خلي بالك من زيزي: دراما اللعب في مساحة الهامش
خلال هذه الأيام يُسدل الستار على الموسم الرمضاني، من خلال مجموعة من الأعمال يتنافس معظمها على الرداءة، ويطمح المتميز منها أن يلعب في مساحة المقبول، أو الجيد في أفضل الحالات.
معظم المسلسلات المعروضة خلال الموسم الحالي، تحاول إقحام نفسها في مساحة المركز، بعيدًا عن الالتفات على الأقل إلى الأسس التي تقوم عليها صناعة عمل درامي. افتعال للعمق ينتهي بكشف الاستخفاف المستفز بعقول المشاهدين، محاولات مستميتة لمطّ النصوص كي تكفي ثلاثين حلقة، مركزة مجموعة من النماذج الباهتة، التي لا تعبر عن شيء، ولا تنطلق خلال مسار درامي يمكن تتبّعه، فقط أشخاص سطحية، لا تملك إلا مجموعة باهتة من الخطابات، يحاكي بعضها الخيال الذكوري المجتمعي، ويحاكي الآخر منها إطلاق الحكمة وتصدير الموعظة والوعي والمعرفة والإحاطة الكاملة، إحاطة كاملة لا تشوبها شائبة النقص البشري.
من بين كل ذلك البحث المستميت على المركز، والصراع غير المستحق على استحقاق الجودة، ظهرت أعمال درامية، تقدّر نفسها أولاً وتقدر المشاهدين، وتلتزم بضرورة «البذل» لخلق محتوى يقبل أن يتحدث عنه الجمهور، ينال إعجاب البعض وعدم إعجاب آخرين، لكنه في كل الأحوال يظل محل جدل ما، يحمل على الأقل تقديمًا جيدًا، وإن كان جزئيًا، إلا أنه يجد لنفسه ما يشفع له بالاستمرارية في المشاهدة.
قبل بداية عرض المسلسلات الرمضانية بيومين، بدأ عرض مسلسل «خلي بالك من زيزي» بطولة أمينة خليل ومحمد ممدوح وعلي قاسم، إخراج كريم الشناوي، كتابة منى الشيمي ومجدي أمين تحت إشراف عام على الكتابة من مريم نعوم.
اشتباكات مباشرة
تقدم الحلقات الأولى شخصية زيزي المتخبطة، التي تتحرك خلال كل شيء بإيقاع سريع، ولا تجيد أن تتعامل مع محيطها بهدوء وتحكّم، وتقدّم أيضًا، زيزي التي تبحث عن الأمومة، كذات بديلة لها وممتدة من خلالها، أو كبحث مغاير عن القيمة خلال مسيرتها التي تعبّر عن تتابعات من الفشل. تفشل زيزي في الحقن المجهري للمرة الرابعة، تصبح فرصتها في الحمل قليلة، وحينما تطلب من زوجها هشام أن تعيد تجربة الحقن مرة أخرى وتلح عليه في الطلب، يفاجئها بأنه لم يعد يتحمل فكرة الزواج من الأساس، تعتدي عليه زيزي وتضربه، وهنا تبدأ الازمة المحورية للعمل.
ينتقل العمل خلال تطورات متتابعة، يسلّم بعضها بعضًا بعدما تثقل الشخصيات بتداعيات وتأثيرات التجربة، وبالتالي تصبح الشخصية ذات وجود مركب، وثقل درامي أكثر وضوحًا، يدفعها إلى الاشتباك مع تطورات أخرى.
يتمحور الثلث الأول من المسلسل حول زيزي وهشام، كأطراف أساسية معنية بأزمة الانفصال، وتمسّك كل طرف منهما بضرورة الانفصال حسب رغبته، ويتبيّن أن هذه هي التيمة التي تبدو الأساسية للعمل «لصالح من سيتم الطلاق ؟» هي مقدمة توحي بمركزية وهمية، وخلال تجربة كل طرف منهما في إثقال أدوات وتعزيز الفرص في تحقيق الطلاق حسب رغبته، تبدأ الشخصيات الرئيسية في التراجع عن مركزية الأحداث، تظهر شخصيات أخرى، لديها عوالمها المستقلة، ولديها أيضًا القدرة على الاشتباك المباشر مع المسار الدرامي، ويتحول المسلسل تدريجيًا إلى نشاط درامي يخلو من تراتبية المحاور، وتتسم محاوره بجماعية التبادل في العرض.
