طالبان والجهاديون العرب: شهادة أبو مصعب السوري
يُعد «أبو مصعب السوري» واحدًا من أهم أعمدة الفكر الاستراتيجي للتيار الجهادي في العالم الإسلامي، والشخصية الجهادية الوحيدة التي كتبت مذكرات عن فترات هي الأهم في تاريخ الحركات الإسلامية الجهادية.
من هذه المذكرات شهادته عن أفغانستان وحركة طالبان. فقد هاجر نهائيًّا إلى أفغانستان عام 1997م إثر إعلان حركة طالبان «إمارة أفغانستان الإسلامية»، وبايع الملا عمر في قندهار، واحتك بالعديد من مختلف مستويات حركة طالبان، وتم تعيينه في العديد من الوظائف في وزارة الإعلام، فكان يكتب في جريدة «الشريعة» الناطقة الرسمية باسم الإمارة، ويشارك في إعداد برامج إذاعة كابل العربية، كما أسس أثناء تواجده في أفغانستان «مركز الغرباء للدراسات الإسلامية والإعلام»، ومجلة «قضايا الظاهرين على الحق».
مهندس التيار الجهادي
يُمثل أبو مصعب السوري حالة فريدة في التيار الجهادي؛ نظرًا لخبرته الكبيرة التي حصَّلها، وحياته المليئة والحافلة بالمشاريع الميدانية؛ بدءًا من سوريا وتنظيم الطليعة المجاهدة، ثم تنقلاته إلى بلدان عديدة، واستقراره لبعض الوقت في فرنسا لإتمام دراسته في هندسة الميكانيكا، ثم ذهابه لإسبانيا واتخاذها مكان إقامة له، فكان يذهب إلى أفغانستان لفترات معينة ويرجع إلى إسبانيا، حتى إنه لما تزوج من امرأةٍ إسبانية «إيلينا مورينو» قضى شهر العسل كما يروي في أفغانستان على أصوات المدافع وأضواء القصف[1].
وفي أثناء رحلاته إلى أفغانستان وباكستان تعرف على «الشيخ عبدالله عزام» وتوطَّدت علاقته به، وصحبه حتى مقتله سنة 1989م، ثم عاد بعدها إلى إسبانيا واشتغل بالتجارة لمدة سنتين، ثم تركها وسافر إلى لندن ليدرس العلوم السياسية، وأسس في لندن مركز «دراسات صراعات العالم الإسلامي» عام 1996، وهو ما أتاح له العمل مع وكالات الأنباء العالمية، وبالفعل أنجز عددًا من المشاريع الإعلامية، وتعرض بسبب ذلك إلى تحقيقات ومتاعب من الأمن في بريطانيا، فَاتخَذَ قرارًا بالهجرة نهائيًّا إلى أفغانستان بعد أن درس الواقع فيها، واستطلع وضع الطالبان.
كان لأبو مصعب نشاطات عديدة في أفغانستان؛ منها فكري وإعلامي ودعوي واقتصادي، وقد تمتع بعلاقات كبيرة مع مختلف التيارات، ولما استقر بأفغانستان، أَنشَأَ فيها «أكاديمية ومعسكر الغرباء» بدعم كامل من طالبان وتنظيم القاعدة، وكان هذا المعسكر يخرج مجاهدين متدربين بدنيًّا وفكريًّا، إضافة لاهتِمَام أبو مصعب الكبير بالدراسات والإعلام، وقد كتب العديد من البحوث والدراسات المرتبطة بفكره الجهادي، والمرتبطة أيضًا بتجاربه الاستراتيجية والميدانية، وهو من أوائل من كتبوا عن التجارب الجهادية في أفغانستان وسوريا والجزائر.
وقد عُرف عنه اطلاعه وثقافته الواسعة، ولذا يكثر من القول: «آمنت بالقراطيس» إضافة إلى انفتاحه على المدارس والتيارات الفكرية كافة، وإجادته لأكثر من لغة أجنبية. وله العديد من الكتب والأبحاث والمحاضرات في الفكر العسكري والتنظير الاستراتيجي، والتحليل السياسي والشرعي، ولديه معرفة وإحاطة بالمعطيات الميدانية والسياسية، إضافة إلى مستوى التماسك في الفكر والكتابة.
