سيمفونية الحرب والمايسترو العائد من الهزيمة
الحرب دائرة، الشظايا التي تخترق الجماجم وتشوِّه أبدان المُبتلين بالتعاسة الأبدية، أصوات القنابل التي تدقّ المُدن والقرى وتنذر بالفناء والعدم، زلزلة الغارات الجوية والدمار اللاحق بها لا نجاة منه، صوتُ صفارات الإنذار يُدَوِّي في الخنادق تحت الأرض معلنًا اكتفاء الثرى والتراب بدفن الأرواح الحيَّة في بطنه. الحربُ – في أوج اشتعالها – سيمفونيةٌ تعيسة، أوركسترا مكتملةٌ عناصرها الحطام والدمار والغارات والتأوهات البشرية، والمايسترو سفّاح يلوِّح بيدٍ تتطاير معها الأشلاء، وتتقاذف بها الحُمم… هُنا لابد من لحنٍ ملحميّ يعكس هذه المأساة، إذ رُبما لو صادف وصُورت هذه الحرب، سيكون نبضها حتمًا هو الموسيقى الحزينة الملحمية!
1- حيرةُ العزف على الوتر الأول!
صادفني مؤخرًا منشور لبعض الأصدقاء ينصح فيه المتابعين بمشاهدة السلسلة الوثائقية الفرنسية الشهيرة (أبوكاليبس – الحرب العالمية الثانية)، كان منشورًا طويلًا يشبه هاتيك التي صارت في الفترةِ الأخيرة محلّ التهكم والدعابة على صفحات التواصل؛ قد يكون لأنّ المتابعين الكُسالى يكتفون بحفظها في الأرشيف المكتظّ بالمؤجلات دون الاطلاع على محتواه الثري.
وأنا صراحةً كدتُ أنْ أمرّر هذا المنشور وأتجاوزه بوقاحة معتادة منّي، رُغم إنَّ بداية المنشور كانت عن أهمية الاطلاع على تاريخ الحرب العالمية الثانية التي تصوِّرها السلسلة الوثائقية، ولخيبة أملي وشغفي التائه، كدت أنْ أصرف اهتمامي عن منشور بهذه الأهمية .. لولا القدر، الذي شاء أنْ حثّني على قراءته كاملًا، فنوّه كاتبُ المنشور بأن السلسلة الوثائقية فريدة جامعة مكتملة: لا تعكس الحرب وتاريخها فقط فقدر ما تعكس أيضًا الحياة الاجتماعية والأدبية والفنية آنذاك، ولهواة الاستراتيجيات العسكرية فهي دقّقت وأوضحت فنيات الحرب التكتيكية، لمْ يحثّني على مشاهدتها حبي للتاريخ بقدر ما أثار فضولي شغفي بالأدب والفن، زيادة على ذلك الإشادة بالدبلجة الرخيمة الحزينة لمحمد السعيد الذي شارك في الحرب بأحباله الصوتية الشجاعة، واكتشفتُ لاحقًا –بعد انتهائي من مشاهدتها – أنّ وسوسةَ الانصراف عن هذه السلسلة كادت ستحرمني من متعة اكتشاف لحن الحرب الذي أشرتُ إليه من قبل.
2- النوتة التي قَبِلتْ السيمفونية!
لم أتوان للحظة وعكفت على مشاهدة هذه السلسلة، وللأمانة التي لا يتحتّم عليّ ذكرها – لكنّي أقولها – فإني خشيتُ أنْ يتسرّب إليّ الملل والفتور سريعًا، خاصةً أنّ علاقتي بقراءة التاريخ في توتّر دائم وحذر مُبالغ فيه يحرمني من الاستمرار في التنقيب والبحث في خباياه والولوج بجسارة في كُتبه.
إلّا أن قراري السريع لمشاهدة السلسلة كان تحدّيًا لإتمامها مستخلصًا منها وسائل الفائدة والمتعة أيضًا، وكانت أولى دهشتي بهذه السلسلة الوثائقية، هذه المشاهد الحية المصورة للحرب، مشاهد نزوح الأهالي وإخلاء المدن المُحاصرة، مشاهد الحرب من قلب المعركة وداخل الخنادق المعرّضة دائمًا للقصف، هذه المشاهد التي اعتقدتُ بسذاجة وجهل تامّين أنها أقربُ إلى الصور التمثيلية المفبركة وأدعى لعدم التصديق.
