حكموا المدن ودفعوا ضرائب: حكايات الشطار في الدولة العباسية
في عام 1996م دب الذعر في القاهرة، وترقب الناس هجوم «السلعوة» عليهم، ذلك الحيوان الغامض غير الموجود في الأساس، وبعد فترة هدأت الأمور، بعد أن كانت السلعوة حديث المدينة والدولة في الإعلام والصحف والمقاهي والبيوت والشوارع.
هذه الحالة لم تكن جديدة، فقد حدث مثلها عام 304هـ حين دب الذعر في بغداد، عاصمة العالم الإسلامي وقتها، وصار الناس يتحدثون عن حيوان «الزبزب»، الذي يهاجمهم ليلاً، وشاعت حكايات عن أكل يد رجل هنا، وقضم صدر امرأة هناك، وغيرها من حوادث وشائعات أسقطها الناس على «الزبزب».
واضطرت السلطات إلى خدعة لتهدئة الناس، فاصطادوا حيوانًا أسود، وصلبوه على جسر بغداد، وقالوا للناس إن هذا هو حيوان «الزبزب» الذي يطاردهم، وانتهت الشائعة.
واتضح أن الشائعة كانت حيلة من اللصوص، ليشغلوا الناس ويستطيعوا ممارسة السرقة ليلًا، ولم يكن هناك حيوان بهذا الاسم أبدًا.
إلى هذه الدرجة كانت سطوة اللصوص كبيرة، بل كانت لهم طائفة سميت «الشطار والعيارين»، هذه الطائفة التي كانت لها حظوة في بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، حد دخول اللصوص المعترك السياسي، وتدخلهم في شؤون الحكم، بل كانوا أحيانًا جزءًا من الحكم.
وفي أحيان كثيرة كان لهم دور وطني (قياسًا بأفكار عصرنا) ودافعوا عن بلادهم في أوقات تراجعت فيها الجيوش، كما سنرصد في سطورنا التالية.
دفاع عن بغداد ضد الفرس
تبلور اللصوص كطائفة لها كيان شبه تنظيمي في عصر الخليفة العباسي المهدي، في القرن الثاني الهجري، حيث كثروا وقتها، ولكن لأن الدولة كانت قوية ومسيطرة، لجأوا إلى الجبل بمنطقة تسمى «سيسر»، كما مطاريد الجبل في التاريخ المعاصر بمصر، هربًا من السلطات.
وتسمية هذه الطائفة بـ«العيّارين والشطّار» مثيرة، فالشاطر في هو الذكي لدرجة الخبث، الذي يتعب من حوله بخبثه. أما العيار فهو الذكي كثير التجول والذهاب والمجيء.
ولعل هذه التعريفات اللغوية توضح انبهار الناس وقتها بحيل هؤلاء اللصوص الذين كانوا يغيرون على المدينة ليلًا، ويفرون قبل أن تستطيع الشرطة القبض عليهم.
وظل الحال هكذا حتى ظهور هذه الطائفة بالمشهد السياسي، وقت أن وقعت الفتنة بين الخليفة محمد الأمين، وأخيه عبد الله المأمون عام 196هـ، حين أرسل الأخير جيشًا فارسيًا من خراسان، بقيادة طاهر بن الحسين، وحاصر الجيش بغداد وتراجع الجيش الموالي للأمين، بل انضم بعض قادته إلى جيش المأمون، خلال حرب استمرت 14 شهرًا، فلم يدافع عن الأمين وقتها إلا الشطار والعيارون.
ثار اللصوص (العيارون والشطار) ضد أغنياء المدينة وقادتها لأنهم لم ينصروا الخليفة الأمين، وتركوا بغداد للحصار على يد جيش أعجمي (جيش المأمون القادم من خراسان).
بعد انهيار جيش الأمين قاوم الشطار والعيارون جيش المأمون الذي ظل لفترة عاجزًا عن اقتحام بغداد بسبب بسالتهم القتالية وبراعتهم الخارقة، دون أي إمكانيات، فقد كانوا يقاتلون وهم عراة غير مدرعين، أمام جيش مدرع بكامل إمكانياته.
وربما تعطي القصة التي رواها الطبري في تاريخه عن براعة المقاتلين العيارين، وعجز جيش طاهر أمامها، وهي لقائد خرساني قاتل بقوسه وأسهمه مقاتلًا من الشطار عاري الجسد، وليس معه إلا كيس به طوب وحجارة.
