رواية «طبيب أرياف»: الطبيب المناضل بين السجن وانكسار الروح
على الرغم من كثرة الروايات التي تناولت علاقة الإنسان بالأرض، والريف، سواء في مصر أو العالم العربي، تلك التي عرضت صورًا مختلفة لتعامل البسطاء والفقراء والمزارعين وحياتهم والصعوبات التي تغوص فيها قراهم، وما يتعرضون له من مشكلات ناتجة عن الفقر والجهل والاستغلال من ذوي النفوذ، إلا أن ذلك كله لا ينفي كون الريف لا يزال مصدرًا خصبًا وثريًا للمزيد من الاستكشاف والكتابة ومحاولات الغوص في أعماقه سواء كان ذلك من خلال القصة القصيرة أو السرد الروائي المطوّل.
يتداعى إلى الذهن فورًا بمجرد قراءة عنوان رواية محمد المنسي قنديل الجديدة «طبيب أرياف» العديد من الشجون والذكريات والأفكار المتعلقة بموضوع الرواية وكاتبها، وعلاقة الكثير من القراءة بكتابة المنسي قنديل الجميلة والمحببة التي تمزج السرد الواقعي بالشاعري بطريقة خلابة، فلا شك أننا سنتذكر فورًا ما كتبه في روايته الأولى «انكسار الروح» الصادرة 1988 والتي عدها الكثيرون لوحة شاعرية ترصد بشفافية ضياع أحلام جيل الستينيات وانكسارهم، الذين عاشوا مد الحلم الثوري الناصري وآماله وطموحاته، وراحت كل تلك الأحلام والآمال مع الهزيمة الكبرى التي عاشها هذا الجيل في يونيو 1967.
أكثر من ثلاثة عقودِ مرت على كتابة انكسار الروح، والعديد من الأحداث والمواقف التاريخية الكبرى مرت على مصر والعالم العربي، بل وكتب المنسي قنديل عددًا من الروايات التي انتقل فيها عبر الزمان والمكان فكتب رواية تاريخية مثل «يوم غائم في البر الغربي» و كتب رواية «كتيبة سوداء» التي يعود فيها إلى لحظات مجهولة من تاريخ مصر، وغيرها من الروايات المميزة والهامة، إلا أنه يعود اليوم بعد كل تلك السنوات والكتابات إلى تلك الفترة التاريخية وما صاحبها من أفكار وصعوبات، ليكتب روايته الجديدة، في حوارٍ له في جريدة الشروق يشير إلى أن «طبيب أرياف» هي استكمال لما كان قد بدأه منذ سنوات في «انكسار الروح» فيقول:
ويقول في حوارٍ آخر:
ولكن كيف كانت تلك العودة؟ وما الذي تغيّر بعد كل هذه السنوات؟
من الشاعرية المفرطة إلى الواقعية
لعل أبرز ملامح انكسار الروح، والجيل الذي تعبّر عنه بالكامل هو الرومانسية المفرطة، والشاعرية التي كست علاقتهم بالأحلام وتصورهم للحياة، تلك الحالة التي سرعان ما تحطمت تمامًا وانكسرت بمعاول الواقع الأليم، الذي فوجئوا جميعًا بأنه لا يشبه شيئًا من أحلامهم المثالية وتطلعاتهم الخيالية، وهو ما نجده بارزًا في لغة «انكسار الروح» وعالمها، منذ اللحظة الأولى التي يتعرّف فيها الطفل «علي» على البنت التي قرر أنها ستكون حبيبته فاطمة، وما يصاحب علاقتة بها من شاعرية تصل إلى حد الفانتازيا أحيانًا، لتكون صورة من صور الحلم بالحرية والخلاص حتى تنتهي الرواية بتلك الحبيبة في أحد بيوت الدعارة وقد تحطمت تلك الصورة وانكسرت روح البطل
اقرأ أيضًا: رواية «يوم غائم في البر الغربي» تماهٍ بين الأدب والتاريخ
يعود المنسي قنديل مع بطل روايته الطبيب الذي يحمل تاريخًا نضاليًا سياسيًا مؤرقًا، ويخرج من السجن لينتقل إلى أحد قرى الأرياف في محاولة أولى لنسيان الماضي والانغماس في مشكلات ذلك الواقع المرير الجديدة، ولكن الحب يلاحقه مرة أخرى في شخصية الممرضة «فرح» التي يبدا معها علاقة حبٍ من طرازٍ خاص ولكنه يكتشف أنها متزوجة ليتحول حلمه بها إلى كابوس!
