا قليلاً. وأكثر ما أثر في نفسي، وسيظل يؤثر فيها إلى ما شاء الله «ابتسامته» الأبوية التي كان يستقبلني بها وهو يرحب بي على عتبات بيته العامر.
وكانت هذه الابتسامة تبقى طويلاً بعد أن أجلس منصتاً إليه ما شاء لي الجلوس، ساعة وساعتين وثلاث ساعات، وأكثر؛ أتعلم منه طريقته في البحث والتفكير، ويفيض هو عليَّ من علمه الغزير، ومن أدبه العالي نادر المثال، ثم عندما يحين وقت الفراق أجد ابتسامته كما هي مشرقة وحانية كأنه يستقبلني من جديد. واليوم، وما أقساه على النفس من يوم توقفت فيه مشاوير السعادة إليه، بينما بدأ هو «مشوار السعادة الأبدية»، الذي كثيراً ما كان يصفه لي في الأيام الخالية بأنه «السفر الطويل». فاللهم هوِّن عليه، واجزه عنا وعن أمته خير الجزاء وأحسنه، وألحقه بالنبيين والصديقين والشهداء في جنات النعيم وحسن أولئك رفيقاً.