السوريون في تركيا بين التتريك والدمج
قرابة ست سنوات عاشها مئات الآلاف من السوريين الباحثين عن ملجأ آمن في تركيا، حتى بلغ عددهم ما يقارب الملايين الثلاثة. وعلى الرغم من علاقات الزواج التي ربطت ندرة من أبنائهم وبناتهم بنظرائهم الأتراك، فإن اندماجهم بالمجتمع التركي كان قليلًا جدًا.
فحتى الآن يطلقون أسماء خاصة بهم على الأماكن، فلا يمكنك أن تقول لسوري مقيم في إسطنبول على سبيل المثال: «نلتقي عند نصب عيد الجمهورية في شارع الاستقلال»، فهذه التسمية معدومة تمامًا، وأطلقوا على ذلك النصب اسم «الخوازيق» لأنه يمثل أسطوانات بعدد السنوات التي مرت على تأسيس الجمهورية يوم أنشئ النصب.
وعلى الرغم من تشابه المأكولات وأسلوب الطعام، فإن المطاعم السورية انتشرت في أماكن وجود السوريين والمناطق التي يقصدها السياح العرب، وتشعر في تلك المطاعم بأنك في دمشق أو حلب أو بيروت، والأمر ينسحب على كثير من ميادين الحياة كمحلات المواد الغذائية والحلويات وغيرها.
لعل هذا الأمر يبدو لأول وهلة نوعًا من المقاومة والمحافظة على الهوية، ويمكن تفسيره بعدم استسلام العقل لفكرة الهجرة هذا على الرغم من سعي الكثير منهم للحصول على الجنسية التركية.
شعور الحياة المؤقتة الذي يتلبس العقل الباطن للسوريين في تركيا جعل مشاريعهم التعليمية التي تدعمها جمعيات خيرية هزيلة، وتلقى كثيرًا من الانتقادات.
بالمقابل كانت الحكومة التركية تستوعب أعدادًا من التلاميذ في مدارسها الرسمية، وكان هذا الأمر يلقى ترحيبًا سوريًا، وشعورًا بالامتنان، لأن هذه المدارس تقدم بديلًا تعليمًا مقبولًا، ومعترفًا به عالميًا، ولكن عندما اتخذت الحكومة التركية قرارًا باعتماد مناهج التعليم التركي، مع تدريس اللغة العربية كمادة في المدارس السورية المتبقية، طُرح موضوع جديدٌ للنقاش هو أن هؤلاء الأطفال سيفقدون هويتهم القومية، وبمعنى آخر يخضعون للتتريك!
قبل هذه الخطوة كان ثمة تذمر كبير في كثير من المدارس السورية من سوء الإدارة، وضعف التدريس، وقلة إمكانيات المدارس التي يؤسسها السوريون، فقامت وزارة التربية التركية بربط تلك المدارس «إداريًا» بها، وحاولت أن تشرف إلى حد ما عليها، وحتى دفع رواتب للمدرسين.
ولكن هذا الأمر لا يحل المشكلة نهائيًا، فتجمعات السوريين مبعثرة جدًا، وفي الأمكنة التي يقل فيها العدد، لا يمكن إنشاء مدارس، وإن أنشئت سيكون استمرارها صعبا كما حدث في مدينة «أضنة» إحدى كبريات المدن التركية. فكان الحل الأخير وهو إخضاع هذه المدارس إلى الأنظمة التركية ومناهجها، بربطها مباشرة بوزارة التعليم التركية.
على الرغم من موجة التذمر الواسعة واعتبار هذه الخطوة تتريكًا يذوّب الهوية القومية للطفل السوري، فقد فرضت نفسها، ولعل السبب في هذه الأمر هو عدم وجود بديل لهذه المدارس.
