تيمورلنك: حملة السنوات السبعة
تيمورلنك والمماليك
كان المغول يعتقدون بأن كل العالم من حق شعب جنكيز خان ويجب أن يخضع الجميع لهم، وورث تيمورلنك معتقد جنكيز خان وهو ما يعبر عنه بمقولته “أنه يجب ألا يوجد سوى سيد واحد على الأرض طالما أنه لا يوجد إلا إله واحد في السماء”.
كانت فكرة غزو بلاد الشام حلمًا يرواد قادة المغول منذ الهزيمة في عين جالوت لكن عجزت جيوش المغول الضخمة عن الاستيلاء على الشام في ظل وجود المماليك حكام مصر والشام، حتى سقطت دولة مغول الاليخانات التي أسسها هولاكو أعداء المماليك، وعاد الحلم مرة أخرى للتجدد على يد تيمورلنك.
التحرك باتجاه العراق والأناضول
بدأ تيمورلنك حملته في 1399 م / 802 هـ بأن بعث جزءًا من جيشه إلى بغداد التي قامت بها ثورة على ظلم أحمد بن أويس فاضطر للهروب من المدينة وذهب باتجاه الشام، ثم قام باللجوء إلى السلطان بايزيد الصاعقة بعد أن رأى حالة التفكك في سلطنة الممماليك، وطلب تيمورلنك من بايزيد تسليم أحمد ولكنه رفض بعبارات لم تكن لترضي غرور تيمورلنك. وهنا أعلن تيمورلنك سياسته القادمة بقوله: “سأقوم أولًا بإخضاع الأتراك”.
أرسل السلطان بايزيد الصاعقة رسالة إلى السلطان فرج يطلب فيها التحالف ضد تيمورلنك، وكان رد أمراء المماليك هو الرفض وكان ردهم على الرسل[1]:
الآن أصبح بايزيد صديقا لنا، وعندما مات سيدنا برقوق فإنه قام بغزو بلادنا والاستيلاء على ملطية، إنه ليس بصديق لنا، فليحارب ليدافع عن بلاده، ونحن سندافع عن بلادنا
تحرك تيمورلنك بباقي جيشه باتجاه الأناضول وقام بحصار مدينة سيواس، وبعد حصار دام ثلاثة أسابيع استسلمت حامية المدينة المكونة من ثلاثة آلاف مقاتل لتيمورلنك مقابل ألا يراق دمهم، وكان تيمورلنك وفيا بوعده حيث قام بدفنهم أحياء، ثم تحرك بجيشه واستولى على ملطية ثم بهسنا ثم عينتاب مدمرًا وقاتلًا كل من يصادفه وارتكب مذابح شاملة لكل السكان في هذه المدن.
لم يقم العثمانيون بأي رد فعل على هجوم تيمورلنك على مدنهم، وكذلك المماليك الذين كانوا مصابين بالشلل التام نتيجة الصراعات على السلطه. تغيرت خطط تيمورلنك بعد استيلائه على مدينة عينتاب الخاضعة لسلطنة المماليك؛ حيث حدث أمر جعله يغير وجهته ليصطدم بالمماليك أولًا.
أرسل تيمورلنك رسالة إلى حاكم دمشق سودون يطلب فيه الإفراج عن الأمير المغولي أطلمش[2] والخضوع له والخطبة له وصكِّ العملة باسمه، لكن سودون كان له رأي آخر حيث قام بقتل رُسُل تيمورلنك بتوسيطهم[3]، وكان رد فعل بالمنظور العام يتصف بالحماقة، لكن كان أمراء المماليك على علم بأنه على الرغم من التفسخ الذي أصاب الدولة؛ إلاأن الجيش المملوكي كان ما يزال أفضل الجيوش في الشرق، وقد جرب تيمورلنك مواجهة المماليك في العراق وانهزم، وكانوا مقتنعين أن مدن الشام الرئيسية حصينة ومنيعة على جيش تيمورلنك كما كانت منيعة على جيوش المغول من قبل، كما كانوا على علم أن قوات تيمورلنك منهكة من القتال في العام الماضى في الهند، وكانوا قد وصلوا لقناعة أن تيمورلنك لن يستطيع البقاء في الشام من أجل الاستيلاء على المدن المحصنة وهو سيكون معرضا في أى وقت لتهديد الجيش المملوكي الرئيسى المتمركز في مصر وأنه سيضطر للانسحاب.