ولكن مع قصة الحب غير المكتملة تلك ثمة وعي مختلف لدى ذلك البطل الذي أصبح مختلفًا عن صاحبنا الرومانسي الغارق في الشاعرية حتى أذنيه في انكسار الروح، والذي كان يرى في المحبوبة كل شيء، هنا إدراكٌ واقعي لتفاصيل العالم والمشكلات المحيطة به، رصد شديد الوضوح لما يحيط بعالم القرية المصرية من مشكلات ربما لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، هنا وعيٌ أكبر بالحقيقة:
الصراع الطبقي والاجتماعي
ثمة حضور بارز للصراعات الاجتماعية والطبقية، والحال الذي كانت مصر فيه في تلك الفترة التي تحكي عنها الرواية، وقد كانت تلك الخلفيات السياسية حاضرة أيضًا في انكسار الروح التي رصدت إضرابات العمال في المحلة الكبرى التي ولد وينتمي إليها المنسي قنديل، مرورًا بالمد الناصري انتهاء بالهزيمة، بينما تحضر هنا صورة أخرى لبدايات عصر مبارك ومحاولة صعود فرعون آخر لسدة الحكم في مصر، وما صاحب ذلك من تغيرات سياسية واجتماعية، وتصوير واضح لسيطرة رجال السلطة من ضباط الداخلية على مقاليد الأمور، وما يجري من محاولات لتجميل الصورة في القرى بشكلٍ ظاهري، وما دار ويدور من تزوير مستمر لإرادة الناس الغارقين في القهر والبؤس والجهل.
حكايات بسيطة ومواقف تبدو يومية وعابرة، تنقلنا بسلاسة إلى أجواء القرية وعالمها وتعكست بجلاء حال أهلها وحياتهم، اختار الكاتب بعناية واضحة عددًا من الحكايات التي عبّر عنها بتكثيف شديد وعبارات موجزة دالة نسجت عالم القرية، وكيف سيطرت فيها العادات والتقاليد الاجتماية الراسخة، التي تعامل المسيحي بقسوة، والتي تقهر المرأة وتسلبها كل حقوقها لدرجة إجبارها على الزواج والحياة بالطريقة التي يرونها لا كما تريد وترضى! والطبيب يرى كل ذلك ويرصده ويعجز عن مواجهته أو التصدي له، هو شاهد العيان الذي لايتمكن رغم مكانته بينهم كطبيب الوحدة الصحية الوحيد من أن ينقذ امرأة من أنياب عائلة زوجها المتوفي، ولا حتى أن يقتنص حبيبته من بين عالمها الذي عاشت فيه ورضخت له!
لم تقتصر الرواية على تصوير هذين الجانبين من حال القرية المصرية في أوائل الثمانينات وما تلاها، ولكن تم تضفير ذلك بحكاية عالم الغجر شديد الجاذبية والدلالة والتأثير، هؤلاء الرحالة الخارجين عن القانون، وكيف يتم استغلالهم حينًا وتوظيفهم حينًا آخر، وكيف يتمكنون من السيطرة على مقاليد الأمور إذا ما أتيحت لهم الفرصة، وجاء تصوير عالمهم شديد التعقيد والغرابة بصورة شاعرية ودقيقة، خاصة مع حضور الجازية تلك المرأة ذات السطوة غير العادية.
استطاع المنسي قنديل أن ينسج خيوط عالم القرية ويعيده لأذهاننا ببراعة، وأن ينقلنا مع مشكلات القرية، وما يتعرض له الطبيب الشاب فيها بكل سلاسة وتشويق ويسر، ذلك لما يتسم به أسلوبه السردي من حيوية، وبدا بجلاء أن الكاتب وأبطاله تخلوا عن تلك الرؤية الرومانسية الشاعرية للحياة والأحلام وبدوا أكثر اتساقًا مع الواقع لا سيما في نهاية الرواية شديدة التأثير والدلالة.
تجدر الإشارة إلى أن المنسي قنديل روائي مصري من مواليد المحلة الكبرى تخرج من كلية الطب عام 1975، واعتزل الطب وانشغل بالكتابة الأدبية واستعادة التراث العربي. حصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1988 عن مجموعته القصصية «من قتل مريم الصافي» ، كما حصل على جائزة ساويرس عن روايته «قمر على سمرقند » عام 2006. وصلت روايته «يوم غائم في البر الغربي» إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية عام 2010، كما وصلت روايته «كتيبة سوداء» إلى القائمة الطويلة من نفس الجائزة عام 2016. كما كتب عددًا من الأعمال المميزة في أدب الطفل، صدر له أيضًا لحظة تفاصيل الشجن في وقائع الزمن ولحظة تاريخ وشخصيات حية من الأغاني ووقائع عربية التي تعد استعادة اكتشاف لتراثنا القصصي العربي بشكل جديد. كتب للسينما فيلم «آيس كريم في جليم» الذي أخرجه خيري بشارة عام 1992. كما أخذت قصته «الوداعة والرعب» للتحول لفيلم «فتاة من إسرائيل» عام 1999 من إخراج إيهاب راضي.