جذوة الموهبة: هل يغير الفن حياة البشر فعلاً؟
العالم أصبح قاسيًا بالفعل؛ حروب، وإرهاب، وصراعات، ومجاعات، ونقص في الموارد المائية، وعمالة أطفال، وأمراض مستعصية، واتجار بالبشر، والكثير جدًا من الأحزان. فقاعة من الألم تحيط بكوكب الأرض، ولا أحد يفلت من قبضة آلة الزمن الرهيبة التي تسحق في طريقها الجميع.
في هذه الأوقات العصيبة يبرز سؤال مهم: هل وسط كل هذا الذي يحدث ما زال للفن قيمة؟ هل الفن فعلاً ضرورة؟ هل من الأكثر حكمة أن تتركز كل جهود البشر ومواردهم لمحاربة المشاكل الحقيقية التي تهدد الحياة نفسها، أم أن الإنفاق في مجال الفن والتسلية ضروري أيضًا؟ هل بإمكان الفن أن يغير حياة البشر، أم أنه لا يستطيع الصمود في وجه كل هذا العبث؟
الخروج إلى النهار
شاب في بدايات العشرينيات من عمره يدخل إلى مسرح برنامج المسابقات الأشهر في نسخته الأمريكية «America’s Got Talent»، يبدو طفلاً بمشيته المتعثرة ووجهه الحليق، بعد ثانيتين من ظهوره على المسرح تكتشف أنه كفيف وأنه يمشي بمساعدة أمه، بعد أن يفتح فمه ليتحدث تكتشف أنه أيضًا مصاب بالتوحد، كلماته متعثرة وبطيئة كخطواته، يتشبث بأمه أو تتشبث هي به لا فرق.
تخبرهم الأم أنها لاحظت أن الشيء الوحيد الذي يجذب انتباه طفلها المتوحد هو الموسيقى، وقد تشبثت بهذا الأمل، حتى وصل بهم الأمر إلى هذا المسرح. يبدأ الشاب في العزف على البيانو والغناء، فيختفي الطفل المتوحد الكفيف وتكتشف شابًا يعزف ببراعة ويغني بعذوبة شديدة، وبطلاقة لا يمتكلها الكثيرون.
شابة حسناء، تدخل لمسرح نفس برنامج المسابقات، هذه المرة في نسخته البريطانية «Britain’s Got Talent»، يسألونها منذ متى وهي تغني فتخبرهم أنها تفعل ذلك منذ كانت طفلة، فالغناء ساعدها على تخطي أصعب الظروف، فيسألونها عرضًا عن هذه الظروف، فتخبرهم أنها أصيبت منذ سنوات بمرض في المخ جعلها جثة هامدة، تشبه بالضبط قصة الجمال النائم، كانت أمها تعتني بابنتها الغارقة في غيبوبة غريبة، حتى حاولت فجأة أن تغني لها الأغنية التي تحبها، كانت متيقنة أن الغناء الذي تحبه ابنتها أكثر من أي شيء سوف يوقظها، وقد فعل.
فتاة جميلة أخرى تدخل لمسرح البرنامج في نسخته الأمريكية، تحمل جيتارًا وتصاحبها امرأة شابة أخرى، تقف في مواجهتها وتحدثها بالإشارة، يسألونها ماذا ستقدم فتقول إنها سوف تعزف وتغني، فيرتبك الجميع، كيف؟ إذن من هذه التي ترافقك؟ فتشرح لهم أنها أصبحت صماء منذ عشر سنوات، في قمة مراهقتها أصبحت معزولة تمامًا عن العالم المحيط بها، ولكنها بعد فترة اكتشفت أنها تستطيع الشعور بالذبذبات، فطورت موهبتها تلك لتستطيع الخروج من فقاعة الصمت التي حبست فيها رغمًا عنها وتلتحم مع العالم مرة أخرى.
اقرأ أيضًا:لماذا نحب الموسيقى والأفلام الحزينة؟
كل هؤلاء كانوا بشرًا معزولين تمامًا، يعيشون داخل فقاعات كثيفة من الألم، الألم يغلفهم طبقات فوق طبقات، محبوسين داخل الظلام، ولم يستطع أي شيء أن يشق حجب هذا الظلام سوى الفن، الموسيقى والغناء أنقذوا أرواحًا كانت تتعذب وحدها، كان الغناء صوتهم الذي استطاعوا به أن يقولوا أخيرًا إنهم موجودون وأنهم هنا، وأنهم بشر وأنهم ما زالوا أحياء.
