الرمز والدلالة: الأرقام المؤثرة في الميثولوجيا الإسلامية
ظهرت الأعداد منذ فترة مبكرة من تاريخ الحضارة الإنسانية، إذ استلزمت تفاصيل الرعي والزراعة والمقايضة، ظهور نسق مُحدَّد من الرموز التي بإمكانها تحديد التكاليف والأرباح، وضبط المعاملات بين الناس بعضهم وبعض.
مع تطور الحضارة الإنسانية تطورت رمزية النظام العددي بالتبعية، إذ دخل الكثير من الأرقام في بنية الأنساق السحرية والدينية، ونظر الكثير من المجتمعات لبعض الأرقام على كونها ذات قوة خفية متجاوزة، وأنها تمتلك القدرة على استدعاء قيم غيبية دوغمائية مقدسة. ومن هنا فقد ارتبطت كل حضارة بمجموعة من الأرقام، ومن ذلك رقم 666 الذي ورد ذكره في رؤيا يوحنا، ورمز للوحش في المعتقدات المسيحية؛ ورقم 13، الذي رمز لسوء الطالع والتشاؤم في الثقافة الغربية.
الميثولوجيا المذهبية الإسلامية عرفت الأمر نفسه، إذ اشتهرت مجموعة من الأرقام في كل مذهب، وصار ذكر تلك الأرقام من شأنه أن يلفت النظر لمجموعة من الأحداث والعقائد المهمة في الذاكرة الجمعية لكل مذهب، نستعرض أبرزها في التقرير التالي.
رقم 4
منذ القدم عرف البشر رقم أربعة على كونه الرقم الذي يرمز للشمول والعموم، فاستخدموه كرمز يعكس أفكارهم ومعتقداتهم عن الكون والعالم.
على سبيل المثال جرى الاتفاق على تقسيم العالم إلى أربعة اتجاهات رئيسة، وهي الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب. أيضاً ذهب الأقدمون إلى أن الكون يتألف من أربعة عناصر بدائية، تشكلت جميع الموجودات من امتزاجها بعضها ببعض بنسب مختلفة، وهي: الماء، والهواء، والتراب، والنار، وكان من بين أبرز من قال بذلك فلاسفة اليونان، من أمثال أمبيدوكليس وأفلاطون وأرسطو، في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.
في الثقافة الإسلامية المذهبية جرى اختيار رقم أربعة ليرمز لبعض من أهم المعتقدات والثوابت. مثلًا اتفق أهل السنة والجماعة على أربعة خلفاء راشدين معتبرين – أبو بكر وعمر وعثمان وعلي – حكموا تباعًا لمدة ثلاثين عامًا بعد وفاة الرسول، ومثلت فترة حكمهم ذروة العدل البشري بعد عصر النبوة.
أيضًا اتفق أهل السنة على اعتبارية أربعة مذاهب فقهية – الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية – واعتقدوا أن اتِّباع أيٍّ منها يجعل المُتبع داخلًا في الدائرة الواسعة لأهل السنة.
الملاحظة المهمة هنا أن التوقف عند رقم أربعة قد تسبَّب في إهمال مجموعة من الخلفاء أو الأئمة الذين تتحقق فيهم نفس الشروط المتحققة في الخلفاء/ الأئمة الأربعة، فمثلًا تناسى أغلبية المسلمين الخليفة الخامس الحسن بن علي، رغم حكمه لمدة 6 أشهر كاملة في نهاية العام الثلاثين الهجري قُبيل تسليم السلطة لمعاوية بن أبي سفيان، وفي السياق نفسه تغافلت الذاكرة الجمعية السنية عن أسماء مجموعة من كبار الفقهاء عند تأطيرها للمذاهب السنية المُعتبرة، ومن هؤلاء الأوزاعي والليث بن سعد وابن حزم وغيرهم.
معنى ذلك أن رقم 4 قد مثل نوعًا من أنواع «الرمزية الإشباعية»، والتي تجعل ما يتعداها كمًّا مهملًا في الكثير من الأحيان.