فكلما رمى القائد الخرساني سهمًا باتجاه الشاطر تفاداه بحركات بهلوانية، بل وأمسك السهم بيده وكأنه غنيمة، حتى نفدت الأسهم، فقذف الشاطر القائد الفارسي وهو على حصانه بطوبة فأصابت عينه، ثم قذفه بأخرى فأصابته مرة ثانية فخاف وتراجع.
ورغم هذه البراعة استطاع جيش المأمون دخول بغداد، واستقرت الأمور لصالح الخليفة الجديد (المأمون)، ليعود الشطار إلى الجبل من جديد.
ولكن بعد مرحلة الضعف التي دبت تدريجيًا في الدولة العباسية بعد وفاة الخليفة المعتصم عام 227هـ – 796م، عاد تغول اللصوص الشطار من جديد.
وربما يتجلى ذلك في عهد الخليفة المعتضد (تـ289هـ – 902م)، حيث وصل تجرؤ الشطار حد سرقة خزانة الدولة نفسها، حيث سرقوا رواتب الجيش نفسه.
حينها ألقت الشرطة القبض على كثير من التائبين من الطائفة، وقد كانت الدولة تسمح لهم بالتوبة والاندماج في المجتمع، نظير تعاونهم مع الشرطة.
هدد قائد الشرطة اللصوص التائبين بالتنكيل بهم إن لم يرشدوا عن الأموال وسارقها، ثم تركهم ليأتوا به، وبالفعل أتوا بواحد منهم وقالوا إنه السارق.
رفض السارق الاعتراف، حتى بعد تعذيبه على يد الشرطة التي عجزت عن انتزاع اعترافه، فأمر المعتضد أن يأتوا بالسارق إليه ليستجوبه بنفسه.
احتال المعتضد عليه، بأن أكرمه وأنزله في قصره لعدة أيام، ثم أتى به وحاول محاولات جديدة معه فلم تجدِ أيضًا، فلم يتركه يمشي، وأمر باستمرار إقامته في القصر، ولجأ لحيلة جديدة.
حرم المعتضد اللص من النوم 30 يومًا، وبعدها تركه ينام، وبعد أن وضع رأسه على الوسادة واستغرق في النوم أمر جنوده أن يأتوا به فجأة، وحينها كان الرجل يتكلم وهو نائم فاقدًا لأعصابه، نتيجة لعطشه الشديد للنوم لمدة 30 يومًا، فاعترف دون أن يدري بمكان الأموال، فأحضرها جنود المعتضد، ثم أعدموه.
اللصوص يحكمون الدولة
في الربع الثاني من القرن الرابع الهجري، دخل البويهيون العراق، وصاروا هم الحكام الفعليين، وتلقبوا بالسلاطين، وذلك رغم وجود الخليفة العباسي، الذي صار مجرد صورة ورمزًا للدولة، معه حامية تركية خفيفة في بغداد.
حاول البويهيون القضاء على اللصوص العيارين ولكنهم لم يستطيعوا، فقرروا استيعابهم ومهادنتهم، فخاطبوا زعماءهم البارزين من أمثال: ضبة بن محمد الأسدي، عمران بن شاه، وابن فولاذ، الذين أقرت الدولة عملهم كلصوص.
من أشهر زعماء هؤلاء اللصوص، كان ابن حمدي، الذي أتاحت له الدولة السرقة في مقابل سداد ضريبة، قدرت بـ15 ألف دينار شهريًا، وبالفعل كان يسرق هو واللصوص الذين يتزعمهم، وكان يحصل من الدولة على وثيقة رسمية بها إفادة باستيفاء المبلغ، كالإيصال في عصرنا.
ظل الحال هكذا حتى توقف ابن حمدي عن سداد تلك الضريبة، فأعد له قائد الشرطة أبوالعباس الديلمي كمينًا، وقتله لتمرده وعدم سداده.
أما عمران بن شاه قائد اللصوص بالبطائح في البصرة، فكان يفرض على الدولة نفسها إتاوات، وكان في مقابل ذلك يخطف عسكر الدولة، إن لم يجيبوا عصابته ويدفعوا المطلوب.
حاول معز الدولة القضاء عليه ففشل، حيث أرسل إليه عام 338هـ جيشًا بقيادة الوزير أبوجعفر الصيمري فهُزِم الجيش، فأرسل معز الدولة جيشًا آخر بقيادة وزيره أبو الحسن المهلبي فهزمه اللصوص أيضًا، بل وأسروه، فلم يجد معز الدولة البويهي إلا مصالحة اللصوص، بتولية قائدهم عمران بن شاه ولاية البطائح عام 339هـ.
