رواية «حكايات يوسف تادرس»: رحلة البحث عن الذات
في خطابات وكتب التنمية البشرية دومًا ما يتكرر هذا السؤال: أين نجد الكنز: في الرحلة أم في الوصول؟
تأتي الإجابة على هذا السؤال وفقًا لتجربة كل فرد وتفضيلاته وسياق رحلته، ولكن الجواب الأكثر شيوعًا هو أن «الكنز في الرحلة»، لأن النتائج ليست مضمونة على أي حال، وربما سافر الإنسان رحلته وانتقل من تجربة إلى أخرى ثم مات في الطريق، ولم يذق طعم الوصول قط.
كان هذا السؤال أيضًا هو محور رواية «الخيميائي» للكاتب البرازيلي «باولو كويلو»، الرواية التي انتشرت انتشارًا عالميًا واسعًا وأجابت إجابة قاطعة مفادها أن الكنز في الرحلة؛ في الطريق نحو الهدف، وآليات الوصول إليه. فالكنز يكمن في السعي، تلك الحركة الدائبة للكون وكائناته؛ أمّا السكون فهو الفناء بعينه.
في رواية «حكايات يوسف تادرس» للكاتب المصري «عادل عصمت»، يتجلى معنى الرحلة؛ منذ الولادة أو ربما ما سبق ولادة يوسف تادرس من أحداث، أثّرت على سير حياته كلها.
العنوان فيه بساطة وبراعة في آن واحد، تخيّلت الراوي في صورة تادرس الأب يجلس على باب بيته الواسع، بجلبابه النظيف، يُحدِّق في الفراغ، يجتر صورًا من الماضي لم يعد لها وجود، وربما إن وجدت بالفعل فقد تغيرت أشكالها تمامًا منذ فقد بصره وحتى تلك اللحظة التي يجلس فيها وحيدًا أمام البيت.
ربما احتفظ يوسف ببعض من روح أبيه والكثير من روح أمه، لم يستطع نسيان يوم وفاتها، ماتت وهي تسعى كعادتها، أمضت ليلتها الأولى بعد الوفاة في المشرحة، ويوسف يجلس على بابها ممنوعٌ من الدخول، لديه قناعة بأنه ما إن يدخل إليها وينادي عليها ستقوم من مرقدها وتعود معه للبيت وكأن شيئًا لم يكن.
ظلمة الخوف
يصف يوسف تادرس الخوف بأنه البطانة الداخلية للقلب، شيء لا يمكن التخلص منه أبدًا، لصيق بقلب الإنسان لا تمر فكرة ولا خاطرة إلا وصاحَبها ذلك الشعور القاتم، لم يكن يعرف ما الذي يخيفه تحديدًا، ربما لو تعرّف على مخاوفه وواجهها لاستطاع القضاء عليها، ولكنه ظل خائفًا، يواجه مخاوفه وأشباحه بالرسم ولا شيء غيره، ذلك المصير المحتوم الذي نُذر له يوسف تادرس كما نذرت أمه نفسها للرب. تفاقمت المخاوف مع العمر ومع تضاعف المسئوليات، تجلى يوم واجه الموت ونجا منه، ويوم فقد أمه في غفلة منه، حيث ظن أن انتباهه لأمه قد يحميها من الموت، أو ربما من الموت المفاجئ.
غزلان وورود
سحرت الصور يوسف منذ رآها على السجاد في ورشة النسيج التابعة للجمعية الخيرية، والتي تتطوع أمه بجمع التبرعات لصالحها، كان يتأمل تلك الصور مذهولًا، وبخاصة حينما كان يترك الورشة في يوم وقد امتلأت بالصور الناقصة للطيور والحيوانات والأشجار والورود، ثم يعود في اليوم التالي ليجدها مكتملة بديعة، تصور بمخيلة الطفل أن هناك كائنات شفّافة تسكن الورشة وتُكمِل هذه الصور وتمنحها تلك الروح المبهجة، وتجعلها شبه حية، حيث كان يتخيل ذلك الغزال يقفز، وتلك الفراشة تطير، فيستحيل المشغل إلى غابة مليئة بالصور والألوان والأصوات، ولكنها لا تخلو من خوف غامض يطل من وراء المشهد.
ظلّت علاقة يوسف تادرس بعناصر الطبيعة مُصاحبة له في حياته، حيث أعاده لشغفه مرة أخرى رسمه المتكرر للطيور والثعابين وزهرات اللوتس، كان يرسم مشاريع تخرج كلية الفنون حتى يكسب قوته ويلبي احتياجات أسرته، كان موضوع تلك المشاريع يدور حول الفن الفرعوني، فاستلزم إعدادها إتقان هذه الرسوم وإعادتها عشرات المرات، ولكن روح الفنان في داخله اطّلعت على حياة أخرى داخل الكائنات المرسومة، كان يصاحبها ويتأملها، ألفت أنامله اللوحات، حتى أنه كان يحلم بها، يظهر له الحلم مُزخرفًا بورود رسمها هو قبل أن يخلد إلى النوم، ارتفع غصن الورد وحمل عدد لا نهائي من الزنابق، وانطلق مركب الشمس يجوب النيل، بُعثت تلك الأفعى من فوق الورق فإذا هي حية تسعى.