في الذاكرة الشيعية يحضر رقم 4 من خلال أمرين مهمين؛ الأول هو مجموعة من الصحابة الذين عُرفوا باسم «الأركان الأربعة»، وهم المقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي، ويعتقد الشيعة الإمامية أنهم كانوا الأتباع الأكثر انقيادًا وطاعةً لعلي بن أبي طالب بعد وفاة الرسول، وأن أربعتهم أعلنوا بيعتهم لعلي بالخلافة، بل وقفوا معه ضد أبي بكر الصديق ومَن شايعه من قبيلة قريش، وذلك بحسب ما ورد في كتاب «الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد» للشيخ المفيد المتوفى سنة 413هـ، الأمر الثاني يتمثل في مجموعة من الكتب الحديثية المهمة في المذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري، والتي عُرفت بِاسم «الكتب الأربعة» تمييزًا وتعظيمًا لها عن باقي الكتب المناظرة، وتتألف تلك المجموعة من كتاب «الكافي» لمحمد بن يعقوب الكليني المتوفى 329هـ، و«من لا يحضره الفقيه» لمحمد بن علي بن بابويه الصدوق المتوفى 381هـ، وكتابي «الاستبصار» و«تهذيب الأحكام» لمحمد بن الحسن الطوسي المتوفى 460هـ.
أما في الذاكرة الصوفية فتحضر الرمزية المهمة للرقم 4 في عدد الأقطاب المعتبرين، وهم: عبد القادر الجيلاني المتوفى 561هـ، أحمد الرفاعي المتوفى 578هـ، أحمد البدوي المتوفى 675هـ، وإبراهيم الدسوقي المتوفى 696هـ، والذين يعتقد الكثير من الصوفية أن لهم دورًا مهمًّا في تسيير حركة الكون والعالم بما استودع فيهم الله من أسرارٍ ربانية، وبما وهب لهم من قدرات الولاية التكوينية.
رقم 5
على العكس من الشيعة والصوفية يُعدُّ الخوارج/المحكمة من أقل المذاهب والفرق الإسلامية التي اهتمت بالأرقام ورمزيتها ودلالتها في الأحداث التاريخية. رغم ذلك فإن الرقم 5 كان له حضورٌ رمزي مهم في واحدة من أهم اللحظات التاريخية المؤثرة في بناء الفكر الخارجي عمومًا، والمذهب الإباضي على وجه الخصوص.
رقم 5 ارتبط بمجموعة من الطلبة الذين تركوا بلاد المغرب في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، وانطلقوا للبصرة في أرض العراق، حيث تتلمذوا فيها على يد واحد من كبار علماء الإباضية آنذاك، وهو الإمام أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة.
هؤلاء الطلبة، الذين عُرفوا في الذاكرة الإباضية باسم «حَمَلة العلم»، هم أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح، وعبد الرحمن بن رستم الفارسي، وعاصم السدراتي، وأبو المنيب إسماعيل بن درَّار الغدامسي، وأبو داود القبلي. وقد درسوا على يد الإمام أبي عبيدة مدة خمس سنوات من سنة 135 إلى 140هـ، ثم رجعوا إلى بلاد المغرب حاملين معهم أصول ومبادئ المذهب الإباضي، حيث تمكنوا من نشره بين الكثير من القبائل الأمازيغية، ودخلوا بعدها في مواجهات متعددة ضد جيوش الدولة العباسية، إلى أن تمكن أحدهم – وهو عبد الرحمن بن رستم – من تأسيس الدولة الرستمية القوية التي تمكنت من الصمود لما يزيد عن المائة عام، وذلك بحسب ما يذكر الدكتور محمد عيسى الحريري في كتابه «الدولة الرستمية بالمغرب الإسلامي».
رقم 7
لم يحمل رقم من الأرقام الرمزية التي حملها الرقم 7 في مختلف العصور الإنسانية. فهذا الرقم كان حاضرًا في العديد من الظواهر الطبيعية التي لاحظها الإنسان منذ عرف الحياة على الأرض، كعدد ألوان الطيف السبعة على سبيل المثال، ومن جهة أخرى، عرف هذا الرقم الغامض طريقه إلى التنظيمات الاجتماعية المُتعارف عليها، ومن ذلك ما جرى الاتفاق عليه في معظم الحضارات من تقسيم الشهر إلى أربعة أسابيع، عدة كل منها سبعة أيام.