إلا أن العلاقة لم تكن جيدة دائمًا بين الطرفين، ويبدو ذلك في حوادث متفرقة، منها ما وقع عام 364هـ، حين حاول عضد الدولة البويهي الاستيلاء على بغداد نفسها وإخضاعها للنفوذ الفارسي (مركز الدولة البويهية) بعد أن كان البويهيون قد استولوا على أغلب أنحاء العراق.
سار عضد الدولة البويهي بجيشه إلى بغداد، وتصدى لهم جند الخليفة من الأتراك، ودار القتال وانهزم جند الخليفة، وهنا هب اللصوص للدفاع عن المدينة بجانب جند الخليفة، ولكنهم انهزموا أيضًا.
ورغم الهزيمة ظل الشطار والعيارون قوة لا يستهان بها في العراق، ففي عام 417هـ، كانت الفوضى تعم بغداد، وكان الجند الأتراك يصادرون أموال الناس بالباطل، ولم لا والسلطان البويهي يصادِر أموال الخليفة نفسه، دون أن يستطيع حتى إبداء رفضه.
وهنا نشط الشطار والعيارون، وكانوا يسطون دائمًا على أموال الأثرياء وطبقة الحكم نفسها، ونتيجة لذلك ألقي القبض على 4 من العيارين، فكان الرد عليهم هو خطف 4 من كبار القادة البويهيين، ولم يوافق قائد العيارين على إطلاق سراحهم إلا بعد إطلاق سراح العيارين الأربعة من قبضة الشرطة.
ضعف الدولة دفع اللصوص لاختيار واحد منهم وهو أبو علي البرجمي ليتولى سلطنة البلاد، وطالبوا خطباء المساجد بالدعاء له على المنابر، وذلك بين عامي 425 و426 هـ، فكانوا يقبضون على مشايخ المساجد ويقولون للواحد منهم: إما أن تخطب للبرجمي وإلا فلا تخطب لخليفة ولا ملك.
ولم يكن أحد في بغداد يستطيع أن يلفظ اسم البرجمي وقتها إلا ويضيف إليه لقب «القائد»، حتى خدعه والي الموصل قرواش العقيلي، وكان صديقه، بأن قبض عليه غدرًا وهو في زيارة له بقصره، وقتله غرقًا.
الخليفة يستنجد باللصوص لحمايته
في عام 443هـ وقعت فتنة بين السنة والشيعة الرافضة ببغداد، ولم يستطع السلطان البويهي الشيعي، ولا الخليفة العباسي السني، منع الفوضى ولا التخريب الذي طال كل شيء، فخاف الخليفة العباسي جعفر القائم بأمر الله على نفسه، فاستدعى أحد زعماء العيارين والشطار لحمايته.
المصادر تتحدث عن أن هذا اللص العيار كان من منطقة تسمى درب ريحان، وأنه تولى حراسة قصر الخليفة هو ورجاله، ولكنها لم تذكر اسمه صراحة، ولكن الدكتور محمد رجب، يرجح بقوة أن هذا اللص العيار هو علي الزيبق، البطل الشعبي الشهير، أشطر الشطار، الذي يرجح أنه كان مقدم العيارين في هذا التوقيت.
حينها كانت الدولة البويهية تلفظ أنفاسها الأخيرة، وكان الخليفة في قمة الضعف كما نفهم من سياق الأحداث، حتى إن الخليفة الفاطمي الشيعي المستنصر، المناوئ للخليفة العباسي، دُعِي له على منابر العراق، بل وعلى منبر المسجد الجامع في بغداد نفسها، معقل الخليفة العباسي القائم بأمر الله.
اضطر العباسيون إلى الاستعانة بالسلاجقة لإنقاذهم، فدخل السلاجقة بغداد وحلوا محل البويهيين، وظل الخليفة العباسي في بغداد ولكن سلطان السلاجقة لم يكن يقيم بها، رغم أنها تحت حكمه وسيطرته، ولم يكن للخليفة العباسي أي سلطة، حتى قرر الخليفة المسترشد بالله عام 530هـ، التمرد على عسكر السلاجقة في بغداد، وكان جيشه هذه المرة من العيارين والشطار.
