طارق البشري: شيوخه وقراءاته الحرة
من شأنِ «القراءة الحرة» أن تُوسِّعَ أفق صاحبها، وأن تفتحَ مداركه، وتصقلَ معارفه وتعمقها، وتجعلَها متجددة باستمرار. وبقدر الإقبال على القراءة في مختلف فروع المعرفة، وبقدر ما يتوافر للقارئ من الفهم والاستيعاب؛ تسهم القراءات الحرة في التكوين الفكري والوجداني والثقافي للقارئ. وعادة ما تُؤدي القراءات الحرة إلى تكوين «مكتبة خاصة»، يجمعُ فيها القارئُ ما يقتنيه من الكتب والدراسات التي يتخصص فيها أو يهواها.
إن نوعيات الكتب التي يقرأها المثقف- وبخاصة في المراحل الباكرة من حياته- تلقي لنا الضوءَ على جوانب مهمة من تضاريس تكوينه الفكري، وتساعدنا في الكشف عن مساراته التي سلكها، ومن ثم فهي تحتل مكانة أساسية بين المصادر التي يستقي منها ويرجع إليها.
بدأ «طارق البشري» قراءاته الحرة في مكتبات أفراد عائلته، ومنها انتقل إلى مكتبة المدرسة الثانوية، فمكتبة كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ومن بعدها مكتبة مجلس الدولة، ومكتبة محكمةِ النقض، ومكتبة نقابة المحامين. وإلى جانب هذا؛ فإنه كوَّن مكتبةً خاصة به. وقد كبرت مكتبته مع مرور الأيام وكر السنين؛ حتى صارت تحتوي على نحو عشرة آلاف كتاب.
في محيط العائلة، كانت قراءاتُه الأولى في مكتبة والده- من سن الثانية عشرة إلى الخامسة عشرة من عمره- وكانت مكتبة والده قانونية بحكم عمله بالقضاء، ولكنها كانت تحتوي أيضاً على بعض الكتب الأدبية، وبعض مجلدات المجلات الثقافية، ومنها مجلة «الهلال» العريقة. وكانت لجده الشيخ سليم مكتبة أزهرية كبيرة، وقال لي ذات يوم:
أما جده لأمه الشيخ محمد حسن غانم، فقد كان يمتلكُ مكتبة قيمة، أيضاً، وكانت تحتوي على كثير من كتب الفقه والأدب؛ منها كتاب «أسنى المطالب شرح روضة الطالب»، للشيخ «زكريا الأنصاري»، و«فتح الباري شرح صحيح البخاري» لـ«ابن حجر العسقلاني»، و«حاشية الدسوقي» في الفقه المالكي، وكتب للإمام الشعراني، وبعض كتب أبي العلاء المعري، مثل «سقط الزند»، و«اللزوميات»، وكتاب «صهاريج اللؤلؤ» للسيد توفيق البكري، و«ديوان الحماسة» لابن منقذ، وديوان «المتنبي». وقد قرأ «طارق» بعض ما في هذه المكتبة، وقلَّب في بعضها الآخر، بقدر ما أتيح له من وقت وجهد.
أما «مكتبة مصر الجديدة الثانوية»، فقد حكي لي أنَّها كانت تحتوي على كثير من الكتب، وأنها كانت عامرة بالكتب الأدبية بخاصة، وأنه كان يستعير منها بين الحين والآخر، ويجلس للقراءة في قاعاتها الفسيحة، ويطالع دواوين الشعر وكتب الأدب في أوقات الفراغ. وفيها وفي غيرها قرأ لكبار الأدباء من أمثال: عباس العقاد، وطه حسين، ومحمد فريد أبو حديد، وعبد العزيز البشري، وغيرهم من أعلام الأدباء المعاصرين، وأتاحت له هذه القراءات أن يلمَّ بالاتجاهات الأدبية التي ظهرت في مصر خلال النصف الثاني من القرن الرابع عشر/النصف الأول من القرن العشرين (تقريباً).
وفي المرحلة الجامعية، كان يتردد بكثرة على مكتبة كلية الحقوق بجامعة فؤاد. وفيها واصل قراءاته الحرة في كتب القانون، إلى جانب بعض القراءات في كتب الأدب العربي، وكتب الفقه الإسلامي.
