طه حسين وتوفيق الحكيم: عندما يلتقي طرفا المقص
علاقة فريدة جمعت بين عملاقي الأدب العربي طه حسين وتوفيق الحكيم خلَّدتها المكانة العظيمة التي حازها كلاهما في مجاله، فكلَّما كتب توفيق الحكيم نقده طه حسين والعكس، وهكذا استمرَّ التشابك بين كل واحدٍ منهما كلما زاد الآخر إبداعًا، لتتخذ علاقتهما أشكالاً معقدة من الإبداع الأدبي والغيرة المهنية والصداقة الإنسانية والصراع على لقب الأفضل.
يحكي إبراهيم عبد العزيز، في كتابه «أيام العمر»، أن الصداقة التي جمعت بين طه حسين وتوفيق الحكيم شابها كثيرٌ من حالات المد والجزر، فشخصية طه حسين الناقد غير شخصية طه حسين الصديق، وهو رجل «صداقته متعبة وعداوته متعبة» كما وصفه الكاتب أحمد أمين.
ولعل هذا ما دفع توفيق الحكيم يومًا ليصف علاقته بطه حسين بأنها «لحظات صفاء.. ولحظات غيوم».
كان أول غيض التعارف بينهما هو سلسلة المقالات العنيفة التي كتبها طه حسين ضد الأزهر الشريف، والتي أحدثت رجَّة في المجتمع، فلم يكن من المعتاد حينها أن يقرب أحد هذه المؤسسة الحصينة بسوء.
بسبب هذه المقالات سمع توفيق الحكيم عن طه حسين لأول مرة، يقول الحكيم في كتابه «سجن العمر» الذي عرض سيرته الذاتية وصدر عام 1964م:
ومنذ هذه اللحظة بدأت العلاقة المركبة التي جمعت بين عملاقي الأدب المصري، والتي حملت كثيرًا من الود وقليلاً من المشاكل والصراعات التي وصلت إلى تبادل الشتائم في أحيانٍ كثيرة، والتي لخَّصها تعليق طه حسين على صدور كتاب «سجن العُمر»، فكتب تهنئة مُحلاَّة بالعتاب قال فيها:
ويقول الكاتب إبراهيم عبد العزيز إنه بالرغم من علاقة الصداقة التي جمعت بين الأديبين الكبيرين، فإن الحكيم لم يهده كتاب «سجن العمر»، وهو ما كان يستدعي من طه حسين أن يتجاهله إلا أنه لم يفعل ذلك وعلَّق عليه محتفيًا دون أن ينسى لمز صديقه بعتابٍ صغير.
أرجوك، أبعِد عنِّي هذا الرجل
بالرغم من تمتُّع الكاتبين بكثيرٍ من الصفات المشتركة التي تُهيِّئ أن تكون عُرى الصداقة بينهما في أشدِّ حالاتها فإنه كان ينغصُّ هذه الصداقة عقدة أن طه حسين لم يتخلِّ أبدًا عن أمانة النقد؛ فلم يرحم سنُّ قلمه أحدًا على صفحات الجرائد ولو كان صديقه المُقرَّب، ولم يتخلَّ أبدًا الحكيم عن أمل كل كاتب أن يرى أكوام المدح تنهال على مُؤلَّفه فكان صدره يضيق بهذا النقد، ويتمنَّى لو يتخلَّى صديقه عن حياديته الصارمة قليلاً أو يخرس للأبد!
لتُعبِّر علاقتهما عن طبيعة الصداقة بين ناقد عجز عن أن يكون أديبًا وأديب عجز عن أن يكون ناقدًا، فاستمرَّ كلٌّ منهما في مجال براعته، فقُدِّر لهما أن تُخيِّم العلاقة بين الكاتب والأديب على صداقتهما، وهي عسيرة بكل الأحوال في دنيا الأدب، فممارسو المجالين دومًا كطرفي المقص قد يفترقان أحيانًا إلا أنهما لا بد أن يتلقيا مهما طال الزمن.
يحكي الحكيم في كتابه «وثائق من كواليس الأدباء»، أنه عندما صدرت رواية أهل الكهف عام 1933م أحدثت دويًّا كبيرًا وتكالب النقَّاد والأدباء على مدحها والإثناء عليها إلا طه حسين، صمت بشكلٍ مريب أثار قلق الحكيم بأن عميد الأدب يُدبِّر له نقدًا زاعقًا.
قوَّى هذا الشعور في أعماقه ما قاله له صديقهما المشترك الدكتور حلمي بهجت بدوي، والذي كان أستاذًا في كلية الحقوق، أخبره أن طه حسين قال له: «سأكتب عن صديقك، وسيكون لي معه حساب عسير».
اغتمَّ الحكيم وقال لصديقه: «أرجوك أبعِد عنِّي هذا الرجل.. الكتاب الآن قد كُتب عنه بما فيه الكفاية، والمطبوع منه قد نفد»، ولكن الدكتور حلمي لم يتمكن من صرف طه حسين عن الكتابة.
بعد هذا الحديث، فُوجئ توفيق الحكيم بمقالة لطه حسين في مجلة الرسالة، والتي كان يُحرِّر فيها العميد باب نقد الكتب، والمفاجأة أن المقالة كنت مُتحمِّسة جدًّا للعمل وأشادت به إشادة كبيرة.
كتب طه حسين:
وأما الحساب العسير الذي توعَّد به طه حسين صديقه، هو أن الكتاب حوى خطأ إملائيًّا ما كان ينبغي أن يقع فيه رجل كالحكيم.
فكتب الحكيم إلى طه حسين، بعد أن أمِنَ نقده: إني أشكر أهل الكهف الذين قادوني إليك، وإن كان هذا هو الغرض من بعثهم في كتابي فقد حق البعث نجح، الحقيقة أن رعاية الدكتور طه هو أثمن من تمنحني القديسون الثلاثة من كنوز، وإن صداقته التي أطمح إليها يوم أكون خليقًا بها هي مفتاح عملي الأدبي في المستقبل, إنه ليشق عليَّ أن يمضي الأسبوع ولا ألقى الدكتور، فلقد وجدت في حديثه زادًا روحيًّا لا غنى لي عنه.
وهكذا، مرَّت «أهل الكهف» بسلام، وكانت إحدى المرات النادرة التي نال فيها الحكيم مدحًا كاملاً من صديقه ذي الحس النقدي البتَّار الذي لا يرحم.
ولم يكد طه حسين ينتهي من الإشادة بأهل الكهف، حتى أصدر توفيق الحكيم عملاً تاليًا قُدِّر له أن يُغيِّر تاريخ مصر، بعدما ألهمت حبكته البطل جمال عبد الناصر للقيام بثورة يوليو، وهو رواية «عودة الروح».
والتي قال عنها طه حسين:
أكبر سُلطة في الدولة لن توقع بيننا
لم يدم الود طويلاً بين الرجلين، بسبب التهور الذي ميَّز الحكيم واندفاعه للذود عن كُتبه وفنِّه ضد كل مَن يمسُّه بسوءٍ ولو كان صديقه، وفي إحدى المرات أخبر صديق للحكيم أن طه حسين كتب مقالاً سيئًا عن عمله، فثارت ثائرة الحكيم ودون أن يقرأ المقال، كتب خطابًا حادًّا أرسله إلى طه حسين، ما أن فضَّه الأخير حتى قال لنفسه متعجبًا: «سبحان الله.. لقد نشرت مقالًا عن الكتاب الذي صدر لتوفيق الحكيم ليس فيه غير الإعجاب فرد عليَّ يشتمني!».
وبالفعل كان العميد على حق، فلقد كان أكثر من انتقد توفيق الحكيم على هذه الفِعلة هو توفيق الحكيم نفسه، الذي قرأ المقال ولم يجد فيه غير الشكر، فسأل نفسه: «كيف استطاع إذن هذا الصديق، رحمة الله عليه، أن يغير شعوري ويثيرني ضده؟!».
أما الخلاف الأكبر بينهما، فهو عندما رغب طه حسين في كتابة مُقدمة للطبعة الثانية لرواية «أهل الكهف»، وهي خطوة كان يُعدُّها تكريمًا وتشجيعًا للأدباء والمفكرين، فعلها في كتاب «المرآة» لعبد العزيز البشري، و«فجر الإسلام» لأحمد أمين وغيرهما، بل كتب مُقدمات كتب أدباء أقدم منه ولا يقلون عنه مكانة مثل الشاعر خليل مطران في ديوانه «الخليل».
وكان الأدباء يعتبرون تزيين طه حسين لكتبهم بمقدمة شرفًا لا يُضاهى واعترافًا من العميد بموهبتهم، وكان الناشرون يتسابقون على هذه الخطوة باعتبارها ستضمن لهم مبيعات مضمونة، فمن ذا الذي يجرؤ على تجاهل كتاب أشاد به طه حسين؟!
وبالرغم من كل هذا رفض توفيق الحكيم عرض صديقه، وفضَّل أن يخرج الكتاب دون مقدمة العميد بدعوى أنه «يكره المقدمات»!
يقول الحكيم في خطابٍ قديم أرسله إلى صديقه القاضي طاهر رشيد:
لم يشرح توفيق الحكيم موقفه كما ينبغي للعميد، وإنما اكتفى بالرفض!
وهو ما استغربه طه حسين واعتبره إهانة له، وقال عنه في كتابه «فصول في الأدب والنقد»:
وبحسب الكاتب إبراهيم عبد العزيز، فإن البعض ساهم في توسيع رقعة الخصومة بين الحكيم وطه، فعلى سبيل المثال شارك أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة، بشكل غير مباشر في نشر تفاصيل الخلافات بين القطبين الكبيرين على نطاق واسع، حينما كان ينشر الرسائل والمقالات المتبادلة بينهما في المجلة، واسعة الانتشار، نقلًا عن مجلة الوادي، محدودة الانتشار، ولكن الزيات لم يكن يقصد بالطبع نشر خلافات الأديبين رغبة في تعميق الخصومة، وإنما كان يرى في هذه المعارك الأدبية والفكرية إثراء للساحة الأدبية والثقافية.
ولكن حين رأى توفيق الحكيم أن صديقه طه حسين يظن به الظنون، بادر إلى مصالحته، قائلاً له: «إن أكبر سلطة في الدولة لا تستطيع أن تفسد الصداقة بيننا»، ثم أرسل له برقية قال فيها:
ولم يكد هذا العام ينقضي إلا وتجددت الخلافات بينهما، هذه المرة بسبب مسرحية «شهر زاد» التي كتبها توفيق الحكيم وكتب عنها طه حسين كعادته، وهذه المرة كان رأيه سلبيًّا، فقال: «إن مؤلفها توفيق الحكيم في حاجة إلى مزيد من القراءة الفلسفية»، وهو ما استدعى ردًّا حاميًا من توفيق الحكيم فأرسل خطابًا لاذعًا لصديقه أخبره فيه أنه يقرأ في الفلسفة أكثر منه، وأنه ليس بحاجة إلى نصائحه.
أغضبت هذه الرسالة العميد بشدة فأعلن مقاطعته التامة للحكيم، وأن شخصه لم يعد يعنيه بعد الآن، وردَّ له مجموعة من أسطوانات بيتهوفن سبق أن استعارها منه.
وهي الرسالة التي سرعان ما ندم عليها الحكيم كعادته، ولما هدأ أيقن أنه أخطأ في كلامه الجارح لصديق عُمره ومرآة أدبه، فأراد معالجة فِعلته بخطاب آخر حمل اعتذارًا حارًّا وتضرع لطلب العفو لدرجة أن الحكيم طلب من صديقه أن يعفو عنه، وإلا فسيتخلى عن الفن، وكل سيرته الأدبية!
يقول توفيق في هذه الرسالة:
صوَّر سيد قطب هذه الواقعة بين الرجلين في كتابه «شخصيات وكتب»، فقال:
ومن هنا أعجب الدكتور طه بأهل الكهف لأن مخلوقاتها من صنع الطبيعة، وهنا وقعت الجفوة بين الدكتور وشهر زاد، فشهر زاد هي قصة توفيق الحكيم الكاملة -على طريقته- هي قصة الذهن الإنساني المجرد من أوشاج البشرية، هي قصة القلق الفكري والشك الذهني.
القصر المسحور
عقب انقشاع هذه الغيوم، عادت المياه إلى مجاريها بين العملاقين، ولم يتوقف الحكيم عن استشارة حسين قبل إعداد كتبه، مثلما حدث في كتابه «محمد» والذي تضمَّن سيرة النبي، وفي النهاية تُوِّج شهر العسل بينهما بكتاب «القصر المسحور» الذي ألفاه معًا.
بدأت قصة الكتاب حينما ذهبا معًا للاصطياف عام 1936م في قرية فرنسية تُدعي «سالانش»، والتي تقع على جبال الألب، أقاما معًا في فندق واحد، ومارسا العديد من الأنشطة ومرَّا بالكثير من المواقف التي حفزتهما على كتابة «القصر المسحور»، والذي كانت بطلته شهر زاد، التي كانت ستُفرق بينهما للأبد ذات يوم.
