حكايات من مستشفى الحرب في الأردن: «القنابل تتساقط على كامل أنحاء العالم العربي»
كريم شاهين
25 يناير 2016 | موقع الجارديان
في الغرفة فتيان؛ أحدهما من العراق، والآخر من سوريا.
أُمطر جسد الفتى العراقي بالشظايا عندما انفجرت سيارة مفخخة قرب السوق الذي يتسوق به مع أخيه. ومات أخوه. بينما تثقب علامات الحروق وجه الفتى السوري، نتيجة حريق نجم عن هبوط صاروخ على المنزل المجاور لمنزله، والذي امتد إلى منزله، وقد كان داخله.
يُعالج الاثنان الآن في عمان، العاصمة الأردنية، في هذا المشفى التابع لمنظمة أطباء بلا حدود، حيث تُغطى حوائط المشفى برسومات الأطفال. «الأطفال الذين شوهت وجوههم يرسمون وحوشًا»، حسبما قال طلحة العلي، مستشار طب الأطفال.
ليس مشفى المواساة للجراحات الترميمية بالمشفى العادي، فبين جدرانه يرقد مصابو الحروب من أنحاء الشرق الأوسط، أجيال تجمعها الصدمة المشتركة لشهادتها على، ونجاتها بالكاد من، اضطرابٍ أعاد رسم الحدود ودمر أساسات الدول القومية.
أسس المشفى لأول مرة عام 2006 كمشفى للجراحات الترميمية لعلاج العراقيين الذين شوهوا خلال الاحتلال الأمريكي لبلادهم، والتمرد الذي تلاه، ويعد الآن ملاذًا مؤقتًا للذين انقلبت حيواتهم رأسًا على عقب بفعل الصراعات في سوريا، اليمن، والأراضي الفلسطينية المحتلة، بل وحتى، لبعض الوقت، في ليبيا.
إنه عالم مصغر يجمع داءات المنطقة، والصدمات التي تركت طباعها على حيوات المدنيين. هناك أشخاص أصيبوا إثر العنف الطائفي، القصف، الغارات الجوية، الاحتلال أو الحملات القمعية للمستبدين.
«بين يوم وليلة، تغيرت حيوات هؤلاء الأشخاص بالكامل، أو دُمرت، ونحاول هنا تزويدهم بفرصة ثانية»، حسبما أوضح جان بول طعمه، الذي يدير العمليات اليومية بالمشفى، في مبناها الجديد الذي افتتح في فبراير.
تقدم المنشأة الطبية العمليات الترميمية للمصابين، سواء أكانت جراحات عظام أو تجميلية، حيث يتم اهمالها في دول المنطقة الأكثر اضطرابًا، التي تفتقد القدرة على تقديم العناية طويلة المدى، ولا تتجاوز التعامل مع الحالات الطارئة.
«نهتم بالعواقب طويلة الأمد للحرب الجارية»، وفق مارك شاكال، رئيس بعثة المشفى في الأردن والعراق. “إنهما حربان طويلتا الأمد. فقد تجاوزت حرب العراق السنوات العشر، وستتم سوريا عامها الخامس قريبًا، ولا تبدو النهاية ملوحة في الأفق. بينما في فلسطين، مر 60 عامًا”.
يُجري الأطباء في المشفى حوالي 1300 عملية سنويًا، وهذا العام، استقبل المشفى 600 مريض جديد، الذين خضعوا لعمليات أكثر تعقيدًا مثل جراحات السديلة، حيث تُطعم الأنسجة من أحد أجزاء الجسم إلى الآخر، وكذلك الأوعية الدموية.
كما للمشفى مزايا أخرى لم تكن متوقعة – حيث يتركز جزء كبير من عمل الأطباء على محاربة العدوى، وهي عملية زودت المشفى بنظرة ثاقبة فيما يتعلق بمقاومة المضادات الحيوية. تتوافر المضادات الحيوية، المقدمة دون وصفة طبية، على نطاق واسع بالشرق الأوسط، وكثيرًا ما يتولى المرضى عملية تناولهم للأدوية دون استشارة الأطباء ودون إكمال الدورات العلاجية، ما يعزز المقاومة واسعة النطاق لدى البكتيريا للمضادات الحيوية.