أيضاً ظهر الرقم 7 بكثرة في المعتقدات والميثولوجيا القديمة، إذ اعتاد الأقدمون على الحديث عن البحار السبعة وعن السبعة الأرواح التي يمتلكها القط وعن النجمة السباعية التي ترمز لإله الشمس عند السومريين والبابليين.
في العقائد المندائية القديمة، ظهر الرقم 7 في الاعتقاد الشائع بأن روح المتوفى تمرُّ بسبع بوابات لتطهيرها قبيل الخلود. أما في الإسلام، فيُحدِّثنا القرآن الكريم عن سبع سماوات وسبع أراضٍ، هذا فضلًا عن السبع المثاني، والتي اختلف العلماء في تفسير معناها، فذهب بعضهم إلى أنها سورة الفاتحة، بينما ذهب البعض الآخر منهم إلى أنها أطول سبع سور في القرآن، وهي سور: البقرة، آل عمران، التوبة، النساء، المائدة، الأنعام، والأعراف.
دون جميع المذاهب الإسلامية كانت رمزية الرقم 7 حاضرة – وبقوة – في المذهب الشيعي الإسماعيلي، إذ يعتقد الإسماعيلية أن الإمامة بعد وفاة الإمام السادس جعفر الصادق في سنة 148هـ انتقلت لابنه إسماعيل، فهو الإمام السابع عندهم، ومن نسله تعاقب مجموعة من الأئمة المستورين الذين هربوا من السلطة العباسية حتى تمكن أحدهم، وهو عُبيد الله المهدي من تأسيس الدولة الفاطمية في تونس في 297هـ.
حضور رقم 7 في المذهب الإسماعيلي لم يقتصر على عدد الأئمة فحسب، بل تعدَّى ذلك ليدخل في بنية العقائد الإسماعيلية؛ إذ يعتقد الشيعة الإسماعيلية أن للدين سبعة أركان، وهي: الولاية، والجهاد، والطهارة، والحج، والزكاة، والصيام، والصلاة.
وفي السياق نفسه آمن الإسماعيليون بأن التاريخ المقدس للبشرية مرَّ خلال سبعة عهود نبوية ذات أطوال مختلفة، وأنه قد أعلن عن بداية كل عهد نبي ناطق بالرسالة الإلهية، وإن كان الناطقون في العهود الستة الأولى على الترتيب، هم: آدم، نوح، إبراهيم، موسى، عيسى، ومحمد، فإن محمد بن إسماعيل بن جعفر هو الناطق الأخير، وذلك بحسب ما يذكر الباحث الإسماعيلي الدكتور فرهاد دفتري في مقاله المعنون بـ «الزمن الدوري والتاريخ المقدس في الفكر الإسماعيلي في القرون الوسطى».
رقم 10
يرتبط الرقم عشرة في الذاكرة السنية بأسماء عشرة من كبار أصحاب الرسول، وهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عُبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عُبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد.
بحسب ما ورد في مجموعة من كتب الحديث، ومنها على سبيل المثال سنن أبي داود وسنن الترمذي، فإن الرسول قال إن هؤلاء العشرة سوف يدخلون الجنة، وهو الأمر الذي عُرف لأجله هؤلاء بالعشرة المبشرين بالجنة.
من المهم هنا أن نذكر أن هذا الحديث لم يتعدَّ المجال السني، إذ رفضه كلٌّ من الشيعة الإمامية والخوارج، وعدُّوه من الأحاديث الموضوعة التي اختلقها البعض للتأكيد على مكانة قبيلة قريش التي ينتمي إليها الرجال العشرة.
