سوريا: هل تحسم إيران صراع النفوذ بعد الانسحاب الروسي؟
مع استمرار التورط الروسي في الحرب الأوكرانية واستنزافها لموارد مالية وبشرية كبيرة، لجأت موسكو إلى سحب جانب من قواتها والميليشيات التابعة لها من سوريا لحاجتها إليها في ساحة الحرب المشتعلة على حدودها التي باتت أولى الأولويات لها حالياً وبناء على نتيجتها ستتحدد مكانتها بين الدول، بعدما وقفت في مواجهة المعسكر الغربي كله بسببها وقدمت تضحيات اقتصادية ضخمة في سبيل هذه المعركة.
فرص وتحديات أمام إيران
ومع الصعوبات التي واجهت موسكو في أوكرانيا، بدأت في سحب قواتها تدريجياً من سوريا. وتم سحب الآلاف من العسكريين الروس العاملين بوحدات المشاة وسلاحي الطيران والهندسة للحاجة إليهم في الجبهات في إقليمي دونيتسك ولوجانسك، إذ تطلبت الحرب الأوكرانية استخدام حوالي سبعين في المائة من الموارد البشرية القتالية الروسية.
وبعد أن كان يُنظر للوجود الروسي ككابح للتمدد الإيراني في سوريا، لم تعد موسكو مهتمة بممارسة هذا الدور، مما دعا الكيان العبري لمواصلة عملية الاحتواء التي لم يعد الروس متفرغين لها. ومع توقف المباحثات غير المباشرة بين طهران وواشنطن بخصوص الملف النووي، تراجع قلق الأخيرة من أن تؤثر الهجمات الإسرائيلية بشكل سلبي على الملف النووي، وبالتالي تصاعدت حدة عمليات تل أبيب في سوريا وتخلت عن الغموض إلى التصريح والإعلان. ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، فلسفة هذه العمليات التي تطال أهدافًا في إيران وسوريا، بأنها تستند إلى عقيدة الأخطبوط التي تعني استهداف الرأس وليس الأذرع.
واستهدفت تل أبيب مطار دمشق الدولي في 10 يونيو/حزيران، مما أدى إلى إخراجه من الخدمة. وكشفت القناة 12 الإسرائيلية أن جهوداً مخابراتية رصدت مؤخراً نشاطات إيرانية لتهريب أسلحة خاصة بالمشروع الصاروخي من شأنها كسر ميزان القوة في المنطقة.
وتحاول طهران التخفف من مسئولية الرد على تلك الهجمات باعتبارها تتم خارج حدودها، وبالتالي لا تمثل انتهاكاً لسيادتها، وتفضل تحمل هذه الضربات المؤلمة للتهرب من مواجهتها، خاصة وأنها ترى أن الوقت في صالحها على أية حال، وتلجأ بدلاً من ذلك إلى الرد عبر الاستهداف الإلكتروني أو ضرب أهداف إسرائيلية في دول أخرى، إذ يسعى الطرفان إلى عدم ارتفاع سقف الهجمات عن حد معين وبالتالي تقليل كلفة المواجهة.
ومن ناحية أخرى، لعبت موسكو على مخاوف تل أبيب من إيران لحملها على عدم الانحياز إلى الموقف الغربي من حرب أوكرانيا، عبر تشغيل الدفاعات الجوية ضد الطائرات الإسرائيلية خلال الغارات في مايو/ أيار الماضي، وهي سابقة لم يعتدها الكيان الصهيوني.
أما تركيا التي تسعى إلى استغلال الانشغال الروسي بأوكرانيا وشن عملية عسكرية لتوسيع مناطق سيطرتها شمال سوريا، فقد وقف لها الإيرانيون بالمرصاد وسعوا إلى إجراء اتصالات بين نظام الأسد وقوات سورية الديمقراطية (قسد) التي يهيمن عليها الأكراد، لتنسيق العمل ضد الأتراك، خاصة في ظل تحفز فصائل المعارضة في مناطق النفوذ التركي في الشمال لاستعادة الأراضي التي استولت عليها قوات النظام والميليشيات الإيرانية، وشنت الفصائل مؤخرًا هجمات قاسية ضد هذه القوات.
ومنذ مطلع أبريل/نيسان الماضي، جلبت الميليشيات الإيرانية تعزيزات عسكرية إلى غرب حلب، ونشرتها في مواقع تطلّ على مناطق المعارضة في شمال غرب سوريا حيث تنتشر القواعد العسكرية التركية.
أما الأردن، الجار الجنوبي لسوريا، فيتوقع أن يجد نفسه أمام تصعيد على حدوده الشمالية مع محاولة إيران ووكلائها ملء الفراغ الذي تتركه روسيا، وفقاً لما أكده العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني الذي اعتبر أن وجود موسكو في جنوب سوريا كان مصدراً للتهدئة. وعانت بلاده طوال الأشهر الماضية من محاولات اقتحام الحدود من مجموعات مهربين مرتبطة بالنظام السوري، ودارت بين الجيش الأردني وبينهم مواجهات عنيفة.
التمدد في الفراغ
كانت موسكو تضغط باستمرار على القوات الإيرانية للحصول على مواقع ومعسكرات ومناطق نفوذ، ولعب الروس بورقة القصف الإسرائيلي لهذا الغرض؛ على اعتبار أن وجودهم في أي موقع يجعله في منأى عن الاستهداف. فبعد قصف حاويات أسلحة تابعة لإيران في مرفأ اللاذقية في ديسمبر/كانون الأول 2021، مد الروس سيطرتهم إلى المرفأ. وبعد تكرار قصف مطار تي فور العسكري، ضغطوا على فيلق القدس لتسليمهم إياه، وهكذا.
لكن مؤخراً انعكست الآية، وسلمت موسكو كثيرًا من المواقع الحساسة إلى الإيرانيين والميليشيات الشيعية طوعاً، مثل مطار كويرس شرق مدينة حلب، والقاعدة العسكرية في البوكمال، ومطار حماة العسكري، ومطار النيرب في حلب، ومستودعات مهين العسكرية، وغيرها كثير، كما أخلت موسكو العديد من قواتها في قاعدة حميميم الجوية جنوب شرق مدينة اللاذقية الساحلية، وسلمت للفرقة (25) في قوات النظام التي يقودها العميد سهيل الحسن، عددًا من المواقع، مثل مطار أبو ظهور في ريف إدلب الشرقي، ومطار المزة في دمشق، وعدد من النقاط العسكرية في ريف إدلب الشرقي وريف دمشق وجنوب حلب.
أما المواقع التي ظلت تحت حماية الروس فلم تسلم أيضًا من تمدد الإيرانيين. فعلى سبيل المثال، بدأ الحرس الثوري في مشروع لتشييد مزارات دينية في دير الزور، واستولى على مقبرة قديمة بحجة ترميمها مدعياً نسبتها لآل البيت وسط دهشة الأهالي الذين يعرفون هويات العائلات صاحبة تلك المقابر ولا تربطهم أية علاقة بهذه الادعاءات.
وبدأت منظمة «جهاد البناء» الإيرانية بالتعاون مع المركز الثقافي الإيراني في المشروع بالفعل في منطقة الجبل المطلة على دير الزور، وبالقرب من كتيبة الرادار وبالقرب من مطارها العسكري. وتم استقدام حرس من الميليشيات للمرابطة في الموقع رغم خضوع المنطقة للشرطة العسكرية الروسية، وهو أمر غير مألوف نظراً لاقتصار مثل تلك الأنشطة في السابق على مناطق النفوذ الإيراني فقط.
وفي مارس/آذار الماضي، نصب الحرس الثوري سورًا قرب ميدان البانوراما عند مدخل مدينة دير الزور، بحجة ارتباط قطعة الأرض بآل البيت أيضاً، وأقيمت نقطة حراسة مسلحة في محيطها. وفي مطلع يونيو/حزيران الجاري، شرعت «جهاد البناء» في تشييد مرقد مستجد في قرية حطلة تحتاني على الضفة الشرقية لنهر الفرات.
وفي محافظة درعا جنوب البلاد، لم يعد للروس أي وجود ميداني يذكر إلا في منطقة ازرع، وهو وجود يكاد يكون رمزياً، والأمثلة يصعب حصرها، مما يفتح احتمالات عديدة منها تغول الميليشيات الشيعية وإحكام قبضتها على سوريا واستقدام تعزيزات إضافية لدعم قواتها، أو عجزها عن ابتلاع كامل تلك المناطق خاصة مع خسارة الدعم الجوي الروسي وتأثيره الكاسح، وتعرضها للاستهداف الإسرائيلي بكثافة، ناهيك عن الفصائل السورية التي عقدت مصالحات مع النظام أو الأخرى التي انتقلت إلى «الشمال المحرر»، فمن المحتمل أن تقرر هذه الفصائل الانتفاض ضد السيطرة الإيرانية واستغلال الظرف الراهن والاستفراد بالميليشيات الشيعية قبل أن تتحرر الطاقات العسكرية الروسية من جديد، أو حتى الوصول إلى تفاهمات جديدة مع الحرس الثوري وفقًا لما استجد من معطيات، فعندما تتغير موازين القوى يبدأ الناس في إعادة رسم الحدود.