ويصفه برينجار ليا، الباحث في قضايا الإرهاب والتطرف ومستشار مؤسسة الأبحاث والدفاع النرويجية، بقوله:
وحين استقر أبو مصعب في أفغانستان، وعايش حركة طالبان واحتك بكبار الشخصيات فيها، سجل لنا تفاصيل هذه الرحلة في كتاب حمل عنوان: «أفغانستان والطالبان ومعركة الإسلام اليوم» والذي يعتبر من أهم إنجازاته الميدانية، فقد توافرات له الكثير من المعلومات الميدانية عن طالبان، نتيجة احتكاكه بمختلف مستويات طالبان، واطلاعه ميدانيًّا على دوائرهم التعليمية والسياسية والفكرية والتنظيمية. والأهم أن الكتاب لا يقدم معلومات سردية أو سطحية، بل يعتبر الكتاب شهادة من الداخل على بيئة منغلقة لم نعلم عنها إلا القليل، وشهادة أيضًا على حركة كان وما زال لها أثر كبير في مجريات الأحداث.
طالبان و«معركة الإسلام اليوم»
كتب أبو مصعب هذا البحث الميداني عام 1998م، وهو من أوائل المؤلفات التي تناولت حركة طالبان من الداخل، ويحكي في المقدمة عن أسباب كتابته لهذا الكتاب، والهدف من هذا البحث، فيقول:
وَيُقسِّم أبو مصعب شهادته إلى ثلاثة فصول، خصص الفصل الأول منها لتوصيف الواقع السياسي وأطراف الصراع في أفغانستان، وحال الأحزاب المعارضة لحكم طالبان، ووضع بقايا المجاهدين العرب في أفغانستان، ثم ذكر الإيجابيات والسلبيات التي عايشها مع حركة طالبان.
وفي الفصل الثاني تكلم عن ثلاث قضايا رئيسية: الأولى عن الحكم الشرعي لحكومة حركة طالبان، وهل أفغانستان دار إسلام تجب الهجرة إليها أم لا؟ والثانية عن حكم القتال بجانب طالبان؟ والثالثة عن حكم الدفاع عن طالبان؟
أما الفصل الثالث فكان رَدًّا على الشبهات والأسئلة المثارة حول حركة طالبان، وأتى بواحد وعشرين شبهة قسمها إلى: شبهات شرعية، وشبهات سياسية، وشبهات أطلق عليها «تهويش وجدال»، ورد عليها جميعًا.
ثلاثة فصول تنوعت بين الشهادة والتحليل السياسي الشرعي، والفقه الجهادي الحركي، والنقد التحليلي والفكري، إضافة إلى الرد على معظم الشبه المثارة ضد الطالبان من خلال نقل الأدلة من القرآن والسنة والاستشهاد بفتاوى ونصوص تاريخية، وأقوال لبعض الفقهاء في هذه الحال، وختم شهادته بخلاصة لكل التحليلات التي ذكرها، وأكد فيها على وجوب الجهاد والهجرة إلى أفغانستان، وأنها الحل لمشاكل المسلمين.
واقع الصراع وأطرافه في أفغانستان
ابتدَأَ أبو مصعب الفصل الأول من الكتاب بذكر المعلومات الضرورية عن واقع الصراع في أفغانستان في الثمانينيات والتسعينيات، وأكد على أن سياسة أمريكا بعد انسحاب «الاتحاد السوفيتي» كانت ترتكز على منع إقامة حكومة إسلامية إثر جهاد مشرف، لذلك سعت إلى تغذية الصراعات بين الأفغان ليتم استهلاك مخزون الأسلحة والذخائر فيما بينهم في حروب وصراعات، وتنتهي قضية أفغانستان من قلوب ومخيلة الأمة الإسلامية وما عاشته من آمال، ويصبح الجهاد في النهاية مرتبطًا بحروب أهلية دموية، ويؤكد أبو مصعب على أن هذا التشويه قامت به وسائل إعلام حكومات الغرب والعالم الإسلامي والعربي (ص35).