ورُبما سبب هذا الهاجس هو استبعادي أنْ يتوغّل بشرٌ في قلب الأطلال وتحت القنابل الكيماوية ومرمى النيران بإرادته التامة، فقط ليلتقط صورًا لحدث ما، وقتها آمنتُ مُطلقًا بأهمية هذا الدور شديد الأهمية والخطورة والبسالة أيضًا، وقرأت بعدها عن ( بوريس سوكولوف ) المصور الروسي الشهير الذي يرجع إليه الفضل في نقل الحرب العالمية الثانية بكاميرات تسجيلية أقصاها نصف دقيقة فقط للتسجيل الواحد، جمّعها وانتقى منها ما لا يؤثّر على دولته ويؤذي روحها المعنوية، ليعرضها للعالم أجمع دون أن يعلمَ هذا الروسي أنّ هذه الصور التسجيلية ستصبح مادةً دسمة تثري الأجيال القادمة وتدوّن لحظات مصيرية، و ستصبح أيضًا مادته الفيلمية نوتةً موسيقية يُسطّر عليها لحنٌ دراماتيكي يُعبر عن المأساة التي عاشتها البشرية.
3- حين لوّح المايسترو بإشارة البدء!
لم يستفزّ فضولي بعد المشاهد الحية المصورة، سوى هذه الموسيقى التي عُزفت على خلفية السلسلة الوثائقية، اللحن الدراماتيكي الذي كان له الإهاب والعظمة كلها، الذي مضى بك حيث مضى الجنود، وألهب في روحك الحماسة كالموسيقى الفلكلورية التي استخدمها الجنود – بمختلف أوطانهم – آنذاك للتخفيف من آلامهم، الموسيقى التي لا تنتهك حُرمة الدماء والموت بل تزيد منْ حالمية الجنود البائسين المحطّمين كالجنود الروس الذين لا يرون بأسًا في مغازلة فتاةٍ روسية خيالية اسمها ( كاتيوشا) ترطّب لهم الجروح وتخفف عنهم الهوان والبأس.
كانت معزوفة الحلقة الأولى مثيرة للشجن والحُب المكلوم وقت (ما قبل الحرب) ومُرعبة حدّ الفزع مع (صعود النازية) وقدوم هتلر الذي أوقد الحرب، وكانت حماسية مثيرة عندما اشتعل الشرق مع الغرب في معركة ( بارباروسا) الشهيرة واندلع الدمار بالعالم كله، ووُضعت أيضًا اللمسات الأخيرة للنهاية بموسيقى فيها رغبةُ الإنسانية لتوقف شلالات الدماء، ومواساة المُكتَوين بقنبلة (هيروشيما وناجازاكي) … وسقطت معها اليابان وانتهت الحرب بالاستسلام غير المشروط.
لكنّ، من هذا المايسترو الذي عزف هذه الصورة الموسيقية الحيّة التي ميّزت السلسلة الوثائقية والتي لولاها لما نطقت المشاهد المصورة؟! لم أتوقّع أن يكشف شغفي لمعرفة اسمه عن حقيقة جنسيته التي أصابتني بالحيرة الشديدة، وأثار في ذهني تساؤلات مُربكة.
«كينجي كاواي» الياباني الشهير الذي ألّف موسيقى مسلسل «ديث نوت» الشهير وصاحب موسيقى كارتون (أنا وأخي) .. وغيرها من الأعمال السينمائية والدرامية، هو ذلك الملحن الذي وافق على أنْ يدندن ويعزف على سقوط اليابان؛ دولته ومسقط رأسه، وافق على أن يقرع الطبول وينفخ في الأبواق مع سقوط القنبلة النووية من الطائرات الأمريكية، كيف تقبّلت نفسيتُه هذا؟! الكيفيةُ لا أسأل عنها بقدر ما أشير إلى أنها حتمًا مرتبطة بالقبول النفسي للهزيمة، لكن .. لا أظنّ أن الهزيمة هنا حاقت باليابان، ولا أظن (كينجي كاواي) سيقبلُ بهذه الهزيمة، ولا أظن أنه سيتجاسر على عزف لحن نهاية دولته في الماضي، لا أظنه سيفعل ذلك، لو لم يكن اليوم هو الفائز، ولو لم يكن اليوم حقيقًا بالريادة وجديرًا بقيادة العالم.. حينها، لا بأس بأن يجعل من الهزيمة، فخرًا يُرمز به إلى كيفية الصعود وارتقاء القمةِ بعد أنْ سُويت دولته بالأرض، نعم .. كان قديمًا هو الخاسر، لكنّه اليوم ابن جيل العباقرة الذين تجاوزوا بعقولهم حدّ المعقول.
هكذا جسّد «كينجي كاواي» الحرب العالمية الثانية في السلسلة الوثائقية، بموسيقى جعلت من الحرب سيمفونية ولحنًا بائسًا، وأحيت الحرب بنبضٍ حزينٍ .. ملحميّ عنيف، واكتملت صفوف الأوركسترا الصارخة المتأوهة .. اكتملت بلحن العودة حين وقف المايسترو الياباني أمامها في جلال ليغلق النوتة معلنًا الانتهاء .. وانتهت معه المشاهدة.