نون النسوة
تأثر يوسف في حياته بعدد من النسوة، لم يُقَّطعن أديهن لمرآه، ولكنهن قطعنه بينهن، وأخذت كل منهن نصيبها منه، وأخذ هو نصيبه منهن، ابتداءً بأمه (أم يوسف) ونبوءتها له. ثم مُدرِّسة الرسم التي أنارت مصباحًا داخل نفسه حين قالت له: «ارسم ولا تخَف»، فظلت عبارتها تُرشده وتنتشله من خوفه طيلة حياته. ثم «فاتن» أخته الكبرى، والتي استولت على أبيه في أواخر أيامه واستولت على أملاكه مقابل لا شيء. ثم «نادية» أخته الصغرى، والتي كانت الأقرب لقلبه والأكثر حنوًا عليه بعد وفاة أمه.
ثم الفتاة التي قابلها في الكنيسة وأقنعته أن يرسم وجهها ثم أمضى أعوامًا من حياته يرسم الوجوه. ثم «سناء» زميلته، والتي أحبته وقررت أن تثور على كل القوانين والحقائق؛ حقيقة أنه متزوج وله أبناء، وحقيقة أنهما من ديانتين مختلفتين، فكان هو منساقًا نحو الفكرة ليثور هو الآخر على كل شيء، وربما ليمحو غصة في الحلق نتجت عن تركه لكلية الفنون رغم أنفه.
ثم تأتي «تهاني» الزميلة الأخرى والمنتدبة إلى منطقة الطور في سيناء؛ حيث نُفي يوسف تادرس بعدما عُرفت حكايته مع «سناء»؛ كانت «تهاني» حلمًا قصيرًا لم يلبث أن انتهى قبل أن يطأ أرض الواقع، كانت حياتها هي الأخرى مُكلَّلة بالألم والعناء. ثم «جانيت»، الزوجة وأم الأولاد، والتي آلت إليها الأمور في النهاية. حاول يوسف أن يجد له مكانًا في هذه الأسرة التي منحته إياها، حاول أن يَسكن أخيرًا، أن ينسى نفسه ويلبس الثوب التقليدي الذي يُرضي المجتمع والأولاد وجانيت.
مائة وجه
كانت ليوسف تادرس تجربة فريدة في رسم الوجوه وتصوير الملامح البشرية، كان يجد فيها سرًا عجيبًا، ويتساءل كيف يحمل الوجه نفس الملامح ولكنها تتغير بين لحظة وأخرى، بين انطباع وآخر، لاحظ هوس الإنسان بتخليد صورته، كأنما سيطيل ذلك بقاءه في الدينا أو ربما منحه الخلود.
حينما أنهك السير يوسف تادرس، قرّر أن يواجه نفسه أو أن يتعرّف عليها بمعنى أدق، لم يكن يعرف أي الوجوه وجهه، وأي الوجهات وجهته، أخبره صديقه «رضا» بأن وجهته وهويته هي الرسم، خُلق له ويجب أن يستسلم لقدره.
في لحظة فارقة قرر يوسف أن يرسم وجهه مائة مرة، ليكتشف كل انطباع وشعور يمكن أن ينعكس على ملامحه، ليستبين ما في داخل قلبه ونفسه، وفي نهاية المطاف أعجبته لوحة رسمها لوجهه على خلفية سوداء ووضع عليها بضعة خطوط بيضاء. أيقن أن روحه هي ما ظهرت في اللوحة الأخيرة، بخاصة بعد أن سأل ابنه «فادي» عن اللوحة وأجابه بأنها وجهه، وأعُجب بها صديقه «رضا»، وطلبها منه ولكن يوسف آثر أن يحتفظ بها لنفسه.
الرسم بالكلمات
في هذه الرواية البديعة يرسم الروائي «عادل عصمت» بكلماته، سيرة حياة رسّام، كلما ابتعد عن الرسم، جذبته قوة خفية إليه مرة أخرى، لا مهرب للإنسان من قدره ولا من ذاته ولا من أسطورته الشخصية مهما حاول الفرار.
أثناء قراءة هذه الرواية، يصعب على القارئ أن يتخيل أن من يكتب ليس بفنان تشكيلي، حتى يصف التجربة بهذه الدقة وهذا الاقتدار.
يوسف تادرس هو نموذج الإنسان التائه في الحياة، يتخبّط بين الأماكن والأحداث ولا يعرف على أي وجه سوف تستقر حياته، استسلم في بادئ الأمر للأمواج وجعلها تتقاذفه كيفما شاءت، أفلت زمام حياته من بين يديه، فاستخفت به الحياة ولم تُلقِ له بالًا، ولكنه ما إن عاد إلى شغفه وأعاد التعرف على نفسه، حتى أخذته الحياة– بدورها- على محمل الجد.
اختبر تقلبات النفس البشرية بعدما اقترب من عشرات الوجوه وتمعّن فيها ورسمها، اقترب من روح الكائنات الحية وحتى الجماد، زعم أن للجماد روحًا هو الآخر تمنحه ذلك السحر الذي يُغرِي الرسّام بنقله على الورق، تتبدل هذه الروح متأثرة بموقع الأشياء من الظل والنور وروح المكان والحالة النفسية للرائي.
هذه الرواية العذبة تجسيد لقول الأستاذة «رضوى عاشور»، في كتابها «أثقل من رضوى»: