مسلسل «تحت الوصاية»: كيف يمكن تناول قضية بصريًا؟
يبدأ مسلسل تحت الوصاية بانتقال حنان (منى زكي) من حال إلى حال، من الداخل إلى الخارج، من منزل دافئ إلى العراء البارد، تهرب حاملة أولادها من بيت مغلق إلى خلاء مفتوح وفي لحظة خروجها من الباب يغشى اللون الأزرق على كل شيء.
يمثل ذلك القطع المونتاجي القصير مصغر لما يمثله مسلسل تحت الوصاية ككل، انتقال من الأمان إلى الخطر ومن الدفء إلى البرد. المسلسل من إخراج محمد شاكر خضير العائد بعد غياب، وكتابة شيرين وخالد دياب، وبطولة منى زكي هو حكاية مقاومة للظلم النظامي والفردي، تروى بشكل شاعري لا يسلب المعرضون للظلم من حقهم في الشعرية، لا يتناول قضاياه بجفاف أكاديمي أو بابتذال شعوري.
يتناول مسلسل «تحت الوصاية» قصة امرأة مترملة حديثًا مضطرة لأخذ أكثر الإجراءات تطرفًا لكي تتحكم في أموال أطفالها في ظل قانون الوصاية الذي ينص على حتمية تحكم جدهم في تركة أبيهم. العمل يأتي برعاية المجلس القومي للمرأة مثل أعمال سابقة تناولت قوانين يتضح للجميع تأثيراتها المدمرة على حيوات النساء والأطفال، لكن ما يجعله مختلفًا عن غيره، هو عدم تقديمه لنفسه باعتباره عريضة للتغيير، ولا يجعل نصوص القوانين أو تأثيرها هي النص الرئيسي بل يجعله نصًا فرعيًا وخلفية لأحداث درامية مكتوبة بعناية والأهم من ذلك مكتوبة لوسيط بصري.
في مواجهة البحر
بعد وفاة زوجها تأخذ حنان (منى زكي) أطفالها فرح وياسين وتترك مدينة سكنها الإسكندرية هربًا إلى دمياط تحديدًا عزبة البرج، هناك تستولي على المركب الخاص بزوجها الراحل الذي أصبح من حق أخيه صالح (دياب) الرجل حاد الطباع الذي يتلاعب بحق حنان وأولادها من مكسب المركب، عبر مجموعة من المشاهد الاسترجاعية في بداية كل حلقة تبدأ قصة حنان الماضية في التشكل، نرى حالها قبل ذلك الهروب الكبير، ما حدث في الماضي وتسبب في الحاضر، كيف تراكمت الظروف والتصرفات الاستحقاقية حولها حتى أودت بها إلى أضيق الخيارات، فإما أن تظل تحت رحمة من لا يهتمون بمصالح أولادها إما أن تعرض نفسها وأطفالها للخطر لكنه خطر يجعلها حرة نفسها متحكمة في مصيرها، تأخذ رحلة حنان طابعًا أسطوريًا فهي رحلة في مركب وهو مكان لطالما ارتبط بالأساطير والتوجه نحو المجهول، ومواجهة المصير، تصبح الظروف النظامية والظروف البيئية والفردية كلها في وجه امرأة واحدة ضئيلة لكنها جسورة، ويصبح البحر بكل ما يصاحبه من مدلولات مثل الغدر والعند وكذلك العطاء مجاز حي لتلك الحياة على المحك.
تفضل حنان البحر بضخامته المستحيل استيعابها على القيد الذي يغل عنقها من قبل جد أولادها وعمهم، تصبح خارجة على القانون الذي تراه وببراءة شديدة غير منطقي، فهي لا تتفوه بالاعتراضات والشعارات بل ترى ببساطة أنه من غير المنطقي أن تكون أمًا مسئولة مسئولية كاملة عن طفلين كانوا جزءًا من جسدها ويمنع عنها أن تنفق عليهما بما تراه صائبًا، تلك البراءة والمنطق التسلسلي الذي يأخذه العمل ينقل القضية النسوية الرئيسية من أيدي من يستطيع الحديث عنها إلى من يعارضها بالفعل، يعمل عنصر العجز كعامل رئيسي في ذلك، فتلك القرارات الضخمة ليست فقط نابعة عن شجاعة كبيرة بل عن عجز عن التغيير، أو الوقوف في مواجهة صلابة الأنظمة وقوانينها وتفاصيلها البيروقراطية وعوضًا عن ذلك تقف حنان في مواجهة مرونة البحر وتغيره المستمر فهو على عكس القوانين لا يصاب بالصلابة، هو كل يوم في طور جديد.
