مجموعة «حكايات بعد النوم»: حين تتحول القصة لأغنية
أحب القصص القصيرة جدًّا، وأتابع بين الحين والآخر أجدد الإصدارات؛ لذلك سعدت حين علمت أن دار مدارات للنشر والتوزيع أعلنت عن مجموعة قصصية تحت اسم «حكايات بعد النوم» لكاتب جديد. هذه السعادة ما لبثت أن تحوَّلت لرغبة في اقتناء الكتاب لما عرفت أن الكاتب الكبير «محمد المخزنجي» هو من كتب مقدمته، ثم شاهدت مقطعًا عبر اليوتيوب للدكتور «أحمد خالد توفيق» يتحدث فيه عن آخر الأعمال التي نالت إعجابه للكتَّاب الشباب، ليختار العرَّاب تلك المجموعة لكاتبها أحمد الديب قبل أن يصفها تارة بالمعزوفة، وباللحن تارة أخرى، فما كان مني سوى أن وضعت اسم المجموعة في صدارة قائمة مشتريات معرض الكتاب.حصلت على حكايات الديب، وكانت المفاجأة الأولى بالنسبة لي هي مقدمة د. المخزنجي، الذي أفرد مساحة لا بأس بها في التعبير عن إعجابه الصادق بالكاتب وبما كتب، لكن الملفت أنه اختار تعبيرًا يلائم ذلك الذي انتقاه العرَّاب، لقد شبه حكايات الكاتب بالأغنيات، ثم وصف الكاتب بطاغور السكندري نسبة للشاعر البنغالي المبدع «روبندرونات طاغور»، وللإسكندرية حيث ولد ويعيش الديب. تُرى، كيف تتحوَّل القصة لأغنية؟
حكايات قصيرة وحكايات قصيرة جدًّا
في البداية دعني أعرِّفك على كتابنا. تقول صفحة الكتاب على موقع goodreads إنه صُدِر عن دار مدارات كما أسلفنا في أبريل/نيسان عام 2014. وهو مكوَّن من جزأين؛ الأول يشتمل على قصص قصيرة وعددها 11، تحمل نفس عنوان اسم المجموعة، والثاني مكوَّن من 27 قصة تحمل عنوان قصص صغيرة، بعضها فعلًا لا يتجاوز السطرين. الكتاب مكوَّن من 95 صفحة، وهنا أجدني مضطرًا لاستخدام ذلك الكليشيه المبتذل عن قيمة محتوى الكتاب التي تفوق عدد صفحاته، لكني فقط أعدك أنك ستعيد قراءة المجموعة أكثر من مرة. هذا ما قام به فعلًا محمد المخزنجي.أما الكاتب فقد درس الصيدلة. ومجموعته تلك هي كتابه الأول والوحيد حتى الآن، وهي مكوَّنة من مختارات قصص كتبها بين عامي 2008 و2013. لديه أيضًا ترجمتان لأعمال كاتب الرعب الأمريكي «هوارد لافكرافت». الديب نشيط جدًّا على حساباته عبر تويتر و فيس بوك لمن يحب متابعته.
الجزء الأول: في مقاومة العالم الفظ الذي يُثقلنا
نحن على مشارف 2019 نعيش في عالم صعب للغاية. يخنقه الوضع السياسي، وتعصره الأزمات الاقتصادية المتلاطمة. وقد أضحى البحث فيه عن الجمال وتأمله رفاهية بعيدة المنال. ولهذا السبب ربما وضع الديب الجزء الأول من مجموعته تحت اسم «حكايات بعد النوم»، لأنها أشبه بالأحلام الرقيقة التي تمر سريعًا أمام عينيك لكنها تنجح في أن تطبع أثرًا في روحك رغم صخب الحياة.اختار الكاتب أن يكون أبطاله في الجزء الأول هم الجمادات والحيوانات، كالفراشة والسنجاب والشجرة والوردة ونجمة البحر وعقارب الساعة، واستحضر مشاهد من بيئتها التي تعيش فيها كالغابة والجبل وحوض الأسماك، لكن إبداعه ككاتب يتجلى في ثلاثة أمور؛ أولها هو رسم مكونات/عناصر المشهد ذاته، وثانيها هو اختيار المنظور المختلف الذي يريد القارئ أن يري من خلاله المشهد أو ربما العالم، وثالثًا هو صياغة الحبكة أو البناء القصصي المتماسك بحيث يمكنك كقارئ أن تتفاعل بصدق مع أبطال القصص. هل يمكن للون الأصفر أن يعلمنا الرضا بما نمتلك ونجيد؟ أو أن نسمح لسنجاب بأن يعطينا دروسًا في الثورة والتمرد على واقعنا؟ هل يمكن أن يكون للفراشات كل هذه القدرة على صناعة الجمال؟ هذه أمور قد تبدو غارقة في الرومانسية، سوى أن الكاتب نجح في أن يجعلنا نتقبلها ونتفاعل معها. من القصة الأولى يبدو الديب متمكنًا من لغته. فهو يختار المفردات والألفاظ التي تخدم النص، ويضبطها في المواضع التي يريد تحديدًا، وهو ما يجعل أسلوبه شديد السهولة والسلاسة على القارئ، إذ لا يوجد أي تعقيدات لغوية، أو صعوبة في فهم المعاني التي يقصدها، كما أنه أحيانًا يترك نهاية القصة شبه مفتوحة، وهو ما يمنح القارئ قدرة على تخيُّل مقصود الحكاية. في مقدمة المجموعة يقول الدكتور المخزنجي إنه كلما عاود قراءة نصوص المجموعة تغمره النشوة، ويخرج من زحام وضوضاء هذا العالم الذي يُثقلنا. هذا ربما كان الهدف الأول للكاتب، وقد نجح في تحقيقه فعلًا. أعجبني في هذا الجزء الأول قصص «أصفر – ورد وياسمين – عقارب – ابن الحداد – الولد والبحر»، وأظن أني سأعيد قراءتها مرات.