الملاحظة الجديرة بالذكر أن رمزية الرقم 10 ظلَّت قائمة في العديد من التنظيمات والهياكل السلطوية على مدى التاريخ الإسلامي، فمثلًا سنجد أن الفقيه المغربي محمد بن تومرت المتوفى 524هـ، صاحب الدعوة الموحدية في بلاد المغرب الأقصى، سيحرص على تقسيم أتباعه لفئات متباينة المكانة والأهمية، وسوف يكون أصحابه العشرة الأقرب إليه، والذين سيسميهم بأصحاب عشرة أو آيت عشرة، على رأس تلك الفئات جميعًا، وذلك بحسب ما يذكر الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه «المهدي بن تومرت».
رمزية رقم عشرة في المخيال السني حضرت أيضًا في بعض الأيام ذات الذكرى الخاصة، ومن أهمها على الإطلاق يوم العاشر من محرم أو عاشوراء، والذي يعتقد أهل السنة والجماعة أن الرسول لما وصل إلى المدينة ووجد أن اليهود يصومونه استذكارًا لحادثة نجاة النبي موسى وبني إسرائيل من ملاحقة فرعون، فصامه وأمر المسلمين بصيامه، وذلك بحسب ما ورد في صحيح البخاري.
فيما يخص الشيعة الإمامية، فقد حافظوا على الرمزية المتعلقة بيوم العاشر من محرم، وإن أرجعوها لما وقع في هذا اليوم في سنة 61هـ، عندما قُتل الحسين بن علي في واقعة كربلاء بأرض الطف بالعراق، ومن هنا نجد أن رمزية عاشوراء في الذاكرة الشيعية قد اصطبغت بالحزن والتعازي لمصاب حفيد الرسول فيما اتسمت مثيلتها السنية بالفرحة والسعادة لنجاة النبي موسى.
رقم 12
عرفت الإنسانية الحضور الرمزي القوي للرقم 12 منذ فترة مبكرة من تاريخها، وربما كان السبب الأهم في ذلك هو أن هذا الرقم كان يقبل القسمة على 4 أرقام أخرى أصغر منه، فضلًا عن قبوله للقسمة على نفسه وعلى الواحد الصحيح، وهو الأمر الذي فسره الأقدمون على كونه أمرًا سحريًّا بامتياز.
تفرُّد الرقم اثنا عشر أدخله بصور مختلفة في ميثولوجيا الحضارات القديمة، إذ صار مساويًا لعدد الأبراج الفلكية عند البابليين والمصريين القدماء، كما أصبح مُكافئًا لعدد الآلهة الاثنا عشر الذين يسكنون في جبل الأوليمب، بحسب ما هو شائع في الأساطير الإغريقية القديمة.
رمزية الرقم 12 انتقلت للذاكرة اليهودية المقدسة، إذ يذكر سفر التكوين أن عدد أسباط بني إسرائيل كان اثنا عشر سبطًا، كما يحدثنا القرآن الكريم عن ارتباط هذا الرقم بمجموعة من المعجزات التي وقعت لبني إسرائيل، ومنها ما ورد في الآية 60 من سورة البقرة «وَإِذِ استسقى مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا…».
سر ورمزية الرقم 12 تواجدا أيضًا في الذاكرة الإسلامية عبر الآية 36 من سورة التوبة التي أقرَّت بأن «عدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا»، كما ظهر هذا الرقم في واحدة من أهم اللحظات المؤثرة في التاريخ المبكر للإسلام، وذلك في بيعة العقبة الأولى، عندما بايع الرسول اثنا عشر رجلًا من الأوس والخزرج، بما اُعتبر – فيما بعد – إرهاصًا للهجرة إلى يثرب وتأسيس الدولة الإسلامية.
الرقم 12 كان حاضرًا بقوة في الفكر السياسي الإسلامي، من خلال مجموعة من الأحاديث المرفوعة للرسول والتي تتحدَّث بصيغ مُختلفة عن الخلفاء الشرعيين المتعاقبين على كرسي السلطة، ومن تلك الأحاديث ما ورد في صحيح البخاري «يكون اثنا عشر أميرًا»، وما ورد في صحيح مسلم «إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة».