يعلق شاكال: «المضادات الحيوية التي نستخدمها هنا كمعيار هي الأحدث في أوروبا، لأننا نواجه الكثير من المقاومة البكتيرية»
أجرت الجارديات مقابلات مع أربعة مرضى بالمشفى، من سوريا، اليمن، العراق، وغزة. ولا تعكس وجهات نظرهم الآراء الرسمية للمشفى.
وائل سمير – اليمن
بالكاد يوجد إنش واحد في وجه وائل سمير غير مكسيٍّ بالحروق؛ فقد احترق 70 بالمئة من جسده في إحدى الليلات عام 2011، بينما كان هو وأصدقاؤه نائمين في خيام مؤقتة بساحة التغيير في تعز، ضمن جهود الثورة ضد حكم الرئيس السابق علي عبد الله صالح الذي استمر ثلاثة عقود.
يروي سمير أنه عند الساعة الثانية صباحًا، استيقظوا على أصوات قصف وقتال في المعسكر، لتطالهم مباشرة النيران المستعرة بعد أن أشعلت القوات الحكومية النار في الخيام. «مات الكثيرون»، وتابع، «ونجى القليل فقط من أصدقائي».
إثر ذلك اتجه سمير إلى مسجد مجاور، حيث صب الماء على جروحه، ما زاد حالته سوءًا، قبل أن ينقله أحد الأطباء إلى المشفى. قضى سمير عامين بمركز طبي بصنعاء، العاصمة، قبل أن ينتقل إلى المشفى، حيث قضى إلى الآن عامًا ونصف وخضع لحوالي 20 جراحة.
اليمن في 21 ديسمبر
ومع ذلك، يبتسم سمير. ويود أن يعود إلى اليمن، وأن يتزوج ويعيد فتح متجر العائلة في تعز.
إلا أن الحلم يبدو أبعد من لحظة عسكرة سمير وأصدقائه في الساحة للاحتجاج على حكم صالح الصارم، كذلك على الفساد والفقر المدقع والبطالة بالدولة العربية الأكثر فقرًا.
يغرق اليمن حاليًا في حرب أهلية بين صالح وحلفائه، الحوثيين، وهم متمردون مدعومون من إيران يقيمون بشمال البلاد، وعلى الجانب الآخر، تحالف مدعوم من السعودية وميليشيات متحالفة معه على الأرض، تسعى إلى إرجاع حكم الرئيس المنفي، عبد ربه هادي منصور.
أودى ذلك الصراع بأرواح الآلاف، وأدى إلى نزوح مئات الآلاف، وترك الملايين في حاجة إلى المساعدات الإنسانية.يقول سمير: «يحزنني ما يحدث في اليمن؛ الحروب، عمليات القصف، والدمار». ويتابع: «شهدنا ما حدث في تونس ومصر، والخسائر التي كانت عند أدنى حد. بينما دُمرت سوريا واليمن تمامًا. ولكنني لا أندم على الخروج للاحتجاج، لأن مطالبنا كانت عادلة. لقد أردت أن يحظى إخواني الصغار بحياة أفضل في المستقبل».يوسف نصيرات – سوريا
يبدو يوسف نصيرات متألمًا عند حديثه، يحاول التنفس جاهدًا، وتلف ذراعه الضمادات إثر خضوعه لجراحة. أصبح ذراعه شبه مدمر بعد أن أصابته طلقة متفجرة.قبل فترة طويلة من تحول الثورة السورية إلى حرب أهلية، عاش نصيرات مع عائلته في درعا، وهي مدينة في الجنوب السوري حيث استعرت الثورة ضد الرئيس بشار الأسد بواسطة العائلات المحتجة على احتجاز أطفالها في مارس 2011.وبعد شهر، هرع نصيرات خارجًا ليجلب أطفاله إلى المنزل، خوف أن يحاصَروا وسط اشتباكات اليوم. ولكن عند ذلك، اخترقت طلقة متفجرة يده. “خرجت لأجلبهم فتعرضت للإصابة”، حسبما ذكر.