يعتمد المسلسل على طبيعة تقديم «دارميدي»، وهو نوع تقديم درامي، بدأ ظهوره في الممكلة المتحدة أواخر السبعينيات، يجمع الأدوات الدرامية\الكوميدية مع بعضها، لسبك حالة من الخفة تساعد على تقديم محتوى «ثقيل».
حينما ننظر إلى خلي بالك من زيزي، نرى أنه يتحرك خلال محطات وتطورات تشتبك بشكل مباشر مع أزمات مجتمعية كبرى، أولها مثلاً مشكلة الطلاق، وبالتتابع عندما نتعرض لحياة زيزي على مستوى أكثر تفصيلاً، تتبين أزمتها النفسية مع نفسها، ومع العائلة كطرف أساسي مشارك في جذور هذه الأزمة، ومن ناحية أخرى يبدو هشام، دكتور في الجامعة، طيب القلب و«غلبان» ومقهور أغلب الوقت تحت وطأة الصمت تجاه أفعال مستفزة ومتسلّطة.
حول أزمة زيزي وهشام، ثمة نماذج متعددة، لديها مشكلاتها الخاصة، كلها مشكلات مركزية تهدد الطبيعة الآمنة زائفة الشكل للسياق المجتمعي الذي نعيشه. عادة تميل الطبقة المتوسطة، الشريحة الأكثر تشكيلاً للأكواد الأخلاقية والأفكار المجتمعية الكبرى، إلى الميل لتصدير «الستر والرضا» ضد الطلاق، وإن كان الثاني حلاً واضح أنه آمن، كذلك تميل السرديات المجتمعية إلى التشكيك في فاعلية الطبيب النفسي والتعامل الإجرائي الحاد مع المرض النفسي باعتباره خللاً يحتاج إلى تدخل طبي مثله مثل بقية الأمراض.
أفكار كبرى يعيد إنتاجها المسلسل، بصورة تنتقل بين الجاد/الساخر كي تكسر من طبيعة الخوف قبالة تفكيك أي سردية مقدّسة يصرخ المجتمع وقتما نقترب منها، ولو بغرض التأمل ومحاولة التفصيص والتعديل لصالح خلق أفكار تتسم بالمعاصرة.
تختلف طبيعة التقديم الحميمي، البطيء نسبيًا والدافئ، المتمحور حول ترابط وتفكك العائلة، مع أسلوبية العمل السينمائي والدرامي عند المخرج كريم الشناوي في أعماله السابقة. خلال الموسمين الفائتين، قدّم كريم الشناوي مسلسلي «عهد الدم-2020» و «قابيل-2019». فكرتين قائمتين على الاعتماد على التشويق والتصعيدات الدرامية بإيقاع سريع، تتبّع لعوالم العمل الدرامي بصورة تتفقّد دائمًا، تنتظر حدثًا مفاجئًا، وتحاول استكشاف حلقة مفقودة في الحكاية.
بالنسبة إلى خلي بالك من زيزي، يجرّب كريم الشناوي مساحة جديدة، تختلف كليًا عن طبيعة أعماله السابقة، ليس على مستوى طبيعة التقديم الحكائي فقط، ولكن على مستوى تكوينات الصورة وضبط إيقاع المسلسل والتكوينة الدرامية للشخصيات، وكيف تتعاطى مع ذاتها ومع عالمها الصغير المحيط بها.
تدفق وسيولة
مساحة الأثر التوعوي للأعمال الفنية، على اختلاف مدى حاجة وقابلية الجمهور الذي يلزمه خطاب توعية فني، دائمًا ما تقع هذه المساحة، خاصة في المحتوى الدرامي المصري، في مساحة التباس، وتتجه بشكل فج ومباشر ناحية إطلاق الوصايا ومباشرة الخطاب، والتجاوز المستفز للطبيعة الواقعية للقضية التي يتم تناولها.