سقوط مدينة حلب
وصل تيمورلنك بجيشه الجرار إلى مدينة حلب في أكتوبر 1400/803،كانت قد احتشدت داخل مدينة حلب قوات المماليك الشامية “حلب ودمشق وصفد وطرابلس وحماة وحمص” تحت قيادة أمير حلب دمرداش المحمدي.[4]
وحدث انقسام كبير بين أمراء المماليك عن كيفية مواجهة العدو، فكان هناك فريق ينادي بالتفاوض مع تيمورلنك، وفريق ينادي بالقيام بهجوم شامل على جيش تيمورلنك، وفريق اقترح الصمود داخل أسوار المدينة. وفي النهاية تغلب الرأي بأن يخرجوا لمواجهة الجيش المغولي خارج حلب بعد أن يئسوا من وصول الجيش المملوكي الرئيسي من القاهرة[5]، وكان هذا سوء تقدير من أمراء المماليك لحجم جيش تيمورلنك.
بدأت المعركة بأن اندفعت ميمنة المغول لتشتبك في قتال عنيف مع ميسرة جيش المماليك، وكان القتال متكافئًا حتى اللحظة التي أطلق فيها تيمورلنك الأفيال المدرعة باتجاه الجيش المملوكي، تشتت ميسرة الجيش المملوكي وفرّت باتجاه أسوار المدينة وتسببت الأفيال في تفكك الجيش المملوكي بأكمله وتفشي الفزع بين المقاتلين، وقتل تحت سنابك الخيل أكثر ممن قتل في المعركة نفسها، واقتحم جيش تيمورلنك مدينة حلب ويصف مؤرخ تيمورلنك ما حدث بقوله:
لقد لاحقتهم قواتنا المنتصرة بأقصى سرعتها، وقاموا بقتل الكثير من الفرسان والمشاة لدرجة أن أكوام القتلى ارتفعت، واكتظت بوابات وشوارع المدينة بالجثث لدرجة أن جنودنا كانوا يمرون بخيولهم بصعوبة من فوقها.
اعتصم أمراء المماليك في قلعة حلب شديدة الحصانة والمناعة، لكن كان الأمراء يعلمون أن الجيش المملوكي لن يصل إلى المدينة لنجدتهم واضطروا للاستسلام تحت ضغط المجازر التي ارتكبها تيمورلنك بالمدينة، عسى باستسلامهم يتم إيقاف المجازر ،لكن مصير حلب لم يتغير، فقامت مذبحة كبيرة في المدينة واغتصبت النساء ولم ينجُ أحدٌ من القتل حتى الأطفال. وتم إشعال النيران في المدينة لمدة أربعة أيام بعد تدميرها تدميرا شبه كامل، وحبس تيمورلنك أمراء المماليك المستسلمين له، وسقطت المدينة التي طالما تصدت للمغول والصليبيين والبيزنطيين، وأصبحت حلب موحشة مظلمة تنعي أطلالها.
استولى ابن تيمورلنك ميران شاه على مدينة حماة التي لم تستطِع الصمود، وفعل بالمدينة نفس ما فعله أبوه بحلب ولاقت مدن بعلبك وصيدا وبيروت نفس المصير، ونجت مدينة حمص من التدمير والخراب لأن تيمورلنك بعد استيلائه على المدينة عفا عنها إحتراما لوجود قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه بالمدينة[6].
موقف السلطان فرج والأمراء في مصر
كان أمراء الشام قد أرسلوا التحذيرات والاستغاثات المتتالية إلى السلطان والأمراء في مصر منذ أن وصلت قوات تيمورلنك عينتاب، لكن الجميع كان يبحث عن مصلحته منغمسًا في الصراع على السلطة، ثم لما بدأ تيمورلنك في التحرك باتجاه بوابات الشام أرسلوا إلى السلطان والأمراء في مصر يستحثونهم، فجمع السلطان الأمراء والقضاة والعلماء للتشاور في فرض ضرائب على العامة وأخذ نصف الأوقاف للإنفاق على أعداد الجيش، ورفض العلماء والقضاة هذا الأمر لعملهم لحقيقة الأمر وأن أمراء المماليك لديهم ما يكفي ويزيد لإعداد الجيش وأنه لا حاجة لهذا الأمر.