يصور مدير التصوير بيشوي روزفلت الماء كأحد عناصر الطبيعة الكلاسيكية بمجموعات لونية تلائمه، يصبغ البلدة كلها بدرجات من الأزرق النابعة من جماليات البيئة نفسها يعمل ذلك التوجه البصري على ترسيخ برودة ووحشة العالم الخارجي لكنه يجعل للهائمين فيه متنفسًا، تصبح المساحات المفتوحة براحًا حينًا وسجنًا أحيانًا أخرى، ويقابل تلك البرودة بدفء الأماكن المغلقة عندما يصور في منازل سناء (مها نصار) أخت حنان أو (منى) خطيبة صالح، أو في المشاهد التي تصور حياة حنان السابقة، تضاء المنازل كلها بشكل دافئ مائل للحمرة وقليلًا ما يشعر بها في الألفة التي تصاحب دفء المنازل، تصبح القواعد الكلاسيكية لدرجات حرارة الألوان ذات مدلولات متغيرة، تتغير بتغير الأحداث الواقعة داخلها أو بمشاعر الشخصيات التي تسكنها
أبعد وأقرب نقطة
بجانب التركيز على تصوير العناصر الطبيعية كوحدات فاعلة في حياة البشر وأدوات مجازية لسرد الحكايات فإن السرد البصري للعمل يستخدم أدوات القرب والبعد لموضعة الشخصيات في عوالمهم الغامرة، حنان التي تقوم بدورها منى زكي الممثلة التي تتميز بقصر قامة وجسد ضئيل تزداد ضئالة في مواجهة الطبيعة وفي مواجهة القدر، ترتفع الكاميرا مرارًا منطلقة من الأحداث الصغيرة في حياتها إلى السياق العام، في إشارة لغرقها المجازي في عالمها إضافة لجعل السياق الشخصي جزءًا من السياق المجتمعي ثم الكوني، نرى لقطات بالغة الارتفاع تنظر للأعلى إلى المراكب في البحر أو أغطية العشش التي يسكنها الناس، لكن في الوقت نفسه تقابل تلك اللقطات المرتفعة لقطات شديدة القرب تلتقط عمليات العمل المضنية، لقطات مقربة على الأيدي تسحب الحبال ساحبة للشبكة من تحت الماء أو لقطات على خط سير حبل من مسار معدني إلى آخر على المركب حتى يستقر في المحل المخصص له، يصبح العمل على المركب عملية مفتتة إلى مصغرات كل منها يؤدي إلى نتيجة كبيرة، تبدأ من التجهيز للصيد حتى الحصول على رزق اليوم، ثم البيع ثم كسب حنان لفسحة من الأمان المادي والانتصار الشخصي.
يتعامل محمد شاكر خضير مع المشاهد ليس فقط كوحدات وظيفية تؤدي واجبها الدرامي ثم تنتهي بانتهاء المعلومة بل كوحدات مفتوحة يمكن أن تستمر دون وظيفة محددة بل حسب الفرص الجمالية المتاحة، يتجلى ذلك بأوضح شكل في مشاهد تصوير الأطفال ياسين (عمر شريف) وفرح (فرح/فريدة) وحدهما في المنزل، إخراج مشاهد الأطفال بطبيعته عملية معقدة كما أنها خلافية أخلاقيًا، يستخدم خضير الأطفال ليس فقط كأدوات لتشبيع الدراما واستغلال المأساة بل كأفراد فاعلين دراميًا وجماليًا، ويستغل طبيعتهم التي يصعب توقعها فيتمهل قبل القطع، يترك المساحة للحظات غير متوقعة وغير ذات معنى محدد، طفلة تسير للحظات بسيطة قبل أن ينتهي المشهد أو تنهمك في اللعب غير واعية بوجود كاميرا أو سياق أوسع للحظة التي تعيشها حالًا، تتراكب تلك المشاهد الداخلية البسيطة مع المشاهد الخارجية القاسية للأم في عرض البحر، مع مجموعة من رجال البحر المنبوذين من كل مركب أخرى، ومعًا يشكلوا فريق غير متوقع، لكنه متكرر في الأبنية الدرامية المختلفة.