في مسلسل «القاهرة كابول» تشغل شخصية «عم حسن» التي يؤديها الممثل نبيل الحلفاوي مساحة واسعة من السخرية على وسائل التواصل الاجتماعي، رغم أن الفكرة المبدئية لحضور عم حسن في المسلسل، تنطلق من كونه رجلاً طيبًا، يحب الله والجمال والأرز باللبن، لكنه في الواقع ليس أكثر من حنجرة تصيح بوصايا لا تنتهي، وخطاب توعية ساذج لا يشتبك مع الواقع المحيط على أي مستوى، تعرف شخصية عم حسن أي شيء وكل شيء، قضايا التكفير واختلاف الفرق الإسلامية ونصائح في الحب والعلاقات الاجتماعية، لكن نتيجة كل هذا تحول ذلك النموذج من قبل الجمهور الذي يشاهده إلى أداة سخرية ليس أكثر، ينحصر حضورها في تبادل الميمز.
يسلط مسلسل خلي بالك من زيزي الضوء على حالة الرفض المبدئي وغير الواعي تجاه فكرة الطبيب النفسي. تعاني زيزي في المسلسل من خلل نفسي «فرط الحركة وتشتت الانتباه والتركيز- ADHD». لم يتم تصدير هذه التفصيلة في شخصية زيزي بصورة مباشرة، بل قدمها فريق كتابة المسلسل بتطويعة درامية متميزة، وخلال بنية تتدفق وتسيل إلى وعي المشاهد عن طريق الحكاية. تبدأ زيزي حلقات المسلسل الأولى بتوتر واضح دائمًا، وحالة من «الهيبرة» التي لا تنتهي، تنفعل دون داعٍ وتخطئ دائمًا في تقدير المواقف، وتجيب عادة حينما يطالبها أحد بالهدوء أنها «متعودة على كدة من وأنا صغيرة». محاولة بناء التاريخ الشخصي الصغير لزيزي مع الخلل، بصورة مستترة، تتدفق بين الجمل الحوارية عند زيزي، مرورًا بمواجهتها مع ضرورة التعامل مع عدم القدرة على ضبط انفعالاتها وعصبيتها، حتى تنتهي بزيارة طبيب نفسي، وتدرك في أول الثلث الأخير من حلقات المسلسل، أنها تعاني من خلل نفسي.
محاولة تسريب ضرورة التوعية النفسية، كفكرة أساسية لا غنى عنها لتصحيح المسارات الشخصية، وتحسين الجانب السلوكي، يتم ذلك من خلال وضع الفكرة في سياق حكائي، ومن خلال الحكاية تتدفق بصورة مضمرة، وتسيل مع طبيعة الحدث إلى المشاهد، التدفق الحاصل ينتج استيعابًا هادئًا، لا تلزم وصية ولا خطاب مباشر كي يفهمه المشاهد.
طبيعة الإدراك الناتجة من خلال اختبار حكاية متماسكة، كتجربة حياتية لا تتسم بالسذاجة في العرض، تحقق المساحة لتقديم الجانب الجمالي، كأساس انطلاق للدراما، أو الفن عمومًا، ومن ثم تمتد إلى تحقيق غايتها في التوعية، وهي أنها تترك الحكاية لتفاعلات المشاهد معها، يحاكيها ويشتبك على طريقته.
تيتو وزيزي
استكمالاً لتدفق تسليط الضوء على قضايا مجتمعية مركزية، ينطلق النص الدرامي للمسلسل على خلق مجموعة من التوازيات بين الأشخاص، ويضع تباينًا ممتدًا لطبيعة الأزمات التي تتعرض لها كل شخصية. خلال النصف الثاني من حلقات المسلسل، والتي تتمركز حول فكرة إعادة تأهيل التجربة الحياتية لزيزي، تستكشف الأخيرة طبائع وتفصيلات جذور مرضها من خلال بنت صغيرة، «تيتو» ابنة أخت مراد، محامي زيزي في طلاقها من هشام وحبيبها فيما بعد. تعاني تيتو من مرض فرط الحركة وتشتت الانتباه والتركيز، نفس المرض الذي تعانيه زيزي، وبنفس الطريقة التي استدلت به زيزي على خللها النفسي، يتم اكتشاف طبيعة الخلل عند تيتو، عقب مجموعة من العقبات التي تواجه عائلتها، خلال تعرّض تيتو لتراجع ملحوظ في حياتها الدراسية وإمكانياتها التعليمية كطفلة.
