حكايات من النكسة: ملاحم فردية في مستنقع 67
الجنرال سعد الشاذلي في برنامج «شاهد على العصر»، يصف طريقة إدارة المشير عبد الحكيم عامر للقوات المسلحة قبيل النكسة.
نكسة قيادة
كان عبد الحكيم عامر ضابطًا شابًا برتبة رائد، ثم تجاوز ثلاث رتب دفعة واحدة وأصبح لواءً عام ٥٣، وأصبح قائدًا عامًا للقوات المسلحة، وصار فريقًا ثم مشيرًا في عام ٥٨، ونائب رئيس الجمهورية، ما يقرب من خمس وثلاثين عامًا من الدراسة العسكرية والخبرات القتالية كان يجب عليه اجتيازها ليصبح ربما مؤهلًا لمثل هذا المنصب، ولكن دولة يوليو جعلته يقفزهم كالصاروخ، ثم فجأة هبط الصاروخ، ولكن فوق رؤوسنا جميعًا في النكسة.
يحكي خال أمي -وهو جندي شارك في حرب اليمن والنكسة والاستنزاف وأكتوبر-: «كنا مفرومين في حرب اليمن ومش عارفين إحنا هناك ليه وفجأة جابونا وبعتونا ع الجبهة مباشرة، مفيش ناقلات لحمل الدبابات، مشينا بالدبابة ٢٠٠ كيلو لحد الكونتيلا والجنزير باظ وميتين من التعب وأول ما وصلنا الحرب قامت»، وعاد سيرًا على الأقدام من سيناء للقاهرة.
يصرح عبد الناصر بكل جرأة أنه إذا كانت اسرائيل تهدد بالحرب فنحن جاهزون ومستعدون لها، ويستمر الرجل في منصبه بعد النكسة.
يسأل أحمد منصور سعد الشاذلي عن خطة حشد القوات في سيناء هل كانت هجومية أم دفاعية، فيجيب الشاذلي بأنها كانت مرتبكة للحد الذي يجعلها أحيانًا تبدو دفاعية وأحيانًا أخرى هجومية.
يكفي هذا للتأكيد على أنها كانت نكسة نظام وقيادة بكل حسم، يتبقى فقط أن نعلم أنها كانت بطولات وملاحم لقادة وجنود بسطاء مثّلوا حالات فردية وسط هذا الفشل المتراكم.
صلاح دانش: عندما يخذل الطيار مدفع طائرته
المقدم طيار صلاح دانش، أقلع بطائرته المقاتلة صباح السابع من يونيو وكانت مهمته مهاجمة طابور مدرع إسرائيلي يتقدم من العريش، اشتبكت معهم طائرات إسرائيلية أسقطت طائرة زميله سمير إدريس فاستشاط غضبًا وناور بطائرته حتى أصبحت الطائرة الإسرائيلية في مرماه واضحة، ولكن مدفعه لم يستجب وجاءت طائرة إسرائيلية أخرى ضربته من الخلف، وبدأت طائرته في السقوط وقفز منها، وسقط بالمظلة على الأرض قريبًا من حطام طائرته وطائرة سمير.
سقط في وسط سيناء بالقرب من جبل المغارة على بعد حوالي ٨٠ كيلو من القناة ولم يكن معه أي مؤن ولا طعام ولا شراب أو أجهزة اتصال، وسار في اتجاه القناة حتى عثر على سيارة مصرية من حرس الحدود أخذته إلى منجم فحم المغارة، وعلموا بقرب القوات الإسرائيلية فسار مع عمال المنجم مرة أخرى في اتجاه القناة والحيرة تملؤهم من كيفية وصول القوات الإسرائيلية إلى وسط سيناء والإذاعة المصرية لا تتوقف عن سرد الانتصارات.
ساروا حتى نفدت المياه وبدأوا يتشاجرون على البول، وتفرقوا في الطرق من شدة التعب، وأطلق أحدهم النار على نفسه من شدة اليأس أمام عيني المقدم صلاح.
ثم عثرت عليهم قوات إسرائيلية، وسقط صلاح دانش أسيرًا في أيديهم ونقلوه إلى تل أبيب، واستجوبته المخابرات الإسرائيلية حوالي شهرًا كاملًا ثم نقل إلى معسكر عتليت وكان به ما يقرب من ستة آلاف أسير مصري بمختلف الرتب.
عاد إلى الوطن بعد ثمانية أشهر في مبادلة للأسرى، وظل يدرب الطيارين المصريين الذين شاركوا في حرب أكتوبر وشارك معه في طلعات خفيفة.
أسامة صادق: 34 كيلو من البطولة
العميد أسامة علي الصادق، وكان برتبة ملازم وقت النكسة، وجد نفسه مع كثير من الضباط والجنود تائهين في الصحراء، مات وأُسر منهم الكثير، ومنهم من قتله العطش والحر قبل الجوع، ومنهم من خارت قواه من شدة العطش حتى التهمته الطيور الجوارح وهو ما يزال حيًا، ومنهم من مات بعد أكل وشرب أدوية ومراهم وحقن وجدوها في سيارة إسعاف إسرائيلية من شدة الجوع والعطش.
