فيلم TÁR: الفنان ديكتاتور عالمه وأسيره
يؤمن «نيتشه» أن أكبر خطيئة في تاريخ الفلسفة، حدثت عندما انتقل اليونانيون من تقديس «ديونيسوس» إله الخمر والفن، لتقديس «سُقراط» الذي جادل بالعقل والمنطق والخير.
يخلو عالم نيتشة من مفاهيم مثل الخير والشر والحقيقة الخالدة التي يُمكن الوصول إليها ببراهين حكيمة كل خطوة فيها تقود بالمنطق للأخرى كما يفعل سُقراط، عالم نيتشة تحكمه إرادة القوة وحسب، وبقدر قوة المرء يُمكنه صنع الحقيقة التي يريدها وإخضاع الأضعف منه لها، يرى نيتشة الفن باعتباره أصدق مثال على تلك الفلسفة.
الفنان إله مُتسلط على قطعته الفنية، يصنع من فوضى الأحداث حكاية، ومن ضوضاء الأصوات موسيقى، لا يبحث الفنان عن حقيقة مٌخفاة إنما يصطنعها مما يقدمه له العالم من مادة ويسحر المُتلقين بها. في عالم «نيتشة» الفنان ليس نبيًا يُبشر بحقيقة اكتشفها، بل إله يؤسس لعالم خلقه بقوته. لهذا نجد أول كتاب سطره نيتشه في مسيرته الفكرية، لم يكن عن الفلسفة بل الفن، وتحديدًا الموسيقى، بعنوان «ميلاد المأساة من روح الموسيقى» تأثرًا بموسيقى «ريتشارد فاغنر».
لم يختر نيتشة قائدًا عسكريًا ولا مُفكرًا فلسفيًا ليضع على أكتافه عبء فلسفته بل موسيقارًا لا أكثر، بشر نيتشة بأوبرا «فاغنر»، الموسيقار الذي يُحيي بأنغامه المأساة الإغريقية، وفيها البطل يحمل قدره فوق أكتافه ويحاول صنعه بطرق مشروعة أو ملتوية دون أن يستسلم لإرادة الآلهة. من تمرد هؤلاء الأبطال ولد العالم الذي نعرفه، من النار التي قدمها «بروميثيوس»، ومن بطولة «سيزيف» في مُخادعة إله الموت وشجاعة «زيوس» في قتل أبيه وتحرير إخوته من جوفه.
آمن نيتشة أن تلك الشعرية الموسيقية التي تقدس فعل القوة مهما خالطته الخديعة أو الجريمة لا يُمكنها وحسب صنع أوبرا خالدة بل أوروبا جديدة وزمنًا جديدًا تخفت فيه أضواء العقل الخالص لصالح إرادة القوة والغريزة.
في 2022 عاد المُخرج الأمريكي «تود فيلد» بعد 16 عامًا من الغياب بفيلم TAR، مؤكدًا في حواراته أنه أراد صُنع فيلم يدور حول القوة، من يمتلكها، ومن أي زاوية ننظر لها؟
لم يختر تود لإبراز منظور القوة خاصته قصة رجولية عنيفة أو قصة تدور في أروقة السياسة والمال حيث القوة محور الصراع وعنوانه، بل اختار أن تتجلى القوة عبر الموسيقى، وعبر موسيقار عبقري يٌشبه فاغنر، وهي ليديا تار!
الفنان يخلق الزمن
يبدأ العرض بانقلاب زمني مُربك، فنجد تتر النهاية هو مُبتدأ الفيلم، يصعب في المعتاد أن يجلس المُتلقي بعد انتهاء الحكاية لمُتابعة Credits تمنح التحية لصُناع العمل من أصغر عنصر فيه للمُخرج ذاته. يؤسس «تود فيلد» من البداية لفيلم لا يدور حول الحكاية إنما صانعها، لا يدور حول الموسيقى بل المايسترو، وتحديدًا سمة القوة أو السلطان الذي يمتلكه على كل عناصر القصة، وإيقاعها الزمني، لذلك يؤسس المايسترو سلطانه من البداية بجعل مُبتدأ الحكاية نهايتها. لأنها تدور عنه بالأساس وعلى الجمهور أن ينصاع ويتابع أسماء لم يكن ليعبأ بها أبدًا في الظروف العادية.
يسرد الفيلم في أول 15 دقيقة السيرة الذاتية لليديا تار عبر لقائها مع صحفي النيويوركر الشهير «آدم جوبنيك»، يقدمها باعتبارها قائدة أوركسترا برلين الحائزة على جوائز عالم الموسيقى كافة من الأوسكار للجرامي، مؤلفة كتاب على وشك الصدور، وتعمل على تقديم نُسختها من سيمفونية «غوستاف مالر» الخامسة.