«لسة في الأيام أمل مستنيينه»
عينان حزينتان، هذا أول ما سوف تلاحظه عندما يدخل هذا الصبي إلى المسرح، عينان يبدو أنهما رأتا ما كان لا يجب أن ترياه. رجل صغير، كأنه عاش تجربة ضغطت على زر سرعة الزمن فاختصرت سنوات من عمره، فنضج قبل الأوان. يسألونه ماذا سوف يقدم فيقول إنه يعزف الكمان، ويحكي قصته، يحكي عن السرطان الذي أصابه، والبشر الذين كادوا أن يفتكوا به، يحكي عن تنمر زملائه بالمدرسة وابتعاد الجميع عنه لأنهم يظنونه معديًا بعد أن وقع شعره، يقول إن الشيء الوحيد الذي ظل بجانبه هو أمه والموسيقى، ويبدأ في العزف فيشتعل المسرح.
في نسخة البرنامج الأيرلندية «Ireland’s Got Talent» يزدحم المسرح فجأة بسيدات كبيرات، يصطففن بسعادة ويخبرن اللجنة أنهن كورال وسوف يقمن بالغناء، يسألونهن كيف تعرفن على بعضهن البعض، فيحكين أنهن جميعًا تقابلن في مجموعات للتعافي من السرطان، وأن منهن من سوف ينهين العرض ويذهبن في الصباح لتلقي جرعة العلاج الكيماوي، يضج المسرح بالتصفيق بينما تنطلق حناجرهن بالغناء.
فتاة سمراء يعاني جسدها من خطب ما، تكتشف عندما تحكي قصتها أنها تعرضت لحادث طائرة في وطنها الأصلي نيجيريا وأنها كانت الناجية الوحيدة هي وأحد الركاب الآخرين، اثنان فقط من أصل أكثر من مائة راكب راحوا ضحية للحادث، الحادث الذي خلّف جسدها مشوهًا من أثر الحريق، تقول إنها كانت في المستشفى مغطاة بالكامل بالضمادات، وأنها لم تكن تملك أن تحرك شيئًا في جسدها سوى أحبالها الصوتية، فكان الغناء هو سلوتها الوحيدة.
تغني الفتاة بعذوبة شديدة وبصوت رائع، فتنتقل للمرحلة التالية، التي تدخل فيها للمسرح مرتدية ثوبًا براقًا أنيقًا، وتخبرهم أن الغناء غير حياتها للمرة الثانية وأصبحت بعد تجربة الأداء أكثر ثقة في نفسها وتمكنت من أن ترتدي ثوبًا مثل باقي الفتيات، رغم شكل جسدها الذي تركه لها الحادث.
كان هؤلاء ضحايا لليأس، المرض الذي لا شفاء منه، كل منهم كان يحمل همًا يمكن أن يقتله بجانب المرض والألم، كان الفن هو مهربهم، هو الطاقة التي منحتهم الأمل أنه لا زال هناك ربما فرصة أخرى للحياة، وأن الحياة رغم أنها ليست عادلة إلا أنها جميلة، تستحق أن تعاش، كان الفن هو اليد التي امتدت لهم في جوف اليأس لتنتشلهم، وكان هو الوسيلة التي منحها لهم الله كي تعينهم على تخطي كل هذا الحزن.
العلاج بالفن
الحديث عن أهمية الفن ودوره في علاج آلام البشر يبدو شاعريًا وفلسفيًا طالما لم يدعم بوقائع حقيقية، وحتى بعد أن يدعم بوقائع حقيقية من لحم ودم وبشر حقيقيين لا يزال هناك من يقول إنه ربما كانت هذه النماذج أكثر قوة من غيرها وأن ما حدث معهم حالات فردية، ربما ليس كل من يقع في براثن الألم والمرض أو الحزن واليأس بإمكانه النهوض بمساعدة الفن، لا زال الكثيرون يتساءلون: هل الفن فعلاً يغير حياة البشر؟
وفقًا لعلم النفس والطب النفسي، فإن العلاج بالفن هو أحد تكنيكات العلاج المستخدمة كي يستطيع المريض التعرف على ذاته بشكل أفضل، وكي يستطيع التعبير عن نفسه بحرية. الفن هو الأداة التي يستخدمها العقل بشكل ملتوٍ ليعبر عن مكنونات النفس الحقيقية بالإشارة لها حتى لو كان التصريح الحقيقي صعبًا على المريض ولا يستطيع فعله، وقد لاحظ الأطباء النفسيون منذ منتصف القرن العشرين أن المرضى العقليين يستطيعون التعبير عن أنفسهم أفضل عن طريق الفن والرسم والأعمال اليدوية ويستجيبون للموسيقى أكثر من طرق العلاج التقليدية الأخرى.
يستخدم العلاج النفسي بالفن في استكشاف الفرد لنفسه وفي تحسين الثقة بالنفس والتحكم في القلق والسيطرة على الإدمانات، ويستخدم أيضًا في الحد من تأثير الاكتئاب، وللتكيف مع الأعراض المصاحبة للأمراض النفسية والعقلية وتقبلها، يستخدم العلاج بالفن مع الأفراد والمجموعات، والأطفال والبالغين، الفن يداوي الجميع.
الآن يمكنك أن تجيب عن السؤال الذي طرحناه في المقدمة: هل يستطيع الفن فعلاً تغيير حياة البشر؟