بعد تخرجه في الجامعة، واصل قراءاته الحرة. وصارت قراءاته أكثر تركيزاً في مجالات عمله القانوني والقضائي. وواظبَ على القرءاة في مكتبة مجلس الدولة، ومكتبة محكمة النقض، ومكتبة نقابة المحامين، وقرأَ مجلات القانون القديمة، ومؤلفات الأساتذة من الجيل الذي سبقه. ودفعه شغفه إلى القراءة إلى استئذان رئيسه في العمل أن يستخرج نسخةً من مفتاح مقر عمله بمجلس الدولة- وكان آنذاك في ميدان عابدين بوسط القاهرة- وكان يمكثُ فيه الساعات الطوال، منفرداً أو مع زملاء له؛ بعد انتهاء وقت العمل، في النهار، أو في الليل، أو في أيام الأجازة. وقد أفادته تلك القراءات المركزة في المجال القانوني؛ فيسَّرت له مادته، وعن ذلك قال:
وانعكست اهتماماته بالقراءات الحرة على الكتب التي اشتراها، وكوَّن منها مكتبته الخاصة التي تضم- كما ذكرنا آنفاً-ـ نحو عشرة آلاف كتاب. وقد زرتُ مكتبته الخاصة الموجودة في منزله بحي المهندسين، أكثرَ من مرة، وهي تحتوي على قسمٍ صغير (ألفين ونصف ألف كتاب تقريباً) من كتب مكتبته الأكبر التي كان يحتفظ بها في شقةٍ أخرى خاصة بالمكتبة وحدها بالجيزة. وهي مصنفة تصنيفاً عاماً في سبعة مجالات هي: القانون، والفقه والتفسير والحديث، والتاريخ السياسي لمصر وللدول العربية والإسلامية- لكل منها قسم خاص بها- والتاريخ الأوروبي، والأدب العربي والغربي، والفلسفة، والاقتصاد والاجتماع.
في واحد من لقاءاتي معه قال لي، إن القليل من مقتنياته من الكتب عبارة عن إهداءات من بعض معارفه وأصدقائه، والباقي- وهو أغلبُها- اشتراه من باعةِ الكتب بسور الأزبكية، ومن ميدان السيدة زينب، ومن حول الأزهر الشريف، ومن بعض معارض بيع الكتب، ومن المكتبات القديمة بالقاهرة، وأهمها: «مكتبة عم الطيب»، وكانت تقع في شارع متفرع من شارع عبد العزيز قرب ميدان العتبة، و«مكتبة الشيخ علي خربوش»، في درب الجماميز. وقال لي، إنه اشترى منها كتباً كثيرة، و«مكتبة زنانيري» بأرض شريف بشارع محمد علي، و«مكتبة دار التراث» لصاحبها الحاج توفيق عفيفي بشارع الجمهورية؛ ووصفها لي بأنها:
وقد ذكر أنه اشترى منها الكثير من الكتب، ومنها: كتاب «مصر للمصريين» لـ«سليم نقاش»، وكتاب «الخطط التوفيقية» لـ«علي مبارك». أما «مكتبة المستشرق» بشارع قصر النيل، فقد اشترى منها عدداً كبيراً من الكتب الخاصة بتاريخ مصر في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين/التاسع عشر والعشرين الميلاديين، ومنها: الكتب التي ألفها اللورد كرومر، وجورج لويد، وكتاب «قناة السويس» لـ«مصطفى الحفناوي». ولا تزال أغلب هذه المكتبات التي ذكرها موجودة إلى اليوم، وإن قلَّ روادها عن ذي قبل.
