لم يعد خفيًا أن الأزمة السورية قد تحولت منذ زمن إلى ساحة تكسير عظام بين القوى العالمية الكبرى، بعد أن تحولت ثورتها الشعبية إلى حرب بالوكالة بين لاعبين إقليميين ودوليين عبر حلفاء لهم على الخارطة الداخلية السورية.

الدخول الروسي القوي والمباغت على الأزمة منذ أيلول/سبتمبر عام 2015م، عبر عمليات القصف الجوي الكثيف لصالح نظام الأسد وتمركز العسكريين الروس في مدن الساحل الغربي الحصينة للنظام، دشن لمرحلة جديدة تمامًا، إذ وضعت الدور الروسي في مواجهة مكشوفة مع الغرب المنخرط في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة تحت مسمّى محاربة تنظيم الدولة «داعش».

واللافت هنا أن روسيا التي رمت بثقلها في المعركة، اتخذت هذا القرار وهي تعاني من أسوأ أزمة اقتصادية منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، إذ وصلت عملتها إلى الحضيض وازداد العجز النقدي لديها على وقع الانهيار الدراماتيكي في أسعار النفط الذي تصدّره للخارج.

بات واضحًا أن المعركة الروسية في سوريا إنما هي باختصار معركة روسيا القيصرية مع الغرب وقائده العم سام، وما سوريا إلا حلبة لهذا القتال!

وعلى الرغم من هذه اللحظة الحرجة، فلم تتوانَ موسكو عن تخصيص مليارات الدولارات لتمويل الحرب الوحشية التي تديرها في سوريا، إذ تشير تقديرات معهد واشنطن للدراسات أن تكلفة الحرب تناهز (2.5-3) ملايين دولار يوميًا، ما يفتح الباب واسعًا للتساؤل عن الأهمية التي توليها موسكو فعلًا لبقاء نظام الأسد، ومكانة سوريا في الميزان الإستراتيجي الروسي.

وقد كثر الحديث في أروقة السياسيين والأكاديميين حول أهمية سوريا حليفة وتابعة لروسيا في المنطقة، لا سيما بعد الخسارة التي مُني بها الروس في كل من جورجيا وأوكرانيا لصالح الغرب، وتناثر الآمال المعقودة على ليبيا بعد انهيار نظام القذافي الموالي لها.

وهنا لا يمكن إغفال أهمية سوريا الجيو-إستراتيجية للسيّد الروسي، لا سيما كونها آخر موطئ قدم لها على المياه الدافئة في المتوسط، إضافة لحدودها الواسعة مع إسرائيل وغريمتها تركيا، إلى جانب الشراكة الاقتصادية والعسكرية عالية المستوى بين الجانبين، فعلى سبيل المثال، بلغت فاتورة مشتريات نظام الأسد من السلاح الروسي بين عامي 2007-2010 ما يناهز 4.7 مليار دولار، أضف إليه حيوية موقع سوريا كمحطة «ترانزيت» في أي مشاريع مستقبلية لنقل الغاز الطبيعي.

لكن هذه الأسباب، وغيرها، لا يمكن لها أن تفسّر الإصرار الروسي على كسب المعركة في سوريا أيًا كانت الأثمان الاقتصادية أو السياسية؛ إذ بات من الواضح أن موسكو لا تنظر إلى سوريا كمجرد موطئ قدم اقليمي، أو موقع جيو-إستراتيجي غني وحسب، إنما تمثل معركة سوريا في الوجدان الروسي ما هو أكبر من ذلك بكثير، إنها تمثل باختصار معركة روسيا القيصرية مع الغرب وقائده العم سام، وما سوريا إلا حلبة لهذا القتال.

فروسيا التي تمتلك تاريخًا إمبراطوريًا ضاربًا في القدم، إلى جانب مقومات هامة في الميزان الجيو-إستراتيجي، صارت بعد انتهاء الحرب الباردة تبتعد شيئًا فشيئًا عن مركز التأثير العالمي نتيجة للتهميش الأمريكي والذراع الأوروبية الضاربة في عمقها السوفياتي السابق، والبلقاني.

ومع عدم امتلاك روسيا لثقافة التأثير الناعم، وافتقارها للقوة الدبلوماسية أو المعيارية (القيمية) كما هو حال دول غرب أوروبا، التي تأقلمت مع هذا الدور بعد الحرب العالمية الثانية وخطّت لنفسها مسارًا مُرضيا على ملعب السياسة الدولية، فإن روسيا وجدت نفسها معزولة أكثر فأكثر، وبات تأثيرها الدولي بانحسار متدحرجًا، وأدواتها الخارجية أكثر عزلة عن لغة هذه الأيام.