وفي أغسطس 1400 م / 803 هـ أرسل السلطان الأمير اسنبغا الدوادار لكي يقف على حقيقة الوضع في الشام، ولكى يعبئ القوات لمواجهة جيش تيمورلنك، وصل الأمير استبغا وعلم بحقيقة الوضع وأرسل إلى السلطان في القاهرة بأن المغول وصلوا إلى مدينة حلب، ومع ذلك لم يتم حشد الجيش وإعلان التعبئة العامة، في ظل هذا التقاعس قام شيخ الإسلام “سراج الدين عمر البلقيني” بجمع العلماء والائمة ونادى بالجهاد في شوارع ومساجد القاهرة.
وصل الأمير استنبغا الداوداري إلى قلعة الجبل وأخبر السلطان والأمراء بسقوط حلب، فعلم السلطان والأمراء بعظم الحادث، فأصدرت الأوامر بتعبئة القوات، وجمع كل جنود الحلقة، وجمع الخيول والجمال، وطلب البدو من كل أنحاء مصر للاشتراك في القتال، وتحرك السلطان بجيشه في نوفمبر 1400/803 بعد أن أضاع ثلاثة أشهر كاملة من وصول أول تحذير واستغاثة.
المواجهة بين السلطان فرج وتيمورلنك
وصل السلطان الناصر فرج بجيشه إلى دمشق في ديسمبر 1400/803 وعسكر عند قبة يلبغا بظاهر دمشق، وأخذ في الاستعداد لمواجهة جيش تيمورلنك، الذي وصل بجيشه وعسكر غرب قبة يلبغا بحوالي ميلين، بدأت المناوشات بين الجيشين وتعرضت مقدمة جيش تيمورلنك لهزيمة قاسية وأسر بعض قواته وتعرضت فرقة مملوكية لكمين محكم من جانب المغول وتعرضت لهزيمة كبيرة.
استخدام تيمورلنك بعض أساليب الحيل والخداع منها إيصال معلومات عن أن عددا كبيرا من جيشه سينضم للمماليك، وأن ملك قبرص سيهاجم بقواته سواحل الشام ومصر، وأن تيمور عازم على الرحيل من الشام، ولم تنطلِ هذه الخدع على السلطان والأمراء.
ثم أرسل تيمورلنك رسالة عرض فيها السلام مقابل الإفراج عن الأمير أطلمش، وأن يفرج هو عن الأمراء الذين أسرهم يوم حلب، وتحقق غرض تيمورلنك من الرسالة بتفجر الخلافات بين أمراء المماليك، في هذه الأثناء خرج بعض الأمراء من دمشق وساروا باتجاه القاهرة لكي يخلعوا السلطان ويسلطنوا مكانه الأمير لاجين الجركسي، فبادر باقي الأمراء والسلطان بترك المدينة واللحاق بهؤلاء الأمراء وتركوا دمشق لكي تواجه مصيرها المحتوم.
سقوط مدينة دمشق
أضحت مدينة دمشق دون أي قيادة تنظم الدفاع عنها إلا أنه تجمع كل أهلها، وكان قد تجمع بالمدينة خلق عظيم ممن فر من باقي مدن الشام، تجمع الناس وما تبقى من الجنود على أسوار المدينة وأبوابها للدفاع عنها.
هاجم المغول المدينة هجومًا عنيفًا واستطاعوا اقتحام إحدى البوابات، إلا أن الجند وأهل دمشق استطاعوا ردهم بل وأسروا عددا كبيرا من جنودهم ممن دخلها وقطعوا روسهم، أعيا أمر المدينة تيمورلنك فعمل على الاستيلاء عليها بالحيلة، أرسل تيمورلنك إلى أهل المدينة يدعوهم إلى الصلح، فأرسل أهل دمشق القاضي ابن مفلح الحنبلي ليفاوض تيمورلنك، وعد تيمورلنك القاضي بالانسحاب وترك المدينة مقابل أن يدفعوا مليون دينار.
رفض نائب قلعة دمشق هذا الأمر وأصر على القتال وأغلق بوابات المدينة ومنع خروج أحدٍ منها، إلا أن القاضي بالتشاور مع العلماء والأعيان تجاهلوا هذا الأمر وجمعوا المال،فلما جاؤوا به لتيمورلنك غضب وطلب منهم عشرة ملايين دينار، فجمعوا له المال أيضا بمشقة ولم يعجبه ما جمعوه وصادر كل الأموال الخاصة بالسلطان والأمراء هناك، وألزم تيمورلنك الفقهاء بإعداد خطط لكل شوارع المدينة وأحيائها وفعلوا ذلك وكانت له محادثة شهيرة مع ابن خلدون، وكانت أبواب المدينة قد فتحت بعدما انطلت الخدعة على العلماء والفقهاء وغالبية أهل المدينة[7].
