«خلي بالك من نفسك»: أن تُفكِّك مقابض غُرفك المظلمة
أن تتابع نفسك على شاشة التلفاز
تابع الكثيرون «أمينة خليل» أو «زيزي» في مسلسلها الأخير «خلي بالك من زيزي»، الذي عُرض على شاشة التليفزيون في رمضان 2021.
كنت أتابع انطباعات وتعليقات الأصدقاء عليه على مواقع التواصل حلقةً بحلقة، البعض ذكروا أنهم ارتبطوا بزيزي وتابعوها كصديقة، كأخت، كفرد من العائلة أو الأشخاص المقربين.
أصبحت متابعة حلقات المسلسل وأحداثه أمراً مهماً لدى الكثيرين، بينما أنا لم أتابعها مثلهم كمجرد صديقة أو أخت، بل تابعتها كما لو كانت نفسي، تعلَّقتُ بها، حتى أصبح ما يؤلمها يؤلمني، كأن مشكلتها وعجزها عن التواصل مع المحيطين بها أمراً مشتركاً بيننا، وأصبح عليَّ أن أتابع أحداثه، كي أستنبط مستقبل حياتي أنا.
فقد كنت أرى بعضاً مني في شخصية زيزي، حتى ظننت لأول وهلة أنني قد أكون مصابة بهذا المرض «فرط الحركة وصعوبات التعلم»، ADHD، قبل أن أفكر في مراجعة أعراضه لأتأكد أنني لم أُصَب به أبداً.
وصل بي الأمر للبحث في بعض المشاكل النفسية والتقلبات المزاجية الأخرى لأتأكد أيضاً أنني لا أعاني أياً منها، أنا فقط متقلبة المزاج بطريقة حادة أحياناً، كأن أشعر أحياناً بفقدان رهيب في الطاقة وعدم الرغبة في مغادرة الفراش، بل عدم الرغبة في القيام بأي وظائف يومية مهما كانت بسيطة أو هيِّنة، كتمشيط الشعر.
وفي أوقات أخرى أكون مفعمة بالحيوية، بداخلي قدر هائل من الطاقة يكفيني للقيام بعدة أعمال مختلفة وتأدية مهام صعبة في وقت واحد. مثلاً أجدني في أحد الأيام لا أقوى على طهي حلة من الأرز، وفي أحيانٍ أخرى أوقد الخمس الشعلات كاملة، وأطهو الأصناف المختلفة، دون أن أفقد تركيزي أو يختل مني الطعم ومدى نضج وجودة الطعام.
أحياناً أطهو صنفاً واحداً بمنتهى الثقل، وأحياناً أطهو خمسة أصناف أو ستة كأنني مقبلة على وليمة. أحياناً لا أقوى على تعديل شكل السرير في الصباح، وأحياناً أقلب الغرفة بأكملها وأعدلها من جديد في منتصف الليل. كثيراً ما أترك العديد من المهام والضغوط التي تملأ رأسي، وأضع رأسي على الوسادة وأنام.
الأمر كله خاضع لمزاجية مجهولة المصدر، مزاجية تجعل الفارغ إلى جانب الممتلئ في نفس المكان، بشكل يصعب تمييزه، كأن تضع الملح والسكر في كوبٍ واحدٍ، ولو أذبت هذا الكوب ببعض الماء مرة واحدة لحصلت على سائل ماسخ الطعم، بينما لو تركته على راحته حتى يتخلص من ملحه أو سكره أولاً، كي لا يختلطا معاً، لحصلت على مشروب نقي مُحدَّد ومُميَّز الطعم. ولكن هذا ما لا يسمح به العالم -غالباً- من حولك.
الكل دائماً في حالة حركة، في حالة انتظار وقوع الخطأ، في حالة من الترقب لإصدار الأحكام وتوجيه النقد كطلقات من الرصاص مصوبة نحو الصدر الساذج. مسدسات الجميع محشوة بالطلقات طوال الوقت، الكل في حالة تأهب ورغبة متسارعة في إفلات الطلقات.
لهذا نكسر قواعد البشر
شخصية زيزي تتميز بالعناد والاندفاع الطائش، بينما بقليل من التأني والتحكم في النفس، يتبخر جزء كبير من هذا الاندفاع، مُخلِّفاً التلقائية والبساطة المُحبَّبة والجميلة التي نهفو إليها كثيراً.
لقد شعرت بحميمية شديدة في المشهد الذي دعاها فيه «مراد» لتناول الطعام، حين أصرت وقتها على ترك الشوكة وأدوات المائدة وتناولت الطعام على الواقف. أنا لا آكل بتلك الطريقة، لكنني لا أحب تكتيفة الكراسي، أحياناً أتَّبع القواعد المعروفة، أتلذَّذ بالتقطيع بالشوكة والسكين، ولكن في أغلب الأوقات أتربع على الأريكة، وأضع الطبق على ذراع المقعد أو على ساقي المتربعة وآكل. أحب التعامل مع العالم مثلها، من منظور طفل، التعامل مع كل شيء من منطق الفضول والتجريب، اللذين لولاهما لما اكتُشف العالم من الأصل.
