تميم (4): الصبح تلميذ لأحجار فلسطين
وماتزالُ فلسطينُ هي المَبْدأ والمُنتهى. وما تزالُ -وإن كَثُرَت الجروح- هم أمُّها. وفلسطينُ هي فصلُ المقال. وهي الفرقان بين حقِّ وباطل في كل ما ومن حولنا. و«تميم البرغوثي» من الناجحين في اختبار فلسطين بتفوق. فقضيتُها هي التي مَنَحَتْهُ الوُجْدانَ والعُنْفُوان، والإبداعَ والإمتاع.
ومن يكنُ متحدثا رسميا باسم الجُرح الفلسطيني أكثرَ حُرْقَة وإقناعا من نصف المصري نصف الفلسطيني الذي نشأ في كنف رضوى الطنطورية، ومريد الذي لا يرى -ببصرِهِ وبصيرته- سوى «رام الله» وأخواتها؟!
فلا عجَبَ أن ينفقَ تميم ثلثيْ طاقة إبداعِهِ الاستثائية -كما وكيفا- من أجل فلسطينَ وقدسِنا بشكل مباشر. أما الثُلُثُ الباقي.. فهو لها بشكل غير مباشر!ولا عَجَبَ بالطبع أن يستحيلَ على مقالٍ واحدٍ أن يحيطَ بما بين تميم وفلسطين .. فكل جانب من هذه العلاقة يحتاجُ إلى مقالاتٍ – بل دراسات – للإطلال على بعض ما فيه من ألمٍ وأمل.
يبدو أن قدرَ فلسطينَ الواجبَ أن تُعدِّل -بلحمها ودمها- من بوصلةِ الأمةِ الشاردة. وهكذا لا تكلُّ فلسطينُ ولا تملُّ من محاولة انتشالنا -ولو للويحظاتٍ مُنتَزَعَة- من مُسْتَنْقعِ احتراباتِنا الداخلية، وإن كان الثمن آهاتٍ وآنَّاتٍ جديدة تضافُ إلى رصيدها اللانهائي.
ومازال أطفالُ وشبابُ حجارتها هم أشرفُ وأشجعُ ما فينا. وما زالوا يصيحون في وجهِ الموتِ.. أيها الموتُ خَفْ أنتَ! نحنُ هنا لم نَعُدْ خائفين! وما زالوا يقيمون الحجة تلو الحجة على عربِ هذه الأمة وعجمِها الذين أمعنوا في خيانتنا وخيانتهم، وأثخنوا في بعضهم بما لم يفعلْ مِعشارُهُ عدوٌّ حاقد. ووأدوا ربيعَنا وآمالَهُمْ في مهدِها، وأدخلونا في هذا النفقِ الباردِ الكئيب الذي لا يبدو في أوله ولا آخرِهِ مثقال ذرةٍ من ضوء.
وستظلُّ تصدُقُ فيهم كلماتُ تميم في كل أُفُقٍ وحين.
وهكذا يعلمون الزمان وأهلَه فنونا من العزة والإنسانية قد نُسِيَتْ و أُنسِيَت. أيُّ روْحٍ خلَّاقةٍ فريدةٍ تكْمُنُ في جسمٍ صغير فترتقيَ بهِ إلى ملكوتِ الإقدام والاستبسال، فيشقُّ بحجرٍ من أرضِ فلسطينَ وجهَ السماء، ويواجِه الميركافا الصهيونية والخيانات العربية بصدرٍ مفتوح، وقلبٍ يدْمَع، ولكنه لا يفزَع ولا يجزع؟! وهكذا تستَكمل سيمفونية الموتُ فينا وفيكُمُ الفَزَعُ عرضَها المستمر منذُ سبعينَ عاما
فيردُّ العدو الرعديد على الحجر بألف رصاصة وقنبلة ليفتِك بجموعهم، أو على الأقل ليمنحَ نفسَهُ فرصة ً للفرار من قصفِهم!
لكن هيهات، فهاهم يهبون وسطَ الدخانُ والركام، لا ترى فيهم إلا إصرارا ويقينا تجسدا في عينيْنِ صارمتيْنِ صامِدَتيْن أشرقتا فوقَ اللثام.
وهكذا يستضيءُ بهم هذا الزمانُ الحالكُ الكالح، وينتزعون لنا منهُ صُبحَهُمُ الباسل.
ويواصلونَ معركتَهُم مع الزمانِ المميت وسارقيه. ويقصفونَ العدوَّ المدرعَ بأكفِّهِم. ويَهْزَأُونَ بأفتكِ منتجاتِ الموتِ التي لا يملُّ عدوُّنا من اختراعِها وتجريبها في صدورِهِم العارية.
وهكذا يتسابقون جميعا في كتابةِ أسطورةً فريدةٍ من المجدِ والشهادة أبدعَ ما فيها واقعيَّتُها الأسطوريَّةْ ! .. أسطورةً نشاهِدُها على الهواءِ مباشرةٍ وإن لمْ نملِك – للأسفِ – سوى المشاهدةِ
ويصبرون صباحَ مساء على ابتلاءِ اللهِ الشديدِ لهم في آخر الزمانِ بهذا العدوِّ الخسيسِ الجبان ! … العدو الذي يفرُّ من الحجَرِ، ويرتجِفُ من الفرقَعة !. فيقفون لعدوهم هازئينَ مُبَكِّتين مُعَيِّرين
وتستمرُّ فلسطينُ في جهادِها، لا تعبأ بعدوِّ شائِن ولا بأخٍ خائن، وتظلُّ تُسدِدُ عن أمتِها دينَ الإباءِ والفِداء. وستظلُّ أسرابُ طيورها تقيمُ دولتَها في الريحِ بين رصاصَتَيْن! وسيظلُّ مرابطيها بأكنافِ بيتِ المقدس يُحيطُهُم ويُحيطونَهْ. ويظلُّ الزمانُ وأهلُهُ يتلقونَ منهُم الدروس. ويظلُّون يتنفسونَ إيمانَهمُ بالنصر في وجهِ صنوفِ الموتِ والغدر. وسيظلونَ قابضينَ على جمرِ الأمل حتى يَيْأسَ منهُمُ اليأس. وكلَّما همَّ أنْ يَقُولَ لهُم.. بأنهُمْ مهزومونَ ما اقتنَعوا!