واعتصم نائب قلعة دمشق ومعه أربعين مقاتل من المماليك بالقلعة، دخل جيش تيمورلنك المدينة وحاصر قلعة دمشق، واستمر في قصف أسوار القلعة مدة تسعة وعشرين يوما حتى استسلمت له وقطعت رؤوس من تبقى على قيد الحياة من هؤلاء المماليك.
وزع تيمورلنك أحياء المدينة على أمرائه وجنوده وأمر أهل المدينة بأن يجمعوا له ثلاثين مليون دينار، ولما عجز أهل المدينة عن تجميع المال قام جيش تيمورلنك بنهب المدينة بأكملها وأنزلوا صنوف العذاب بأهلها، فقد كان يسحق الرجال بعصارات الزيتون، ويدفنون أحياء ليقوموا بإخراجهم قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة ويقومون بتكرار هذا الأمر، ويسحل الناس في الشوارع عن طريق ربطهم بالخيول، وتم تجميع عدد كبير من الناس في مسجد بني أمية وإحراقهم فيه. وكأن قدر الشام أن تعاني من الطغاة في كل زمان.
ساد الرعب في شوارع القاهرة عندما وصلت الأنباء بسقوط دمشق وانتظر الجميع تحرك تيمورلنك باتجاه مصر، لكن تيمورلنك لم يكن ليغامر بالدخول في صدام مروع مع قوات المماليك التي كانت ستدافع عن معقلها القوي بكل ما أوتيت من قوة، وكان ما يزال للجيش المملوكي هيبة في نفس تيمورلنك، ففي مارس 1401م / 803 هـ خرج تيمورلنك من دمشق آخذا معه كل العمال المهرة والحرفيين من المدينة، وسار باتجاه بغداد التي كانت صامدة حتى هذه اللحظة في وجه قوات المغول المحاصرة لها.
[1] كان بايزيد الصاعقة قد استولى على مدينة ملطية التابعة لسلطنة المماليك عشية وفاة السلطان برقوق راجع مقالنا السابق.[2] كان أطلمش هذا أحد أقرباء تيمورلنك وكان قد أسره الأمير يوسف التركماني في حملته على أرمينيا عام 1395 م / 798 هـ وأرسل إلى القاهرة، وطلب تيمورلنك من السلطان برقوق الإفراج عنه ورفض السلطان برقوق طلبه.[3] التوسيط هي أشهر طرق الإعدام في العصر المملوكي، وأكثرها استخدامًا على امتداد ذلك العصر، وكان يتم خلالها شطر الضحية بالسيف إلى جزئين بالعرض من منتصف الجسم.[4]حاول تيمورلنك أن يضرب بالحيلة أمراء المماليك فأرسل رسولا إلى أمير حلب يدعوه فيه أن يكون نائبًا للمدينة تحت سلطانه، فجمع أمير حلب أمراء المماليك وأخبرهم بالأمر في حضور الرسول الذي قال للأمراء: «إن مولاي الإمبراطور لم يأتِ إلى بلادكم إلا بعد مكاتبة هذا الرجل، وأشار لدمرداش المحمدي». لكن فطن الأمراء لهذا الأمر وقاموا بقتل الرسول في وقتها.[5] كانت كل هذه الأحداث والجيش المملوكي في القاهرة لم يتحرك لأن كل الأمراء في مصر خائفين من المؤامرات التي يمكن أن تدبر بمجرد خروج الجيش من القاهرة.[6] كان تيمورلنك يُظهر أنه شيعي تارة وسني تارة أخرى وموقفه في مدينة حمص يوضح ذلك.[7] أظهر تيمورلنك لأهل دمشق وعلمائها أنه المسلم المحافظ على الشعائر ويصلي الصلاة في أوقاتها وكان يقول للوفد الذي يفاوضه عن مدينة دمشق “هذه بلد الانبياء وقد أعتقتها لرسول الله صدقة عن أولادي”. وحين قام بزيارة قبر أم المؤمنين السيدة حبيبة قال “يا أهل الشام مثل هذا القبر يكون بلا قبة عليه؟أنا إن شاء الله أبنى قبة عليه”. وكان يتعمد في مجلسه إمام علماء دمشق أن يذكر الله ويستغفر ذنوبه ويظل ممسكًا بسبحته، فلما تحقق غرضه ودخل المدينة ارتكب فيها ما ذكرناه في المقال.