وذهب أبو مصعب إلى وجود مخطط من الأمم المتحدة لتشكيل جيش أفغاني براتب (300$) للفرد ليقوم بفرض حل الأمم المتحدة على أفغانستان (ص36)، ولكن ظهور حركة طالبان ونجاحهم أفشل هذا المشروع. ويرى أبو مصعب أن ولادة طالبان جاءت كنتيجة طبيعية وعفوية لحالة الفساد والفوضى التي حلت بأفغانستان، لذلك رحب المجتمع الأفغاني بالطالبان، ووجدوا فيهم خلاصًا من الفساد والفوضى الموجودة. ونظرًا لأن حركة طالبان ولدت من رحم تيار الملالي فقد كانت أهداف ومطالب طالبان تتمثل في: تطبيق الشريعة، وإخراج الشيوعيين وأذنابهم من الحكومة، وإخراج النساء من دوائر الدولة، ومنع الفساد ودور الدعارة والسينما والموسيقى والفيديوهات الفاسدة التي انتشرت في كابل (ص16).
لماذا دعمت باكستان حركة طالبان؟
من بين الأمور المهمة التي ذكرها أبو مصعب، الدور الذي قامت به دولة باكستان في دعم حركة طالبان. ويذهب إلى أن السبب في ذلك هو خسارة باكستان لكل أوراقها في أفغانستان. فقد خرج حكمتيار عن سياستها واصطلح مع رباني، حليف المثلث المعادي لباكستان «الهند – إيران – روسيا»، فلم يكن أمام باكستان إلا تبني لاعب جديد يعوض خسارتها في الأوراق السابقة، ويكون عمقًا استرتيجيًّا لمواجهة المثلث المعادي، لذلك دعمت باكستان طالبان بقوة، واستفادت طالبان كثيرًا من الدعم الباكستاني دون أن تتحول لتابع، وخرجت عن تصورات الساسة الباكستانيين.
وبحسب أبو مصعب، فإن باكستان تنظر إلى أفغانستان وطالبان على أنهما تابعان لها، ولذلك حنق الكثير من أفراد طالبان على سياسة باكستان، ووصلت الأمور بينهم في بعض الأحيان إلى صدام مسلح وإغلاق الحدود لفترات محدودة (ص109). ويشهد على ذلك مواقف كثيرة أشهرها: تدمير تماثيل بوذا في مارس 2001 م، رغم محاولة باكستان منع تدمير تماثيل بوذا، وكذلك رفض طالبان توسط باكستان في تسليم «أسامة بن لادن» لأمريكا، وأن هذا الأمر لا يعني سوى أفغانستان وأمريكا.
طالبان «جهادية» وطالبان «وطنية»
واحدة من أهم النقاط التي تكلم عنها أبو مصعب من خلال معايشته لحركة طالبان، هي وجود تيارين داخل طالبان: الأول صالح وقوي، لديه التزام بالشريعة وبمفهوم الأمة، ومؤيد لعالمية الجهاد، ومتمسك بعدم تسليم المجاهدين العرب، ومن هؤلاء الملا عمر. أما التيار الثاني فهو تيار ضعيف، ملتزم بالوطنية القطرية، ولديه استعداد لموالاة القوة الإقليمية والدولية (ص124).
ويؤكد أبو مصعب أن هذا التيار لديه استعداد للتخلي عن العرب وتسليمهم مقابل تحقيق مصالح أفغانية ذاتية، وهذا التيار لا يتبنى مفهوم الأمة، ويفكر فقط بمصلحة أفغانستان ويُقدمها على أي مصلحة أخرى، ويؤكد أبو مصعب على أن هذا التيار يمتد كل يوم ويكسب أشخاصًا جددًا، لذلك ينصح أبو مصعب العرب بأن يقوموا بدعم وتقوية التيار الأول، ويساعدوا على تعميق الجذور معهم، وتقوية الشعور بالانتماء للأمة.
طالبان في نظر «السوري»
من خلال معايشته للواقع الأفغاني واحتكاكه بمختلف مستويات حركة طالبان، ذكر «أبو مصعب» سبع إيجابيات لحركة طالبان:
أولًا: تطبيق الشريعة، ويؤكد أبو مصعب على أن طالبان أقامت المحاكم الشرعية، وطبقت الحدود والشريعة الإسلامية علي كل شبر استولوا عليه، ولم تستثنِ أحدًا من تطبيق الشريعة، حتى على أفراد الحركة أنفسهم، ويقول أبو مصعب:
ثانيًا: انتشار الأمن والاستقرار بعد عشرات السنين من الفوضى والحرب، وهذا الواقع اعترف به خصوم الطالبان.