يعود الأساس الدرامي لشخصية تيتو، كأثر رجعي يصف صعوبة طفولة زيزي البالغة، إلى المصطلح النفسي «الطفل الداخلي- inner child». تمت صياغة ذلك المصطلح أولاً من قبل عالم النفس التحليلي كارل غوستاف يونج، الطفل الداخلي هو شخص فرعي مستكين في اللا وعي، يصدّر لوعي الشخصية البالغة طبيعة المشاعر التي جرت في الطفولة، سواء كانت سلبية أم إيجابية، وبالتالي تشارك طبائع الطفل الداخلي في ردود أفعال البالغين وفي مساراتهم النفسية.
تستدل زيزي على تفصيلات خللها النفسي، أسبابه الواضحة والممارسات القمعية من قبل عائلتها، بداية من التجاهل والجمود العاطفي، وحتى الحبس القاسي في غرفة جانبية من البيت، تتعرف زيزي على تفصيلات هذه الأشياء من خلال المتابعة مع الطبيب من ناحية، ومن ناحية أخرى من خلال تجربتها مع تيتو كمعلمة خاصة لمساعدتها في تجاوز ذلك الخلل سريعًا قبل سن البلوغ.
جدير بالذكر أن السيناريست «منى الشيمي» صاحبة فكرة النص، والتي كتبت حوار المسلسل، لديها تجربة عملية مع نفس الخلل، وقد عملت في مجال الصحة النفسية لفترة قبل بداية احتراف الكتابة السينمائية، لذلك تبدو آثار نتاجات التجربة الذاتية والخبرة العملية في تفصيلات الكتابة، التي اتسمت دائمًا خلال تطورات المسلسل بتدفقها الهادئ، وطبيعتها التي تميل إلى كونها منطقية وعادية ومقنعة.
هل نعيشها هكذا فعلاً؟
من خلال مشاهدة بضع حلقات من مسلسل، يمكن بسهولة رؤية حالة التكامل التي قام عليها العمل، بداية من جودة التمثيل على اختلاف مدى أساسية وثانوية الأدوار، مرورًا بجانب التصوير والترميز الصوري ليدلل على الدفعات الشعورية عند الممثلين، وحتى الجوانب التقنية، وأخيرًا طبعًا، جودة الكتابة.
كل هذه الأدوات التي أسست لنفسها دورًا مهمًا في حلقة جماعية، لم تستطع أن تهرب من تابوه ضرورة النهاية السعيدة.
شخصية زيزي، بعد صراع مع زواج فاشل، ورحلة التعافي والتعامل الصحي مع خلل نفسي، ومحاولة مواجهة عائلتها بتقصيرهم في حقها كطفلة وفتاة بالغة، تنتهي في آخر المطاف بالتسامح الواضح والتصالح مع كل ما سبق، وتعثر على حبيب مناسب أكثر من زوجها السابق، الذي بدوره يدخل في تجربة عاطفية فاشلة بعد زواجه، لكنه يجد في نفسه القدرة على الرفض و تجريب أشياء جديدة.
باستثناء تطورات شخصية هشام، ينتهي المسلسل محاولاً استقطاب رضا المشاهد الذي لا يحتاج سوى نهاية ترضيه، تغلق عليه كل الأسئلة، وتضيق المساحة بين العمل الفني وبين المشاهد. اعتمدت الحلقات الأخيرة على إعادة توجيه المسار الدرامي للمسلسل، كي يصب كل شيء لصالح زيزي، أفكار جديدة للعمل ومسارات حياتية تنفتح أمامها، علاقات مدمرة لسنوات، فجاة بدأت في التحول سريعًا، كي ينتهي المسلسل نهاية أشبه بالمكافأة لزيزي.
الأعمال الفنية عمومًا، يبدأ المميز منها بدايته الحقيقية، حينما ينتهي منه المشاهد، وينطلق الطرفان في رحلة ذاتية، أساسها السؤال، ووقودها محاولة الإجابة بصور ذاتية، تعني كل مشاهد على حدة، لذلك فإن النهاية التي تغلق كل الأسئلة، وتصحح كل المواقع وتجيب على كل شيء، هي نوعًا ما، نهايات تقتل العمل الفني، بدافع أنها تحاول أن تعطيه فرصة للبقاء، من خلال اكتساب ود المشاهد، الذي بصورة أو بأخرى، وبرغبته أو بدونها، سيتجاهل أي شيء منتهٍ، وقتما ينتهي من مشاهدته.