نُدرك من البداية أن شخصية المايسترو ليست هوية ليديا على خشبة المسرح وحسب إنما تمتد خارجه لتُشكل رؤيتها للعالم، في المشاهد التالية تتحكم كليًا في مسار المُناقشة باختلاف رتبة من يحاورها، بدءًا من مُعلمها وأقرانها في عالم الموسيقى وصولًا لزوجتها وابنتها.
تتجلى تلك القوة بتراتبيتها القاسية -حيث مايسترو متحكم ومستجيب مطيع- بشكل خاص في حضور مُساعدتها الشخصية «فرانشيسكا»، التي تُجسد نقيضها، تتلقى أوامرها بحضور خاضع لا يتمثل الطاعة بقدر ما هو حضور مقموع عاطفيًا أمام سُلطة المايسترو.
الفنان يعزف لحنه
تحافظ تار في كل انفعالاتها على وجه المايسترو الجامد، المُستغرق فيما لا نعرفه لكنه لا يتحفز وينتبه لمن حوله إلا بظهور نشاز، خطأ في اللحن، عندها يتسلط بحضوره ليستعيد إيقاع عالمه.
تظل ليديا مُمسكة بزمام عالمها على خشبة المسرح وخارجه، حتى يأتي خبر انتحار عازفة سابقة في الأوركسترا، تُدعى «كريستا»، عندها تطلب تار من مُساعدتها محو كل المراسلات الإلكترونية التي تحوي اسم الضحية. يتحول النشاز الصغير في اللحن لإيقاع هدام عندما يوجه والدي «كريستا» اتهامات علنية لتار بكونها السبب في الحادث لوجود علاقة إغواء منها لابنتهما مع وعد بتصعيدها في الفرقة تم التنصل منه فيما بعد.
لا يمنحنا المخرج أبدًا إطلالة على عوالم تار الداخلية لنُدرك حقيقة ما حدث، رغم أن الحكاية عن المايسترو فإن السرد يوجهنا دومًا بعيدًا عن دواخلها للخارج، للحن الذي تُريد تار فرضه على القصة لا اللحن الحقيقي.
تخبر تار تلاميذها أن خطيئة العازف أن تكون نواياه ضبابية، ألا يعرف ما يقوله، كل عازف يُجيب عن نفسه في موسيقاه، مهما كانت مزخرفة أو عارية أو مُتجملة، عليك فقط أن تعرف ما الذي يقوله اللحن، بتتبع القاعدة الموسيقية وتطبيقها على الفيلم، يعدنا المُخرج «تود فيلد» أننا سوف نجد حقيقة بطلته لا في مشهد مُباشر إنما في فُتات ولفتات عابرة من لحن تار المُحكم وما تقدمه تفاعلاتها اليومية.
بينما تدور مأساة الضحية كريستا وسؤالها في الخلفية، نجد تار تتودد لعازفة كمان روسية في فرقتها، ومثلما تُحرك اللحن بإيماءة عصا ليتغير إيقاع العزف كاملًا، تستبعد بعض أفراد طاقمها وتُحرك الجميع كالبيادق لتصير عازفتها الجديدة بطلة الأوركسترا الرئيسية.
في مزيج من التسلط والتودد تطلب من مُساعدتها محو رسائل وماضي كريستا الذي نُدرك بشكل ضبابي أن فرانشيسكا كانت جزءًا منه ثم تُغري الأخيرة بوضع اسمها في قائمة المرشحين لإدارة الفرقة مع وعد خفي باختيارها (وهو وعد ستتنصل منه فيما بعد).
بينما في مشهد عابر خلال اصطحابها ابنتها للمدرسة، تُقابل ليديا الصبية التي تنمرت على ابنتها، تُهددها بوحشية لتكف عن طفلتها ثم تهمس لها أن أحدًا لن يُصدق لو أخبرتهم أن تار هددتها، لأنها تنتمي لعالم البالغين، الكبار. لا أحد يصدق الصغار.
نُدرك من اللحن الطاغي على الحكاية واللفتات التي يُقدمها المخرج لليديا كشخصية متلاعبة مخيفة تتنصل من وعودها وتحرك الجميع كنغمات النوتة أنها على الأرجح تسببت في انتحار كريستا، وأن تهديدها لزميلة ابنتها ليس تهديدًا عابرًا إنما إدراك كامل للقوة التي تُجسدها بمكانتها، فهي لا تنتمي لعالم البالغين وحسب بل عالم الأيقونات والآلهة في مهنتها الموسيقية، وأمام روايتها تبهت كل الروايات الأخرى ويصير صوت الضحايا نشازًا عابرًا.