في الذاكرة الشيعية الإمامية ارتبط رقم 12 بعدد الأئمة المعصومين الذين يعتقد الشيعة بعصمتهم، وبأن الله عز وجل قد نصبهم من قبله، وهم على الترتيب: علي بن أبي طالب، والحسن بن علي، والحسين بن علي، وعلي السجاد، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومحمد الجواد، وعلي الهادي، والحسن العسكري، والمهدي محمد بن الحسن العسكري.
رقم 40
يحظى الرقم 40 بحضور مهم في الميثولوجيا القديمة، ولعل ذلك يتناغم مع ارتباطه ببعض الطقوس والشعائر في مصر القديمة.
بحسب ما ذكره الدكتور سليم حسن في كتابه الموسوعي «مصر القديمة»، فإن طقوس التحنيط تضمَّنت إخراج الأعضاء الداخلية من جسم المتوفى، واستبدال كميات كبيرة من الملح بها، والحفاظ عليها داخل الجثمان لمدة 40 يومًا، حتى يتم امتصاص جميع المياه بشكل تام. هذا الطقس الشعائري الذي يُقدِّس الرقم 40، تماهَى مع الاعتقاد الأسطوري الشائع بقيام الإله ست بتمزيق جسم أوزير لـ ٤٠ قطعة، وأن أوزير قد قام من الموت بعد ٤٠ يومًا من وفاته.
رمزية الرقم 40 انتقلت إلى المخيال الكتابي، اليهودي والمسيحي، فهناك الأربعون عاماً التي قضاها شعب إسرائيل في البرية بعد خروجهم من مصر، وأيضًا صيام المسيح لأربعين يومًا، هذا بالإضافة إلى أن الرقم أربعين مثَّل المدة التي قضاها المسيح بين القيامة والصعود للسماء.
من هنا، يمكن القول اعتمادًا على جميع ما سبق أن رقم ٤٠ لم تكن له دلالة مادية بقدر ما كانت له دلالة روحية رمزية، فهو يُعبِّر عن الانتقال من صورة إلى صورة مغايرة، وهو يرمز للتسامي والتعالي والترفع عن الملموس إلى المعنوي، وهو ما يظهر في تحول أوزير من مجرد إله يشترك في سلطته مع مجموعة من الآلهة إلى أوزير السيد المطلق للعالم السفلي، وبالقياس نفسه، تحوَّل المسيح في شكله الناسوتي البشري إلى ابن الله الذي يجلس على يمين الآب.
في الثقافة الإسلامية أيضًا ظهرت الرمزية القوية للرقم أربعين، وهو ما يظهر في الآية الخامسة عشرة من سورة الأحقاف، والتي جاء فيها «حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ».
المفسر والمؤرخ ابن جرير الطبري المتوفى 310هـ، تعرَّض للرقم أربعين الوارد بالآية في تفسيره، فقال: «وقوله “وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً” ذلك حين تكاملت حجة الله عليه، وسير عنه جهالة شبابه وعرف الواجب لله من الحق في بر والديه»، وهو القول الذي يتوافق مع الاعتقاد الإسلامي الشائع بأن الأنبياء قد بعثوا إلى أقوامهم في سن الأربعين، وهو ما جرى تأكيده في صحيح البخاري من قول الصحابي أنس بن مالك أن الرسول قد «بَعَثَهُ اللهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً».
في الذاكرة الشيعية يحظى الرقم 40 برمزية مهمة، وهي ارتباطه بحادثة مقتل الحسين بن علي في معركة كربلاء سنة 61هـ، إذ اعتاد الشيعة على استذكار يوم العشرين من شهر صفر، والذي يوافق مرور 40 يومًا على مقتل الحسين، وقد قيل إن الإمام علي السجاد وزينب بنت علي قد قاما بالسفر إلى كربلاء في يوم الأربعين، حيث أظهرا الحزن والبكاء على فقيد آل البيت، وهي السنة التي ستدخل شيئًا فشيئًا في بنية التدين الشيعي الطقوسي، وستظهر في الكثير من روايات آل البيت التي ستؤيدها وتشجع عليها، حتى رُوي عن الإمام الحادي عشر الحسن العسكري أن للمؤمن خمس علامات، منها زيارة الأربعين، وذلك بحسب ما يذكر محمد باقر المجلسي المتوفى 1111هـ في كتابه الموسوعي «بحار الأنوار».