أحب ملامسة الأشياء قبل التعامل معها، أتلذَّذ بالمشي حافية على الرمال أو حتى على العشب الأخضر في الحدائق، أحب اختبار العالم بباطن كفِّي أو قدمي، ربما هذا يُشعِرنا أكثر بالأمان، بالانسجام مع الحياة والطبيعة البكر من حولنا.
نهفو إلى ماضٍ لم نعشه
من منَّا لا تشغله ذكريات الطفولة؟ ذكرى لحظات الحنان والاهتمام الأولى؟ وإن كنَّا أحياناً نهفو إلى ذكريات أخرى أبعد، نهفو إلى ماضٍ بعيد، لم نعشه، لكن عاشه أجدادنا، نهفو إليه كأنه جزء من ماضينا نحن، كأننا عشناه واختبرناه بالفعل.
هذا ما حكاه الطبيب النفسي في المشهد الذي أخبرها فيه أن اختلافها عن الآخرين يرجع فقط لكونها لم تتخل عن حياتها البدائية الأولى، أخبرها أن الإنسان البدائي ما زال مخزوناً في ذاكرتها وبنيتها النفسية، رافضاً بعض صور التطور الذي فرضه الزمن.
في هذ المشهد شعرت بتعاطف شديد معها، إنه نفس شعور الاغتراب وعدم التأقلم الذي نمر به كثيراً حين نعجز عن وصف حالنا للآخرين، حين نعجز عن التأقلم معهم ومع إيقاعهم المختلف للحياة، والذي يَجرُّوننا إليه غصباً، فنمتلئ بالعجز، الذي نترجمه في صورة غضب ورفض، أو حتى في صورة تقبل مزيف يجعلنا مليئين بالحزن وعدم الرضا.
لِمَ لا تحافظ على الطفل الشقي؟
في المشاهد الأخيرة من المسلسل تقول «زيزي» لـ «مراد» حين يخبرها عن مخاوفه بخصوص فكرة التخلي عن الإنجاب، تقول له ببساطة إنه لن يفتقد الأطفال وصخبهم وشقاوتهم؛ لأنها هي نفسها طفلة كبيرة. هي لن تتوقف عن الصخب والشجار والعناد كالأطفال.
كان هذا المشهد مُميَّزاً أيضاً. كلنا بداخلنا هذا الطفل الشقي العنيد. الذي نُخبِّئه إمَّا خجلاً، وإمَّا خوفاً من ردود فعل الآخرين، رغم أنه قد يكون أجمل ما فينا.
فككوا مقابضكم بأيديكم
في مشهد آخر مميز، يفك «مراد» مقبض الباب ويضعه في يد زيزي، وهو يحاول طمأنتها أنها لن تُحبَس ثانية في تلك الغرفة، التي كان أبواها يحبسانها فيها حين تتمادى في شقاوتها وعنادها الطفولي.
يحاول طمأنتها أنها لن تصرخ ولن تضرب الباب المغلق مراراً بيديها دون أن ينتبه لها أحد. كل هذا لن يحدث مُجدداً. سيظل باب الغرفة مفتوحاً إلى الأبد.
هذا المشهد يخبرنا أننا كلنا محبوسون في غرف ما، غرف تحبسنا في داخلها أو في داخلنا، كلنا نتوق لمقابض مخلوعة تُوضع في أيدينا بتلك البساطة، كلنا في حاجة لهذا الهواء الحر من الباب المفتوح أو الموارب، لكن كالعادة العالم المتعجل يمضي بإيقاع أسرع من اللازم، يعاملك كطفل بليد عليه أن يظل محبوساً في غرفته حتى يُنهي فروضه. العالم يعتبر الأبواب أهم من البشر، والمقابض والأقفال أغلى من أرواحهم.
انتصار «زيزي» لم يقتصر على وجود شخص يتفهم اختلافها ويتقبله، بقدر ما كان تفهمها لنفسها وتقبلها لهذا الاختلاف الذي قد يجعلها أكثر تميزاً عن الآخرين.
ربما الجميع في حاجة ليد تمتد إليه بالمساعدة، لكن النجاح الحقيقي لا يتأتَّى إلا إذا ساعدت أنت نفسك، إلا إذا آمنت بها، وفكَّكت لها المقابض، وأغلقت كل غرفك المظلمة، وأضأت بنفسك غُرفاً أخرى وجديدة، لتتعلم بعدها كيف «تِخلِّي بالك من نفسك» قبل أن تنتظرها من الآخرين.