تأثره بمعاصريه من كبار العلماء
جاء في الأثر أن «العلماء ورثة الأنبياء» (جزء من حديث أبي الدرداء عن النبي، صلى الله عليه وسلم، رواه: ابن ماجه، وابن حبان، وأبو داود، والدارمي)؛ فهم حملةُ العلم، وعليهم يقع عبءُ توصيله إلى أقوامهم، كما أن عليهم أن يكونوا قدوة في ضرب المثل للعمل به. ولهذا فإن العلماء يسهمون في التكوين الوجداني والمعرفي لأبناء أمتهم، وأحياناً لكل بني الإنسان وليس أبناء أمتهم وحدهم؛ وذلك من خلال المبادئ التي يدعون إليها، والأفكار التي ينشرونها ويسهرون على رعايتها، ومن خلال المواقف التي يثبتون فيها ويصدعون بكلمة الحق ولا يخافون في قولها لومة لائم؛ وهنا يكونون هداةً لمن خلفهم، ويتأثر كثير من الناس بآرائهم وأعمالهم؛ حتى ولو لم يلتقوا بهم.
وقد تأثر المستشار البشري- بنسب متفاوتة- بعددٍ من كبار علماء عصره ومفكريه، وعبر عن مشاعرِه نحوهم، وتكلَّم عن مكانتِهم في أمتِهم، وأشار إلى صلته ببعضِهم، وتقديره لهم.
صاحبُ الأثر الأكبر في «طارق البشري» هو الشيخ «محمد الغزالي» (وُلد يوم 5 من ذي الحجة 1335هـ/ 22 سبتمبر 1917م– وتوفي يوم السبت 20 من شوال 1416هـ/ 9 مارس 1996م). قال لي إن كتابه «عقيدة المسلم» هو أولُ كتاب قرأه له في سنة 1370هـ/ 1951م، وكان البشري وقتها في السنة الثالثة بكلية الحقوق، وكان عمره ثمانية عشر عاماً.
وعن عمق الأثر الذي تركه هذا الكتاب فيه قال:
أعجبتْهُ في الشيخ الغزالي أمورٌ كثيرة، منها: «التوازن العجيب الذي قدره الله عليه»، و«اليسر والسهولة في التعبير عن الأمور المعقدة؛ سيان أن تقرأه، أو تسمعه، فتعبيره في الحالين يسير مشرق؛ كأنه يبتسم لك في كل عبارة». وأعجبه فيه أيضاً: شجاعتُه، وجسارته، وقوته. ويرى أن مصدر شجاعته- طيب الله ثراهما- هو «خوفه من الله»، وأن أساس جسارته هو «عمق إيمانه بالإسلام، وفهمه له، وخوفه عليه»، وأن مصدر قوته هو «ضعفه أمام الله، سبحانه تعالى».
وقد حدد علاقته بالشيخ الغزالي بكلمات تفيض أدباً معه وتقديراً له. قال عنه:
ويمكننا أن نقول إن تأثره بالشيخ الغزالي تأثر إيماني وفكري وعقلي في مقام واحد، وإن أعظم ما في هذا التأثير هو أنه مبني على قاعدة معرفية إسلامية خالصة من غير شائبة.
«خالد محمد خالد»، عالم آخر عاصره طارق البشري وأُعجب به، ووافقه في بعض آرائه وخالفه في بعضها الآخر. لقد تفتح إدراكه الفكري والسياسي- هو وأبناء جيله- على كتابات الأستاذ «خالد محمد خالد»، وما كان ينشره من آراء واجتهادات فكرية وفقهية وسياسية. وتابعه طارق البشري في مواقفه الشجاعة، وهو بالنسبة له «رجل موقف… تكلم بقلب أسد، وثبات جبل».
وقوة الموقف- في رأي البشري- لا تُقاس بساحتها الزمنية أو المكانية، ولكن الموقف القوي قد يُلخص عمراً كاملاً لرجل أو لجماعة. وإن أقوى ما يكون الموقف مع النفس. والبشري يرى «أننا لن نكون أقوياء على غيرنا (من الأعداء) قبل أن نكون أقوى على أنفسنا منا عليهم». وقد كان «خالد محمد خالد»، قوياً على نفسه، رجاعاً إلى الحق، وعلى هذا النحو رآه طارق البشري، وتأثر به.
وتأثر المستشار- طيّب الله ثراه- أيضاً بالمواقف القوية للشيخ «جاد الحق علي جاد الحق»- شيخ الأزهر- وهو يدافع عن استقلال الأزهر في مواجهة السلطة، وعن الإسلام وعن معتقداته، وفي الذود عن حرمات الله، وفي النهوض بالأمانة التي تحملها، وبخاصة عندما صار شيخاً للأزهر الشريف (1402هــ/1982 – 1416هـ/1996م).