وفي ظل هذه الأزمة المركبة (تراجع الأدوار، وعزلة الأدوات) اكتسبت معركة سوريا أهميتها المتعاظمة بالنسبة لموسكو، فصارت تحارب اليوم لأهداف أكبر من سوريا نفسها، فالرهان اليوم ليس على إبقاء نظام تابع لها في دمشق، بل رهان على استعادة روسيا لمكانتها القديمة كقطب ثانٍ كما كانت قبل التسعينات، فهي – من منظورها – تخوض معركة مصير روسيا، ومستقبل النظام الدولي بأسره.

ومن هنا يمكن تفسير العلاقة المستشكلة على الفهم بين موسكو ودمشق، إذ ينظر نظام بوتين إلى الأسد كحليف مرحلي يحفظ مصالحه في المنطقة، ويُتيح له هامش مناورة مفتوح في مواجهة الغرب ولو على حساب تدمير سوريا وإنهاك شعبها، بينما لن تجد موسكو حرجًا باستبدال الأسد أو التخلي عنه لصالح حليف جديد.

تجمع روسيا حولها لفيفًا من الحركات اليمينية المتطرفة حول العالم لإنفاذ مشروعها بتقويض المشروع الأمريكي المهيمن على العالم من تسعينات القرن الماضي.

ومن أجل تحقيق هدف موسكو باستعادة دورها الدولي القديم، يقوم التكتيك الروسي في الأزمة السورية على ثلاث قواعد هامة، أولها التصدي للغرب وتحييد قوته؛ وذلك من خلال تعطيل قدرته على الحسم وتدمير هذا الصورة، وإثبات عجزه العسكري، وإفشال أي جهد سياسي تقوده دبلوماسيته من أجل الوصول إلى تسوية أو حتى مجرد هدنة في الشمال السوري.

وثانيها: فرض روسيا لنفسها كلاعب أساسي على طاولة الدول الكبرى؛ إذ لا مباحثات أو اجتماعات تخص سوريا يمكن خوضها دون مشاركة روسية، كما لا يمكن تجاهل مطالبها أو تجاوزها. وعلى العكس، بدت موسكو قادرة على إجبار القوى الغربية على تبني مطالبها، مثل العودة إلى سقف «جنيف2» بعدم تجاهل النظام في التفاوض على المرحلة الانتقالية في سوريا.

وثالثها: تحطيم صورة النظام الدولي الذي أرسى الغرب أعمدته، ومحاولة إحباط أطروحاته وأدواته ومؤسساته المختلفة، وإظهارها بمشهد المشلول والعاجز عن إحراز أي تقدم تحت وطأة العناد الروسي المتمثل بالفيتو (حق النقض). وينسحب ذلك على إظهار الإدارة الأمريكية بمظهر العاجز أمام موسكو، وزعزعة الأيقونة الأمريكية كصمام أمان لأزمات العالم.

وانطلاقًا من هذه الدعامات الثلاثة التي تلخص تكتيك التعامل الروسي مع الأزمة السورية، فإن موسكو تجمع من حولها لفيفًا من القوى المتطرفة حول العالم من قبيل الحركات اليمينية والشعبوية والأحزاب اليسارية المتطرفة وتلك المعادية للإمبريالية.

ولا تكاد موسكو تخفي أمنياتها بفوز دونالد ترامب برئاسة البيت الأبيض، كما تمد جسور التواصل السياسي والثقافي مع أحزاب اليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية في أوروبا، فهي ترى بصعود هذه المكونات إلى السلطة فرصة لإشباع رغبتها الجامحة باستعادة أيام الاستقطاب الدولي الحاد الذي كان سائدًا خلال الحرب الباردة، وترى بحمّى الاستقطاب والتطرف فرصة لمزيد من التصعيد الدولي الذي يتيح إعادة توزيع مراكز القوى العالمية على أسس جديدة، تطمح موسكو لأن تنال فيها حصصًا أكبر.

كما أن ثقافة الاحتجاج والاستقطاب التي تُشيعها الشخصيات والأحزاب اليمينية والشعبوية سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا، تعطي قيادة بوتين العديد من الفرص لترويج خطابها الداخلي القائم على التصدي للغرب وتدمير أسطورته، وهو الخطاب الذي ساعد بوتين دومًا على تخطي العديد من الأزمات الداخلية والاقتصادية، وأنقذ شعبية نظامه في أحلك اللحظات.

وقد كانت روسيا على الدوام الدب الجريح في الأزمات الدولية الكبرى، فقد عاينت كيف دمّرت الحرب الأولى الإمبراطوريات الألمانية والروسية والعثمانية، وكيف جعلت الحرب الثانية أوروبا بأسرها رهينة تحت السقف الذي تمنحه لها الولايات المتحدة، وكيف حيّدت الحرب الباردة أوراق القوة السوفياتية. وعليه، فإنها ترى اليوم في الأزمة السورية فرصة تستحق أن تلقي كامل ثقلها فيها، علّها تعيد موضعة موسكو على عرش السيادة الدولية من جديد.