ثالثًا: نشر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس، ويذكر أبو مصعب أن طالبان أسست وزارة مستقلة لهذا الغرض، وكان لهم وعاظ يطوفون في الشوارع ويلزمون الباعة والناس والنساء بالسلوك الشرعي، ويدعون الناس إلى الصلاة في المساجد، ويؤكد أبو مصعب على اهتمام طالبان بالعلم الشرعي وإنشائهم لمئات المدارس الدينية لنشر الدعوة والإسلام، وقد زار بنفسه هذه المدارس وتكلم عنها، فقال:
رابعًا: محو آثار الشيوعية وأسلمة الهيكل الوظيفي للدولة من أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية، ويذكر أبو مصعب أن طالبان قامت بتصفية معظم كوادر الشيوعيين إلى أن فر الباقي خارج البلاد، ويحكي عن أسلمة الوزارات فيقول:
خامسًا: إعادة بناء البنية التحتية للدولة، فقد عملت طالبان على ترميم المصانع وإعادة رصف الطرق المدمرة وبناء الجسور المهدمة، وأصلحوا الكثير من الجسور والطرق الرئيسية، ووصلوا الماء والكهرباء لبعض الأراضي وتحركت التجارة شيئًا فشيئًا، ويؤكد أبو مصعب على ذلك فيقول:
سادسًا: مراقبة طالبان للمنظمات المسيحية التبشيرية وإغلاقها للعديد من المكاتب والبعثات التبشيرية، ويذهب أبو مصعب إلى أن أفغانستان بها نحو (123) منظمة تبشيرية، ولديهم إمكانيات وأموال مهولة في بلد مدمر وبحاجة إلى كل شيء، ويذكر «أبو مصعب» أن طالبان ضبطوا بعض هذه الهيئات توزع كتبًا ومنشورات للتنصير؛ فأعدموا اثنين من الأفغان المتعاونين، وأمروا هذه المؤسسات بنقل مكاتبها خارج العاصمة، وهذا الأمر أوجد لطالبان أزمة ومشاكل مع الأمم المتحدة والمنظمات الغربية (ص85).
سابعًا: إيواء المجاهدين العرب والمسلمين وحمايتهم، ويستفيض «أبو مصعب» بكثير من القصص التي تبين كرم وضيافة الأفغان للعرب وحبهم لهم، وتثبت أن الطالبان قاموا خير قيام بواجب الجار مع المستجير، ويذكر موقفًا للملا عمر حين تم تهديده من قبل أمريكا باستخدام السلاح النووي إذا لم يُسلم أسامة بن لادن والمجاهدين العرب، واجتمع ساعتها كل وزراء الطالبان عند الملا عمر لمدة ثلاثة أيام ليتخذوا قرارًا، ويؤكد أبو مصعب على أن الجميع توقع أن يجمد نشاط العرب ويتم ترحيلهم، فذهب أبو مصعب مسرعًا لأحد وزراء طالبان ليسمع نتيجة الاجتماع، فقال له الوزير:
وبعد أن انتهى أبو مصعب من ذكر إيجابيات طالبان، انتقل إلى ذكر السلبيات التي عايشها، وعدها إلى ثماني سلبيات:
أولًا: انتشار الصوفية بمختلف مراتبها من التربوية إلى البدعية المنحرفة، ويؤكد «أبو مصعب» على أن أفغانستان بها الكثير من القبور والأضرحة التي يقصدها الناس للزيارة، ويعيب وينكر على الطالبان عدم هدمهم للقبور والأضرحة، أو حتى توفر برامج مستقبلية لإلغاء الأضرحة ومنع الناس من زيارتها، ويستفيض بكثير من التفصيل والنقد على الطالبان بسبب بنائهم لكثير من القبور والأضرحة لبعض الشهداء والمولوية الذين توفوا في عهدهم، ويذكر أبو مصعب عن لقاء له مع عالم كبير من علماء أفغانستان وهو «الشيخ يونس خالص» وقد تجادلا في أمور القبور والأضرحة، إلى أن أكد له الشيخ بقوله: «نحن الأفغان نعتقد بجواز زيارة القبور والتبرك بآثار الصالحين»، ويؤكد أبو مصعب بعد لقائه بكثير من علماء الأفغان؛ أن قضية الأضرحة والتبرك والتماس البركة مستساغة حتى عند كبار علماء أفغانستان (ص22).