وأعظم مواقفه في رأي البشري: «دعمه استقلال الأزهر، وسعيه للنهوض به علمياً، وليس فقط بالكلام». إن حرص الشيخ جاد الحق، على الأزهر، واستشعاره المسئولية الكبيرة في المحافظة عليه، وفي صيانة كرامة العلم، وكذلك ميزانه الدقيق في النظر للأمور، وفي قيادته أعرق وأهم مؤسسة إسلامية؛ كل ذلك هو ما جعله يحتل مكانته الرفيعة في موكب مشايخ الأزهر العظام على مر التاريخ. وتلك هي منزلته في نظر «طارق البشري»، وذلك هو تقديره له. قال لي إن الشيخ جاد يكفيه أنه: «ترك الأزهر وهو أفضل مما كان عليه يوم تسلم مسؤوليته كشيخٍ له».
الحديث عن مصادر التكوين الفكري والثقافي والوجداني للمستشار البشري يكشف لنا عن أمور مهمة من النواحي التربوية والمعرفية وأهمها: أنها إلى جانب تعددها وتنوعها، قد أوصلته بروافد التراث العربي الإسلامي من ناحية، وبروافد الفكر الغربي الحديث وتياراته الفكرية والسياسية والثقافية من ناحية أخرى؛ سواء منها ما وفد إلينا وفوداً مباشراً من الغرب في الزمن الاستعماري، أو تلك التي نبتت في بلادنا متأثرة بالمرجعية الفكرية والمعرفية العلمانية الغربية.
والذي حدث أنه صار- وبخاصة بعد تخرجه في الجامعة وفي بداية حياته العملية- علماني التفكير، يفصل بين الشئون العامة؛ بما فيها الشأن السياسي، وينظر إليها على أساس علماني قح، وبين الشئون الخاصة، وينظر إليها على أساس أخلاقي ديني صرف.
وتعمّق توجهه العلماني مع تعمقه في قراءة الفكر السياسي والفلسفي الغربي، ومع توسعه– أيضاً- في الاطلاع على تاريخ الحركات السياسية الغربية، والثورات الاشتراكية في العالم، وما ارتبط بها من تجارب ثورية وحركات تحررية في البلاد المستعمرة. وظل ذا تفكير علماني قح مدة عشر سنوات، من 1960 إلى 1970م، تقريباً، وهي السنوات التي شهدت بدايات إسهامه بالكتابة في الشأن العام، حيث بدأ يكتب في عدد من المجلات اليسارية، مثل: «الطليعة»، و«الكاتب»، و«روزاليوسف»، وكان ذلك بدءاً من سنة 1964/1965م. واستمر يكتب فيها على نحو متقطع إلى مطلع السبعينيات من القرن العشرين، ثم توقف ولم يرجع للكتابة فيها حتى آخر حياته.
في تلك الفترة كان علمانياً قحاً- على حد تعبيره هو- وكان وضع الدين في ذهنه هو أنه «علاقة بين الإنسان وربه»، وانحصرت صلته بالإسلام في المجال الذاتي الفردي وحده. يقول:
تلك كانت «علمانيته». وذلك كان إيمانه كما عبر هو عنه. ثم لما وقعت هزيمة 1967، وانتكست كثير من الأفكار، وتراجعت تيارات فكرية متعددة، وصعدت تيارات أخرى، ليس على مستوى مصر وحدها؛ وإنما على المستويين الإقليمي والعالمي- وبخاصة خلال مطالع القرن الخامس عشر الهجري/ الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين- كان جزءاً من عملية التحول الفكري، وإعادة البناء الثقافي والسياسي، التي خاضها عدد من أبرز أعضاء النخبة الفكرية المصرية الحديثة. وكان مسارهم الرئيسي في عملية التحول على طريق الاستقلال الحضاري، والانتقال من العلمانية كإطار مرجعي ورؤية معرفية وضعية، إلى الإسلام كإطار مرجعي أصيل، ورؤية معرفية إيمانية.