استطاع الملازم أسامه النجاة من الحر والجوع والعطش مع خمسة من جنوده؛ بسبب عثورهم على أحد بدو سيناء الذي أطعمهم وسقاهم ليكملوا رحلة شاقة عسيرة للعودة إلى القاهرة. اشتبكوا مع الإسرائيليين أكثر من مرة، ودمروا عربات ودبابات إسرائيلية بأسلحة بسيطة، أغلق عليهم مدخل كهف اختبأوا فيه من قذف إسرائيلي لمدة ثلاثة أيام كاملة حتى استطاعوا الخروج، شاهدوا جثث الأسرى المصريين وقد دهستهم الدبابات الإسرائيلية، شربوا بولهم وأكلوا الغربان والسحالي وكل ما استطاعوا الإمساك به في الصحراء، ساروا في الملاحات حتى أعيت جلودهم وحرقتها الشمس، تمكنوا من العودة بعد حوالي شهر كامل من بداية النكسة، ساروا ما يقرب من ألف كيلو سيرًا على الأقدام.
وعندما عبروا القناة غربًا وعادوا، استقبلهم شخص من المخابرات قام بخصم الأجزاء المفقودة من سلاحهم من مرتباتهم «عسكري فقد مزيتة السلاح ولا فرشة النظافة»، وعندما وصل للملازم أسامة وعرف بياناته قال: «حمد الله على السلامة يا فندم، وحزن أسامة لأنه لم يقلها لجنوده».
وفجأة سمعوا صوتًا من داخل المكتب «خلصت مع ولاد. الشرمو** يا عبد القوي؟»، فرد عليه بالإيجاب وطلب منهم التوجه لمكتبه.
دخلوا إلى مكتب الرائد أحمد من المخابرات بملابس متسخة مهترئة، يرتعدون من شدة البرودة والبلل والطين، وسألهم: «كنتوا فين المدة دي كلها يا ولاد الجزم؟، قاعدين تلعبوا في سينا وسايبين البلد تضرب تقلب؟»، وبدأ يعتدي عليهم حتى ضربه أحد الجنود فتدخل معاونو الضابط وأوسعوهم ضربًا حتى فصل بينهم عمال هيئة قناة السويس، يحكي العميد أسامة بكل أسى: «ضربونا وإحنا شكلنا هياكل عظمية، أنا رجعت من سيناء وزني ٣٤ كيلو».
الانسحاب الأعظم
سعد الدين الشاذلي؛ مهندس العبور، كان لواءً يقود قوات خاصة سميت بعد ذلك بمجموعة الشاذلي، كانت الأوامر تأتيه متخبطة من القيادة، يتحرك بالدبابات في كل مكان، وتستهلك دون أي داع، كان وقت الحرب متمركزًا جنوب القطاع الأوسط في سيناء وذهب في السادسة صباح الخامس من يونيو ليحضر اجتماع القيادة في مطار فايد.
يجلس جميع قادة قوات سيناء في انتظار المشير وفجأة يسمعون دوي الانفجارات، مطار فايد يقصف بالطائرات الإسرائيلية، طائرة المشير في الجو تمنع الدفاع الجوي من التدخل، ولا يوجد قائد واحد مع قواته، كان ذلك هو الموقف صباح الخامس من يونيو حزيران ١٩٦٧.
عاد الشاذلي إلى قواته في المحور الأوسط بعد العصر ليجدهم في حالة تحفز مع حيرة كاملة، يحاول الاتصال بقيادة سيناء أو القيادة العامة فلا يستطيع، والطيران الإسرائيلي يجوب السماء؛ عزلة عسكرية تامة.
درس الرجل الموقف بعناية ثم اتخذ قرارًا جريئًا بالتحرك خمس وعشرين كيلو مترًا شرقًا لا غربًا؛ أي داخل الحدود الفلسطينية، ليحتمي بين جبلين من الطيران الإسرائيلي ويحصل على المياه من بئر هناك، مر اليوم الأول بسلام، وفي اليوم التالي ما زال يحاول الاتصال بالقيادة دون جدوى، يستمع إلى الإذاعات الوطنية المصرية فيجدها تهلل بالنصر وإسقاط الطائرات الإسرائيلية في كل مكان، يرصد الموقف حوله فتملؤه الشكوك، فيستمع إلى إذاعه العدو لمعرفة المعلومات الحقيقية، قطعًا لا يستطيع إعلام الستينات إخبار المصريين بالحقائق فالمهم أن نصبح يدًا واحدة، أما خسارتنا في الحرب فلا تهم.
السابع من يونيو ٦٧ تم الاتصال بينه وبين القيادة العامة في القاهرة، أتاه صوت يصرخ فيه: إنت بتعمل إيه عندك، انسحب فورًا العدو وراك. حاول الشاذلي إخبارهم بقلقه من الطيران الإسرائيلي وأخبر القيادة أنه سينسحب ولكن لم يكن في نيته الانسحاب في ضوء النهار فانتظر حتى الليل وبدأ في التحرك غربًا حتى وصل إلى .القناة في الثامن من يونيو
هل تخيلت المشهد عزيزي القارئ؟، ضابط من أكبر القيادات في الجيش المصري لا يستطيع الاعتماد على إذاعة وإعلام وطنه في حالة الحرب؟، يتجه للاستماع لإذاعة العدو ليعرف موقف الحرب؟، لا يستطيع الوثوق في قرارات قياداته، يخالفها ويقرر الانسحاب ليلًا لأنه يشعر بأنها تصدر قرارات متخبطة؟.
يمكننا إذن أن ندعي أنها كانت نكسة لنظام دولة يوليو، وليست نكسة تسبب بها المصريون أو حتى «الجيش المصري ككل»، بل كانت نكسة نظام يهمل العلم ويدير البلاد بالفهلوة والعمودية، نكسة نظام اعتاد الكذب على شعبه وضباطه، نكسة نظام قهر أبناءه ورغم ذلك توقع نصرًا.
رحم الله شهداء نكسة ٦٧ وطيب ثراهم؛ ضحايا الإهمال المصري الذي لم يحاسب عليه أحد حتى الآن.