ثانياً: التعصب الشديد للمذهب الحنفي، ويؤكد أبو مصعب على أن كل علماء حركة طالبان متعصبون للمذهب الحنفي، وأن معظم الأفغان لم يسمعوا بالمذاهب الأربعة، ولا يحكمون بغير المذهب الحنفي، لدرجة أنه لو جاء الإمام الشافعي بنفسه إلى أفغانستان فإنه سيُمنَع، فلا يمكن أن ينشأ مذهب آخر، ويبين أبو مصعب هذه الإشكالية فيقول:
ثالثًا: الجهل العام بالسياسة الدولية والإقليمية، وينتقد «أبو مصعب» عدم وعي وإدراك طالبان ألاعيب السياسة الدولية، وذلك لأن دخول طالبان لعالم السياسة كان عفويًّا، ويؤكد على أنهم سيحتاجون لوقت ليس بالكثير لفهم السياسة (ص23).
رابعًا: موقفهم من المحافل الدولية والأمم المتحدة، واستفاض أبو مصعب كثيرًا في هذه القضية، وانتقد طلب طالبان بحقهم في عضوية الأمم المتحدة وبكرسي أفغانستان، وعدَّها مشكلة كبيرة وأكبر سلبية لطالبان، ويقول: «وعندي ربما كانت تعدل أو تزيد على مشكلة القبور والأضرحة». وذكر أنه تواصل مع كبار الشخصيات في طالبان من أجل نصحهم وتنبيههم إلى المزالق الشرعية والأفخاخ السياسية التي سيقعون بها إذا انضموا إلى الأمم المتحدة، وحاول أن يبين لهم «لا إسلامية» الأمم المتحدة، وأن قراراتها منحازة ضد المسلمين، وتحدث مع وزير إعلام طالبان، غلام متقي، ومع المولوي إحسان الله إحسان، وهو من علماء طالبان الكبار، فجاء ردهم عليه: بأنهم لا يضرهم ولا يؤثر فيهم حضور أي محفل دولي، وهم يحضرون بالإسلام وبلباس السنة، وبأنهم ذيَّلوا طلبهم باشتراط ألَّا تلتزم حكومة طالبان بأي قرار أو بند يتناقض مع الشريعة الإسلامية.
فيقول «أبو مصعب» معلقًا على حواراته معهم:
خامسًا: انتشار المنظمات التبشيرية في أفغانستان وعملها بحرية، وبالرغم من أن «أبو مصعب» ذكر في إيجابيات طالبان أنهم قاموا بطرد بعض هذه المنظمات، فإنه هنا يرى أن هذا الجهد غير كافٍ، وأن طالبان تغض الطرف أحيانًا عن هذه المنظمات، ويؤكد على أن هذا الأمر جعل خصوم طالبان يتهمونهم بالتهاون مع هذه المنظمات من أجل المساعدات المادية، وقد جلس أبو مصعب مع الملا عمر وسأله عن هذه القضية، فأجاب الملا عمر:
ويتساءل أبو مصعب عن السبب في غياب دور «لجنة الدعوة الإسلامية والإغاثة» عن أفغانستان؟ وغياب مشاريع الغذاء وحفر الآبار، ويذكر أن بعض المنظمات التبشيرية حفرت 411 بئرًا، وأن منظمة الغذاء العالمي تطعم حوالي مليون إنسان في كابول فقط، في حين أنه لا توجد منظمة إسلامية واحدة!
سادسًا: تعسف طالبان في إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ويذهب أبو مصعب إلى أن الجهل والفظاظة والبداوة يشكلون السمة الأساسية لجماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أفغانستان، ويحكي عن موقف حدث معه حينما كان مسافرًا وأوقفه رجل من جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمره بأن يذهب إلى صلاة الجماعة، وحين حاول أبو مصعب إفهام الرجل بأنه صلَّى صلاة المسافر، استنكر عليه وأجبره على الذهاب للصلاة، فكان هذا الحدث سببًا في تأخر موعد سفره وتفويته للطائرة (ص25).
سابعًا: جمع السلاح الثقيل والمتوسط والخفيف من الناس وعدم توزيع الغنائم على جنود الطالبان، ويؤكد أبو مصعب على أن هذا الأمر جعل الكثير من القبائل لا تشارك في القتال مع طالبان، والسبب في عدم توزيع الغنائم على الجنود؛ هو أن طالبان تعتقد بأن قتال الأحزاب هو قتال بغاة، والبغاة لا يغنم مالهم (ص25).