بعد أن خضع لعلمليتين في درعا، حيث استبدلتا عظامه المكسرة بشرائح حديدية، هرب إلى الأردن، حيث استقر في النهاية في مخيم الزعتري للاجئين مع عائلته. كان عاجزًا عن استخدام ذراعه، فقد تمزقت عضلاته وأنسجته.واجه نصيرات ذلك الألم لأربعة أعوام، قبل أن ينقل إلى مشفى المواساة. وتحدث بينما كان ينتظر عملية أخرى تقرر إجراؤها اليوم التالي، والتي انطوت على دراسة إن كان الأطباء يمكنهم إصلاح الأعصاب والأربطة في ذراعه أم لا.حصدت الحرب السورية البشعة أرواح أكثر من ربع مليون شخص، وهجّرت نصف سكان البلاد، بما في ذلك أربعة ملايين يتوزعون على تركيا، لبنان، الأردن، وما أبعد من ذلك، في أوروبا.لكن ما يعتبر أقل وضوحًا هو عدد الإصابات والمشوهين بفعل الصراع المتزايد الوحشية. فما يزيد عن النصف قليلًا من المرضى بالمشفى سوريين؛ ومعظم من وصلوا خلال الأشهر الأخيرة للصراع كانوا ضحايا للغارات الجوية وليس الرصاصات.يحتفظ نظام الأسد بتفوقه الجوي، ويسقط “قنابل برميلية” عشوائية على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، ما أودى بأرواح أعداد كبيرة من المدنيين.«يحزنني بالتأكيد ما أراه هنا مما يحدث في العالم العربي»، ويتابع نصيرات، «جميعنا هنا إخوة، وندعو الله أن يصحح تلك المظالم». وأضاف: «إنه قدرنا، ابتلانا الله ونأمل أن نفلح في الابتلاء».قعقاع السامرائي – العراق
يُغطى كامل وجه قعقاع السامرائي، لإخفاء جراح نجمت عن دخول وخروج طلقة اخترقت وجنتيه.قال ضابط الشرطة العراقي السابق إنه قد لُعن مرتين، فاسمه سني، ما أدى بالمسلحين الشيعة المحليين في أحياء بغداد التي عاش بها إلى الشك في تعاونه مع القاعدة. بل واختطفوه لفترة. وعلى الجانب الآخر، أدت حقيقة كونه ضابط شرطة إلى شك المتطرفين المحليين السنة في تعاونه مع السلطات ضدهم.داهم مسلحون منزله في شهر مايو 2013، فقتلوا أحد أصدقائه وجرحوا وجهه، وتركوه عاجزًا عن الأكل والكلام بشكل طبيعي لأشهر. «أردت أن أقتل نفسي»، ويضيف، «لم أتمكن من تقبيل طفلي لمدة عام ونصف. لقد حرمت من عائلتي وتشوه وجهي».تبرز حكايته سخافة العنف الطائفي الذي خضبت سماته الكثير من الصراعات على السلطة في المنطقة، ودمر العراق بشكل فعال كدولة قومية، حيث تنقسم الآن بين المناطق الخاضعة للسيطرة الحكومية؛ والمناطق السنية في نينوي والأنبار الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)؛ ومناطق الحكم الذاتي الكردية التي تمثل فعليًا دولة للأكراد.يتسائل سامرائي الآن حول مصيره بعد إقامته بالمشفى في عمان. يريد أن ينتقل إلى دولة أوروبية، حيث يصيبه الأرق بسبب الخوف من أن المسلحين سوف يجدونه مجددًا. ويفتح هاتفه ليريني رسالة تهديد وصلته، تنذره الرسالة بأنه لن يجد ملاذًا آمنًا بهربه إلى الأردن.ويضيف منتحبًا: «أتمنى المغادرة»، «أحيانًا أفكر في الهرب عبر البحر، ولكنني أخاف البحر، سيُغرق الصغار. أقسم بالله أن الموت أفضل. لن يصيبك الألم وأنت ميت».نجوى الغردان