الفنان في مرآة ذاته
لا تظهر ليديا فيما تفعله خارج المسرح كشخصية شريرة، بل تظهر كمايسترو، يفعل ما يحق له، وينتزع ما يجب عليه انتزاعه ليُكمل لحنه، لا تبدو ليديا مُدركة لشهوانيتها وأسلوبها المتنوع بين الترهيب والاغواء باعتبارهما شرًا، شهوانيتها تستمد شرعيتها من شخصية المايسترو وأسلوبها المُتلاعب بالشخوص بين الترهيب والترغيب يمكن رؤيته في طريقة تحريك عصاها على خشبة المسرح، مفتاح شخصية ليديا هو انعدام الحدود بين كينونتها ووظيفتها، لا انفصال بين سُلطان المايسترو وأساليبه على خشبة المسرح وخارجها، في كل سياق تبدو ليديا مثل مايسترو سوف يُضحي بكل شيء وكل شخص لأجل اكتمال لحنه.
لهذا لا يحضر الضمير أو الحساب من داخل ليديا، بل من الخارج، في صورة عين مُراقبة ومتلصصة، نراها من المشهد الأول في لقاء المايسترو مع الصحافة، نُراقب المشهد كاملًا من خلف أكتاف مُشاهد خفي لا نعلم هويته، بينما على مدار الحكاية تسمع ليديا ضوضاء لا تُدرك مصدرها، في أحد المشاهد تحاول تتبعها لكنها ما إن تقترب حتى تفر مذعورة وتُدمي جسدها خلال الفرار.
لن يحضر الضمير أو العقاب لعوالم ليديا إلا بالاستعارة نفسها التي تكسو عالمها، في صورة نشاز أو ضوضاء تُفسد انسجام لحنها الحادث، ضوضاء لا تعلم مصدرها وحضور خفي لشخص لا ينتمي لعازفي الأوركسترا خاصتها، عين تُراقبها من الخارج وتُفسد إيقاع عالمها بالضوضاء، لن نعرف أبدًا مصدر الضوضاء، التي تبدو في النهاية أنها خيالات المايسترو نفسه أو ثمن أفعاله.
الفنان في قفص المحاكمة
في أحد المشاهد يرفض طالب عزف موسيقى «باخ» أو تذوق عالمه لأنه شخصية بطريركية أبوية يصعب أن يتقبلها بصوابية العالم الحديث، تنزعج تار لأن تلميذها يستبعد جمالية الفنان بالكُلية بتقييمه أخلاقيًا تبعًا لثقافة إلغاء أو لقواعد لا تنتمي لعالم الموسيقى بالأساس.
يحضر جدال الصوابية السياسية وخطرها على الفن في فيلم TAR، كامتداد جمالي لجدال نيتشه الفلسفي ذاته، تنتمي تار بتسلطها وقوتها وشهوانيتها لكل ما دافع عنه نيتشه، قوة الفنان في خالق العالم الذي يُريده وتقديمه للمُتلقين، أخرج نيتشة تلك الجمالية من عالم الفن وطبع بها الوجود بأكمله كقانون للعالم، وأخرجت تار سُلطتها من خشبة المسرح وحكمت بها عالمها الشخصي بكل أفراده.
في عالم نيتشة وتار لا وجود للخير والشر إنما قوتها في ما تفعله وقدرتها على فرض انسجامها الشخصي على عالمها من دون أن يفسد إيقاعها نشاز. بينما يحضر مد الصوابية الجديد بقوانينه ليُحاكم الفن ذاته والفنان لقوانين المنطق والخيرية والبراهين التي قوض بها سقراط العقل الغربي في نظر نيتشه.
تنزعج تار من تلاميذها الذين يعافون الاستغراق في جمالية فنان لأنهم حاكموه أخلاقيًا قبل أن يتذوقوا موسيقاه ثم يصير الانزعاج هاجسًا عندما تتسرب محادثاتها الإلكترونية مع الضحية وتخضع لمُحاكمة أمام الرأي العام، وتُنزع عنها بعنف كل سلطاتها وتحديدًا قيادة أوركسترا برلين، تجد ليديا نفسها وقد عاشت كمايسترو حاكم لعالمه، الجميع في عالمها بيادق، نغمات محددة على نوتة مضبوطة، أسيرة لمحاكمة لا تعترف بمعاييرها، مثلما وقف ديونيسوس والفن مُذنبين أمام عقلانية سقراط وأخلاقيته.
الفنان في مواجهة العالم
ما يُثير الشجن في شخصية سقراط أنه مات بسبب حكمته، أو ديمقراطية أثينا التي جعلت لكل العوام رأيًا، فحكمت عليه الأغلبية بالإعدام بتهمة إفساد عقول الشباب، إنحاز سقراط للصوابية التي ساءل بها القناعات المُسبقة والأفكار الرجعية في عالمه بدلًا من القوة، وخضع في النهاية لمحكمة الصوابية ذاتها. من أغلبية لم تتكلف عناء تذوق جمالية فلسفته.
لا تقف ليديا نادمة أمام سقوطها المُدوي، لا نرى في عينيها أسفًا، فقط غضب نيتشوي عميق من عالم تُسيره الصوابية وليس القوة، عالم سوف تُختزل فيه جماليتها للأبد في شهوانيتها وفضائحها الشخصية، وبعد مئة عام سيقف الطلبة بلا اكتراث أمام ميراثها ليقولوا لن أعزف ألحان ليديا لأنها شخصية مُنحلة أخلاقيًا.
لا تنبع عزلة ليديا على مدار الحكاية لخطاياها ولكون الحكاية تُروى من منظورها إنما لأنها ترى العالم بعين فنان لا ينتمي لعوالم الخير والخطيئة بل القوة على اجتراح لحن خالد أو العجز عن اجتراحه. لذلك تفقد ليديا صوابها بعد طردها ثم تنقض على المايسترو البديل لتُبعده بينما تحاول أن تقود الأوركسترا من جديد، لكنها تقف أمام عازفين جمدتهم الصدمة، لا تقف أمامهم بخزي النادم إنما بشعور العجز الذي تختبره لأول مرة وهي تُحرك عصاها ولا ينصاع لها أحد، مثل إله بلا مشيئة.
في عوالم المخرج «دارين أرنوفسكي» نجد أفلامًا مثل Wreslter وBlack Swan، أفلام يستغرق بطلها في حالة هوس بفنه، لا يتحقق الفنان إلا على خشبة المسرح أو الحلبة لكنه خارجهما بلا حول ولا قوة لهذا تنتهي الحكايات دومًا بفناء الفنان في عرضه الفني.
تمثل حكاية «TAR» مقلوب عوالم «أرنوفسكي» فالفنان لا يهدف للتحقق وحسب في حلبته فرارًا لها من انهيار عالمه وأدواره بالخارج، الفنان يهدف لغزو العالم بأكمله وتحويله لحلبة ومسرح لفنه، وتحويل البشر ذواتهم لأدوات ونوتات لعزفه، لا يناقش TAR الفن باعتباره ملاذًا لصاحبه وتحقق فردي، بل إرادة قوة وطُغيان جارف لا يجد جذورًا له إلا في إرادة صاحبه بينما العالم كله مسرح تحققه، لهذا في النهاية ترفض تار المحاكمة ومعاييرها التي تجعل عقوبة جرائمها هي إخراس فنها وتسافر لأرض بعيدة يُمكنها فيها استعادة مشيئتها وإرادتها الفنية.
ما يجعل فلسفة نيتشة حية حتى اليوم هو أن المرء لا يمكن رغم إدانته للقوة في كثير من صور طغيانها إلا الافتتان بصورتها، وبقدرة فنان أو ذات إنسانية على فرض إرادتها على نسيج العالم حولها، لذلك يبقى سؤال الصوابية مُحيرًا في كثير من جوانبه، هل إدانة تار الأخلاقية -وهي مستحقة بالطبع- تُمثل حكم الإعدام على إرثها الفني، الذي أكده الفيلم باعتبارها أعجوبة موسيقية في زمنها؟
تبدو عين المراقبة المتلصصة والضوضاء التي تحاول تار تتبع مصدرها تنويعًا ذاتيًا عن ضميرها الذي يؤرقها لكنها تخرسه بإرادة المايسترو لأنه يفسد اللحن، وتبدو كذلك تنويع جمعي عن العالم الذي يُراقب الفنان ويُحاكم الفن لمعايير لا تخصه. كانت خطيئة تار الأساسية أن شخصية المايسترو مارست إرادة القوة خارج خشبة المسرح فصار البشر بيادق لشهوانيتها، وتم استغلالهم كاستحقاق لعزف لحنها الخاص، تلك خطيئة في ترسيم الحدود بالأساس، لكن على الجهة الأخرى توجد خطيئة أخرى في مُحاكمة عالم الفن وأصحابه لمعايير صوابية لا تنتمي لجنس الفن الذي يُنتجونه، وجوهر تلك الخطيئة ليست فقط في إعدام إرث فنان مُدان أخلاقيًا، بل في أن يفرض عالم الفن الرقابة على ذاته من الداخل فتتم فلترة الفنون قبل إنتاجها لتناسب صوابية شرسة، معاييرها صارمة.
يمثل «TAR» مُساءلة دقيقة حول ترسيم الحدود، بين الفن والعالم في جدلية قد يصير فيها العالم أسير وجدان فنان مُخيف ديكتاتور مثل ليديا، أو الفن أسير معايير صوابية شرسة تزداد قوة كل يوم. جدلية القيمة الأساسية فيها للقوة، التي اختارها «تود فيلد» باعتبارها سؤال فيلمه، واختارها نيتشه باعتبارها حل فلسفته وترياق عالمه.