صدر الكتاب في العام التالي مباشرة بالرغم من تخوفات طه حسين من التجربة، بعكس توفيق الحكيم الذين كان أشد المتحمسين لهذه التجربة حتى إنه أهدى نسخة منه إلى كوكب الشرق أم كلثوم، والتي طربت له بشدة، وكتبت إلى العميد رسالة شاكرة قالت فيها:
وفي عام 1985م، أي قبل وفاته بعامين، علَّق الحكيم على هذه التجربة في حوارٍ مع إقبال فهمي، الصحفية بجريدة «الحياة الأسبوعية»، قائلًا:
وفي العام 1950م، وبينما كان العميد وزيرًا للمعارف، رشَّح الحكيم للعمل في وظيفة مدير إدارة الكتب، وهو الترشيح الذي لم يرق لمصطفى النحاس رئيس الوزراء بسبب هجوم الحكيم عليه.
وفي جلسة لمجلس الوزراء الوفدي، عرض طه حسين رغبته في ترشيح الحكيم رئيسًا لدار الكتب، فوجم الوزراء وتوقعوا أن يثور النحاس على وزيره، فكيف له أن يجرؤ على ترشيح كاتبٍ هاجمه أكثر من مرة في الصحف، ويطالب بترقيته من موظف درجة ثالثة إلى مدير عام بدرجة وكيل وزارة، ولكن فوجئ الوزراء الواجمون بموافقة النحاس على اقتراح طه حسين دون مقاومة احترامًا لمكانة الرجل.
وفي العام 1951م قرَّر العميد أن يقضي الصيف في أوروبا كعادته، ولم يستطع الحكيم أن يلحق به هذه المرة، فودَّعه في الميناء، ومن أوروبا أرسل له طه حسين خطابًا قال فيه:
أنت كاتب نابه.. بل نابغة
فور انطلاق ثورة يوليو كان طه حسين في إيطاليا فراسل صديقه قائلاً:
ويرسل الحكيم ردًّا على صديقه، قائلًا:
وعندما انتُخب توفيق الحكيم عضوًا في مجمع اللغة العربية عام 1954م، كان أكثر المُرحبين بهذه الخطوة هو رئيس المجمع، حينها، طه حسين، وحرص على استقبال الحكيم على باب المجمع، خلافًا للمعتاد بأن يكون المُستقِبل هو صاحب ترشيح الحكيم للمنصب وكان الكاتب أحمد أمين.
وكتب له بهذه المناسبة قائلاً:
وبالرغم من هذا الترحيب، فإن طه حسين لم يتخلَّ عن طبيعته النقدية فقيَّم تجربة صديقه بقوله:
يُذكر أنه بعد هذا الحوار بعامٍ كامل، زار يوسف السباعي، وزير الثقافة، الحكيم في مكتبه وعرض عليه أن يكون رئيسًا لأول «نادي قصة» يقام تحت رعاية حكومية. رفض توفيق الحكيم فورًا لأنه لا يصح أن تُشكل مصر نادي قصة لا يكون طه حسين رئيسه.
وعندما تلقَّى دعوة لزيارة الاتحاد السوفيتي لحضور مهرجان أدبي اشترط أن يُصاحبه في الزيارة صديقه طه حسين، ولما رفضوا لم يذهب.
وفي حوارٍ معه اعتبر الحكيم أن طه حسين يستحق جائزة نوبل عن جدارة، فقال:
وفي أكتوبر من العام 1973م، رحل العميد في ظل انشغال المصريين بمعارك الحرب، ورغم ذلك لم ينسَ توفيق الحكيم أن يُودِّع صديقه الراحل بكلمة نشرتها الأهرام يوم 29 أكتوبر 1973، جعل عنوانها «فارق الحياة بعد أن فارق اليأس روح مصر».
رثى الحكيم في كلمته صديق عمره قائلاً:
تحكي سوزان طه حسين في كتابها «معك»، أن جامعة القاهرة أقامت مأتمًا رهيبًا للعميد طه حسين، ولم تجد عبارة تُودِّع بها الرجل إلا عنوان مقالة صديق عُمره فكُتبت على اللافتة التي مُدَّت فوق النعش الذي أوى جثمان العميد، معلنة نوعًا نادرًا من الصداقة ودَّعت فيه كلمات الحكيم طه حسين حتى باب قبره.