ثامنًا: تفسيق شيوخ الطالبان لمعظم رءوس الإخوان المسلمين، ويذهب «أبو مصعب» إلى أن الكثير من شيوخ الطالبان يفسقون المودودي وسيد قطب وحسن البنا، ويصل الأمر أحيانًا إلى تكفيرهم، إضافة إلى أن كتبهم صودرت، وتم منعها من النشر (ص26).
ولا تزال طالبان تنظر إلى الإخوان المسلمين على أنهم خونة، نتيجة تنسيق كبار الشخصيات الإخوانية الأفغانية مع الاحتلال الأمريكي، لكن طالبان لم تعمم هذه الصورة على كل إخوان العالم، بل إن الحركة هنَّأت الشعب المصري بفوز الدكتور محمد مرسي بالانتخابات، ونعته عند وفاته.
ختام واستشراف بالمعركة
وفي ختام شهادته على طالبان، يوجِّه أبو مصعب نداءً إلى الشباب للهجرة إلى أفغانستان، وتقوية شوكة الطالبان لأنهم آخر الأحلاف المتحالفة مع المجاهدين ضد النظام الدولي، ويعتبر أن دولة طالبان تمثل فرصة لعودة المسلمين وأهل السنة والجماعة إلى الصدارة بعد غياب طويل، ولو تم استغلال هذه الفرصة فإن ميزان القوى سيتحول، لذلك يأمل أبو مصعب بأن تأتي الجماعات الإسلامية إلى أفغانستان وتبايع الملا عمر[2].
لكنه في نفس الوقت يحكى متأسفًا بأن أغلب المجاهدين لم يفهموا بعد طبيعة الصراع، وأن النظام العالمي لن يترك طالبان، وستواجه طالبان الكثير من المشاكل مع النظام العالمي بسبب إقامة الشريعة وإيواء المجاهدين ونصرتهم. ولأفغانستان حدود مع ست دول مختلفة: باكستان، إيران، الصين، والجمهوريات السوفيتية سابقًا أوزبكستان وطاجيكستان وتركمنستان، ويذكر «أبو مصعب» أن هناك جماعات جهادية مختلفة من مناطق آسيا الوسطى موجودة في أفغانستان، مثل بنجلاديش وبورما وتركستان الشرقية والطاجيكستان وأوزبكستان، ويشكل إيواء هذه الجماعات مصدر قلاقل ورعب للنظام الدولي من انتقال الجهاد لمناطق وسط آسيا، أو على الأقل تمدد الحالة الإسلامية إلى وسط آسيا.
وقد أرسلت الصين وفدًا للملا عمر يطلب منه تسليم جماعة تركستانية معارضة للحكومة الصينية، لكنه رفض هذا الطلب، وعلَّل رفضه بأنه لا يمكن إخراج أي مسلم التجأ إلى بلاده. كما دعمت طالبان دولة الشيشان في صراعها مع روسيا، واعترفت باستقلالها، ووفرت معسكرات التدريب التي طلبها زليم خان، رئيس الشيشان السابق، من الملا عمر. لذلك تعد طالبان متمردة على النظام العالمي، ويستشرف أبو مصعب بأن المعركة مقبلة، فيقول:
وبحسب أبو مصعب، فإن حقيقة الصراع هي بين الإسلام الناهض في أفغانستان والمتمثل بحركة الطالبان، وبين النظام العالمي الجديد المتمثل في الأمريكان وحلف الناتو، ويعتبر «أبو مصعب» أن أفغانستان هي أول دار إسلام تطبق فيه الشريعة منذ سقوط الخلافة، وهي الآن بؤرة استقطاب للمجاهدين، لذلك النظام الدولي سيبدأ الحرب على أفغانستان، ويبدو أن استشراف ورسم أبو مصعب كان في محله، ولا أدري لو كان موجودًا الآن ورأى ما آلت إليه الأوضاع فماذا سيقول حينها؟
[1] اعتمدت في ترجمة أبو مصعب في المقام الأول على المقابلة التي تمت معه في كابول عام 1999 مع صحيفة «الرأي العام» الكويتية، إضافة إلى ترجمته على منتدى «صوت الجهاد»، وترجمته على موقع «المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب».
[2] يوسف بن صالح العييري، «الميزان لحركة طالبان»، نسخة رقمية، ص16.