من جهة أخرى هناك مئات الألوف من التلاميذ الذين هاجروا إلى أوروبا، ويتلقون تعليمهم هناك باللغات الأوربية، وليس لديهم مادة لغة عربية كما هو الحال في تركيا، ولم يطرح أحد هناك هذه القضية، فما السبب؟
هل السبب هو العدد الهائل للسوريين في تركيا مقارنة بما هناك في الدول الأوروبية؟ أم أن العقل الباطن السوري أيضًا ما زال يختزن الحساسية القديمة عندما قامت جمعية الاتحاد والترقي في مطلع القرن العشرين بفرض سياسة التتريك؟ ولماذا تسمى في تركيا تتريكًا، ولا تسمى في فرنسا فَرْنَسَةً، بل دمجًا على سبيل المثال؟
لم يقتصر الأمر على المدارس، فهناك الصحف القريبة من التيار القومي التركي وخاصة المحلية منها تبدي تذمرًا من اللوحات العربية التي ترفعها محلات السوريين. وكثيرًا ما تُنشر صور لعدة محلات متجاورة تعلوها لوحات عربية، ويطرح سؤال احتجاجي: «هل نحن في دولة عربية؟»
وفي هذا السياق أنذرت بلدية الفاتح في إسطنبول المحلات العربية هناك بإزالة اللوحات المكتوبة بالحرف العربي، واعتماد لوحات مكتوبة بالحرف اللاتيني، وباستخدام لونين محددين هما الذهبي والفضي، وينسحب هذا الاستخدام حتى على الشعار المسجل لدى حماية حقوق الملكية بألوانه وشكله بموجب القانون.
استغرب كثيرون تصرف بلدية الفاتح هذا، لأن رئاسة بلدية هذه المنطقة لحزب العدالة والتنمية، ويضم هذا الحي أكبر عدد من المحلات التجارية العربية عمومًا والسورية خصوصًا، وتشمل حدود هذا الحي الإدارية غالبية إسطنبول التاريخية، وهو من أهم المناطق التي يقصدها السياح العرب. وهنا عادت قضية التتريك إلى الواجهة من جديد.
هناك عوامل عديدة لهذه الإجراءات، أولها يتعلق بهوية حزب العدالة والتنمية، فقد كان من مصلحة إعلام الإخوان المسلمين وما يسمى إعلام الممانعة على حد سواء، وصف حزب العدالة والتنمية بأنه حزب إخوان مسلمين، وقُدمت هذه القضية مصحوبة ببروبغندا قوية جدًا، ولكن هل حزب العدالة والتنمية في تركيا هو على هذا النحو فعلا؟
ما زال حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا حزبا يتبنى العلمانية التي يحرمها الإخوان المسلمين، ويتبنى حتى في دستوره الجديد العلمانية مبدأً دستوريًا غير قابل للتعديل، ولم يسنّ أي قانون انطلاقًا من الشريعة الإسلامية في فترة حكمة الممتدة منذ 2002 حتى الآن.
من جهة أخرى فإن بنية الحزب التي كانت سنة التأسيس غير تلك التي هي عليه اليوم، فعند التأسيس كان التيار الذي يسمي نفسه المحافظ أي الذي يمكن تسميته «الإسلام الديمقراطي» يشكل نسبة كبيرة في الحزب، ويحل التيار الليبرالي ثانيًا، والقومي ثالثًا.
بعد التحولات السياسية في المنطقة، والانقسام الحاصل، وفشل مشروع حل القضية الكردية سلميًا، وعودة حزب العمال الكردستاني إلى الكفاح المسلح، تغيّرت بنية الحزب، ونما التيار القومي على حساب التيار الليبرالي ليغدو ثاني أكبر التيارات داخل الحزب. وهكذا يجب ألا يُستغرب اتخاذ الإدارات المحلية أو الحكومة المركزية قرارات فيها شيء من التعصب القومي.
الأمر الثاني هو أن رئاسة بلدية الفاتح هي لحزب العدالة والتنمية، ولهذا الحزب ثلثا أعضاء المجلس البلدي، ولكن مقاعد الثلث الثالث يشغلها أعضاء حزب الشعب الجمهوري الذين لديهم حساسية كبرى نحو اللغة العربية والحرف العربي، ويعتبرونها مفتاحًا للعودة إلى العثمانية. وفي نقطة التعصب القومي يلتقي حزب الشعب الجمهوري مع التيار القومي في حزب العدالة والتنمية.
إذا كان الطلاب السوريون يدرسون في أوروبا بلغات دول اللجوء، ولا يدرسون اللغة العربية، وبالمقارنة بين الإجراءات التي اتخذتها وزارة التربية التركية، وما يُنفذ في أوربا، فيمكن تقبل قضية تدريس الطلاب السوريين المناهج التركية، وحتى يمكن أن يكون هذا لصالحهم، ولكن حظر لوحات المحلات العربية لا يمكن أن يدخل في الأمر، لأن القوانين الأوربية لا تمنع استخدام لغات غير لغة البلد في لوحات المحلات.