قاتل العيارون جند السلاجقة في بغداد، حتى إنهم قبضوا على رسول القائد أتابك زنكي، حاكم بغداد العسكري، وأخذوا منه رسائل السلطان السلجوقي مسعود ملكشاه إليه، وعجز جيش أتابك زنكي عن القضاء على العيارين في حرب استمرت عشرات الأيام.
في هذه الأيام هاجم العيارون بيوت القادة السلاجقة، وسرقوا أموالهم، وأموال من يواليهم من التجار والمسؤولين في الدولة، وتعاطف الشعب في بغداد مع العيارين وعاونوهم في الثورة على الحكم العسكري السلجوقي.
وتجددت هذه الثورة عام 532هـ وكان للعيارين الدور الرئيسي فيها بقيادة ابن بكران العيار ورفيقه ابن البزاز، حتى إن جنود السلاجقة تعاملوا مع الثورة بنفس منطق اللصوص، فكانوا ينهبون البيوت أيضًا، وتنسب جرائمهم للصوص، بحسب ما يقول مؤرخون مثل ابن الأثير، الذي أنصف اللصوص في هذه الواقعة.
وزاد نفوذ ابن بكران حتى إنه كان يمشي بموكب في بغداد وسط رجاله، وسك عملة باسمه، حتى أعدوا له كمينًا، دبره الوالي أبي الكرم عن طريق ابن أخيه أبي القاسم الذي كان صديقًا لابن بكران، فدعاه إلى جلسة للشراب في بيته، وأثناء استرخائه قتله أبوالقاسم، وبعدها ألقي القبض على رفيقه ابن البزاز وصلبوه في بغداد، ومعه مجموعة من كبار اللصوص.
هناك نماذج أخرى للصوص عيارين شطار خلال القرن السادس، فأمر العيارين لم ينته بقتل ابن بكران، بل منهم من قويت شوكته بالتحالف مع مسؤولين في الدولة السلجوقية كانوا يقاسموه في حصيلة سرقاته، ومنهم العيار ابن قاروت الذي كان يتقاسم مع شقيق زوجة السلطان مسعود ملكشاه نفسه حصيلة السرقات، وظل الأمر كذلك حتى هجوم المغول وانتهاء الدولة السلجوقية، والخلافة العباسية في بغداد، لتبدأ مرحلة جديدة في العالم العربي والإسلامي عام 656هـ 1258م.
لصوص ولكن
سياق الأحداث يدل على أن اللصوص العيارين الشطار كانوا في أوقات كثيرة أصحاب ضمير، ففي الغالب كانوا يسطون على البيوت الأرستقراطية وطبقة الحكم لا على الفقراء أو الطبقات الشعبية، ولا يمكن أن نفصل ذلك عن الإحساس بالظلم الاجتماعي الذي ساد طيلة هذه العهود في قرون الضعف والاضمحلال العباسي.
هذا الظلم لم يكن العيارون هم مظهره الوحيد، فقد كانت ثورات القرامطة والزنج أبرز تجلياته، بما للحركتين من توجهات اجتماعية، وصفها كثير من الباحثين في عصرنا بالاشتراكية؛ فبينما كان الشعب في فقر وظلم كانت طبقة الحكم والقريبون منها في نعيم وترف، فكانت الثورة ضد هذه الحالة.
كذلك دلت الأحداث أن هؤلاء اللصوص كانوا في أوقات الأزمات خير معين للوطن، ففي البداية قاوموا الغزو الفارسي الذي تجسد في جيش الخليفة المأمون وانحازوا إلى الخليفة الأمين الذي كان يميل إلى تفضيل العرب، وكانت أمه زبيدة عربية عباسية.
وبعد ذلك قاوموا الغزو البويهي ودافعوا عن نفوذ الخليفة العباسي ضدهم، ثم عادوا وقاوموا النفوذ السلجوقي الذي جعل الخليفة العباسي مجرد دمية لا حول لها ولا قوة، وبالتالي لا يمكن أن نعتبرهم مجرد لصوص معدومي الضمير، رغم أن كتب التراث تتحدث عنهم في الغالب بشكل مشين، رغم عدم إغفالها لأدوارهم التي سردناها.
- تاريخ الطبري
- تاريخ ابن الأثير
- مروج الذهب للمسعودي
- «كتاب بغداد» لابن طيفور
- «فتوح البلدان» للبلاذري
- «لحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري» لآدم متز
- «الفتوة منذ القرن الأول الهجري حتى القرن الثالث عشر» للدكتور مصطفى جواد
- «الشطار والعيارين: حكايات في التراث العربي» للدكتور محمد رجب النجار