الجزء الثاني: من أي بهاء تولد أغنياته؟
بدأت في الجزء الثاني من المجموعة المعنون تحت اسم «قصص صغيرة». قرأت القصة الأولى فأعجبتني، تكرر الأمر في الثانية، وعند الثالثة شعرت أن أول ثلاث قصص سيكونون من قصصي المفضلة، وبعد التهام الرابعة قررت أن أتوقف عن العد والتحيز لقصة دون الأخرى حتى استكمال باقي الجزء.هذه المرة يقرر الديب أن يغير تكنيك القصة، وطريقة السرد، والنزوع الشديد نحو الخيال كما في الجزء الأول. فأبطال هذا الجزء ليسوا إلا بشرًا، وقد اختار أن يحكي قصصهم بأسلوب الراوي المتحدث أو الذي شهد الموقف بعينيه. وأول ما تلحظه في ذلك الجزء هو أمران؛ الأول هو أن أبطال القصص أُناس عاديون جدًّا، ليسوا خارقين ولا متميزين ولا يمتلكون أحيانًا أي شيء مختلف عن قارئ القصص، فأحدهم كان يجلس منتظرًا حافلة، وثانيهم مجرد راكب في قطار، وآخر ليس إلا إمام مسجد، وربما كان أحدهم أيضًا عامل تنظيف. أما الأمر الثاني فهي أن الحكايات واقعية للغاية، نمر بها أحيانًا عند مطعم أو في مكتب أو ربما ونحن نشرب الشاي! هذا النمط في سرد وتناول القصص يلامس نفس القارئ بسهولة، لأنها قصص يعرفها ويراها كل يوم، وربما أيضًا عاشها أو كان أحد أبطالها في الواقع. الشيء المميز هنا الذي يحكي به الديب تلك المواقف هو المنظور، فهو يرى معاني مثل الرضا والصبر والرحمة وعدم الحكم على ظروف الغير من خلال مواقف بسيطة نقابلها ولا نعيرها أحيانًا الاهتمام الكافي. أما على الصعيد اللغوي فلا جديد في الجزء الثاني، الكاتب يستخدم اللغة بسهولة، ولديه حصيلة من المفردات، يستخدم الجمل الاعتراضية وعلامات الترقيم بهدف التوضيح وإزالة الإبهام وليس الإزعاج كما يفعل بعض الكتَّاب.الآن انتهيت من الجزء الثاني، ويحق لي أن أنحاز لبعض القصص. أنا معجب بقصة «أبو تريكة»، طبعًا الاسم وحده كفيل بصناعة بعض التحيز، لكنها بالفعل قصة رائعة، بالإضافة لـ «إلي الجنوب – لحظة – لافتات – سكتة – حجر – خفة – نعناع». عودة إلى مقدمة دكتور المخزنجي، إذ يقول إنه حاول اكتشاف أسباب الجمال في نصوص الديب، لكنه كان دائمًا يتذكر إحدى أغنيات طاغور البنغالي وهو يقول: «من هذا البهاء تولد أغنياتي»، فصار يتساءل: «من أي بهاء تولد أغنياته؟ أي طاغور السكندري» لو أتيحت لي الإجابة فسأقول: البساطة والمنظور. لكن سؤالًا آخر يراودني وأنا أكتب تلك السطور: لماذا لم ينشر طاغور أغنيات جديدة؟