فرقة من المنبوذين
يتبع «تحت الوصاية» شكلًا قديمًا من تكوين الفرق مستوحى بشكل رئيسي من فيلم أكيرا كوروساوا الشهير “الساموراي السبعة” seven samurai وهو تجميع فرقة من المنبوذين، فريق ليس به الأفضل ولا الأجمل ولا الأغنى ولا يوجد حتى بينهم تناغم لكنهم المتاحون والراغبون في القيام بمهمة ما في مساحة زمنية محدودة وضرورية بشكل حتمي، كما أن ليس لديهم خيارات أخرى، يأتي تكوين الفريق كفرصة لهم لإثبات أنفسهم، أصبح تلك التجميعات من المنبوذين أو الأفراد ذوي العيوب والسمات المرفوضة مجتمعيًا نمطًا في حد ذاته في السينما والتلفزيون يسمى Ragtag bunch of misfits أو فرقة عشوائية من المنبوذين ، وعبر السنوات تكونت صور نمطية محددة عن كل من أعضاء تلك الفرق التي تتجمع في آخر لحظة، فهنالك البطل والمساعد والرجل الضخم والرجل الذكي والرجل العجوز والرجل المرح.
يفكك المسلسل ذلك النمط ويستنبط منه قضايا مجتمعية ونسوية، مثل خوف حنان من حمدي (خالد كمال) أحد أفراد البحرية الذي يحاول التعدي عليها كلما رآها، ولا يراها كرئيسة للمركب بل كفرصة متاحة لفرض القوة، فعلى الرغم من كونه مستضعف لأنه مرفوض فإنها مستضعفة بشكل إضافي كونها إمرأة، يستغل العمل كذلك وجود جزء من النمط الكلاسيكي وهو الرجل العجوز الذي يمثله عم ربيع (رشدي الشامي) لصنع صداقة غير متوقعة بينه وبين حنان التي تنتقل من عدم المعرفة بطبيعة العمل المعقدة إلى السيطرة على مجموعة المنبوذين، يعمل المسلسل في كثير من الأحيان تجاه خلق المواقف الخفيفة من ديناميكية التعامل بين تلك الجماعة غير المتجانسة لكنه يستقي منها الرعب كذلك، البطلة نفسها هي إحدى المنبوذات ليس بسبب سنها أو مظهرها أو مستوى ذكائها لكن بسبب حقيقة كونها امرأة على مركب من الرجال في وظيفة للرجال، تتأرجح النغمة المتبعة بين صنع المفارقات من تلك الحقائق وجعلها عقبات توضح تاريخ من الفجوات الجندرية الاستغلالية، أولها التقليل من القدرات حتى الاختزال في الجسد والرغبة فيه.
يتناول «تحت الوصاية» قضية مجتمعية تجدد النقاش حول القوانين وأصولها الدينية والنظامية، يفعل ذلك عن طريق حكي حكاية إنسانية بأساليب درامية وبصرية مثل أي عمل فني آخر، يجعل المظلوميات الاجتماعية خلفية لأحداث شخصياته، المكتوبة بعناية، ويدع المساحة للمثلين باختبار قدراتهم التمثيلية على نطاق واسع خاصة بطلته منى زكي التي تحمل شخصيتها بحساسية ورقة شديدة، ويبقى الأمل في ظل صلابة وجمود في التواصل بين الحكومات والشعوب في الإشارة إلى انعدام العدالة وصرامة القوانين عن طريق الدراما، حتى تلك الدراما التي مرت تحت أيدي الرقابة ربما كتنفيس أو لطرح القضايا لفترة دون وعود بحلها أو نسيانها فور انتهاء موسم الجدال والنقاش.