في عام 2014، انطلقت نجوى الغردان مع أكبر أبنائها ورضيعها، الذي يبلغ من الأشهر قليلًا، في محاولة لترك الحجازية، حيهم، في مدينة خان يونس بغزة. خشت الأم، لـ11 ابنًا، أن الغارات الإسرائلية التي دمرت المدينة المزدحمة في حرب صيف ذلك العام، ستستهدف المنازل المجاورة للمشتبه في انتمائهم لحركة حماس.تخلف ابنها، الذي يحمل الرضيع، في المسير ورائها. ثم ضربت غارة جوية صف المغادرين، فقتلت الكثيرين حولها، وسوّت المنازل على جانبي طريقها. «لم أسمع حتى الغارة، ولكني شعرت بأن النيران تستعر في أنحاء جسدي»، حسبما وصفت الغدران تعرضها للغارة من كرسيها المتحرك.اخترقت الشظايا صدرها، ظهرها، ساقها، ومعدتها. ظنت أن أجلها قد حان. ولكن بينما خف الدخان بالأجواء، هبت واقفة، تنسكب الدماء منها بغزارة، لتبحث عن طفليها، الذين نجيا، ولكنهما علقا تحت شجرة.وصل فلسطينيون آخرون للمساعدة، فنقلوها إلى المشفى قبل أن تفقد قدرًا حرجًا من الدماء. أزيل عن جسدها معظم الشظايا، ولكن الأطباء أخبروها أنها قد تفقد ساقيها. فأخبر والدها زوجها أنها قد لا تعود زوجة مناسبة إن أصبح لديها ساق صناعية.لحسن الحظ نقلت إلى مشفى المواساة في عمان، حيث خضعت لعمليات عديدة لإعادة توصيل الأربطة في ساقيها ولنقل الأنسجة من أجزاء أخرى بجسدها. الآن يمكنها أن تمشي معترجة، ولكنها تأمل أن تتعافى بالكامل.تسلط حكايتها الضوء على تجارب الحياة تحت الاحتلال. يقبع أطفالها لا زالوا في غزة، حيث يقتاتون على الآفاق الضئيلة الملوحة تحت الحصار. أي أموال لا تحتاجها من المساعدة الإنسانية التي تتلقاها، قيمتها 10 يوروهات، تذهب إلى عائلتها.تشمئز الغردان عندما تتذكر العنف في بلدها، عمليات القتل الثأرية والأعمال العدائية المستعرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.تقول الغردان: «لا تسُر الحرب أحدًا، نريد السلام، الجميع يريد العيش لأنه لم يعد هناك حياة. لا يستطيع السكان العمل، ولا يحصل الموظفون على رواتبهم. كيف سيطعمون أطفالهم؟»إلا أن ما قالته يعد شهادة على الاضطرابات الأخيرة في العالم العربي، مفادها أن الفلسطينية، التي كان شعبها طويلًا مستقر تعاطف وتضامن العرب الآخرين، تقول أن الصراع في بقية المنطقة يصيبها بالألم.«عندما أنظر إلى الآخرين، أشعر بسكين موجه إلى قلبي. ما ذنب هؤلاء الأطفال، أو هذا العجوز؟ ماذا عن تلك المرأة؟ لقد رأيت طفلًا بلا ساقين. نجى ذلك الطفل ليعيش في ألم .. القنابل تتساقط على جميع أنحاء العالم العربي».كريم شاهين مراسل الجارديان لشؤون الشرق الأوسط ويقيم في بيروت. تابعه على تويتر.