وفيما يخصُّ حضور الرقم أربعين في الذاكرة الصوفية، فسنجده مرتبطًا بالأبدال، وهم مجموعة من الأشخاص من ذوي المكانة العالية والمُبجلة في المعتقدات الصوفية، ويؤمن المتصوفة بأن عددهم أربعين رجلًا، بحسب ما ورد في بعض الأحاديث المرفوعة للرسول، ومنها ما ورد في مسند أحمد بن حنبل «الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلًا، كلما ما مات رجل، أبدل الله مكانه رجلًا، يُسقى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب». ومنها أيضًا ما أورده المتقي الهندي في كتابه كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال «لا يزال أربعون رجلًا من أمتي قلوبهم على قلب إبراهيم يدفع اللَّه بهم عن أهل الأرض، يقال لهم الأبدال، إنهم لم يدركوها بصلاة ولا بصوم ولا بصدقة …».
رقم 100
ارتبط الرقم 100 في الذاكرة الإسلامية بمعلمين رئيسين؛ الأول، الحديث الذي ورد في كلٍّ من صحيحي البخاري ومسلم، مرفوعًا إلى الرسول «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»، إذ شاع تفسير كلمة قرن الواردة في الحديث على كونها مائة عام، والثاني هو الحديث الذي أخرجه أبو داود في السنن «يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها».
بالإشارة إلى الحديثين المذكورين، يمكن القول إن الرقم 100 في العقل الإسلامي يرمز إلى أمرين متعارضين ظاهرًا، متكاملين باطنًا، فهو يرمز للعصر المقدس الغابر الذي عاش فيه الرسول وصحابته، ويمثل العصر الذهبي المعياري، من جهة، كما يرمز للوعد المتجدد بإعادة إنتاج المقاربة الأكثر شبهًا للنموذج الماضوي من جهة أخرى.
رقم 313
للرقم 313 رمزية مهمة في الذاكرة الإسلامية عمومًا، وفي النسق الشيعي الإمامي الاثني عشري على وجه الخصوص.
المصادر الشيعية المختلفة أوردت الكثير من الروايات التي تتحدث عن أخبار ملاحم آخر الزمان، وكيف أن محمد بن الحسن العسكري، مهدي الشيعة الغائب، سوف ينصره 313 رجلًا عند ظهوره، وأنهم سيجتمعون عنده ويبايعونه على الجهاد، وفيهم يقول الإمام جعفر الصادق «كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى الْقَائِمِ وَأَصْحَابِهِ فِي نَجَفِ الْكُوفَةِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرَ قَدْ فَنِيَتْ أَزْوَادُهُمْ وَخَلُقَتْ ثِيَابُهُمْ قَدْ أَثَّرَ السُّجُودُ بِجِبَاهِهِمْ، لُيُوثٌ بِالنَّهَارِ رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، كَأَنَّ قُلُوبَهُمْ زُبَرُ الْحَدِيدِ يُعْطَى الرَّجُلُ مِنْهُمْ قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا …»، وذلك بحسب ما ورد في «بحار الأنوار» للمجلسي.
رقم 313 اكتسب تميزه وحضوره لكونه يُماثل عدد المقاتلين المسلمين الذين حاربوا إلى جوار الرسول في غزوة بدر الكبرى في العام الثاني للهجرة، ومن ثم فقد كان استحضار هذا الرقم من جانب العلماء الشيعة فيما بعد بهدف استغلال الزخم المعنوي الهائل الذي يحظى به، وفي هذا السياق يمكن أن نفهم محاولة بعض المفسرين تأصيل رمزية ودلالة هذا الرقم من خلال ربطه ببعض الأحداث التاريخية التي وقعت قبل الإسلام، فعلى سبيل المثال، ذهب أبو الثناء الألوسي في تفسيره «روح المعاني» إلى أن عدَّة من بقي مع طالوت في معركته ضد جالوت كان 313 رجلًا فحسب، بعدما تفرَّق معظم جيش بني إسرائيل ورفضوا القتال ضد الكنعانيين.
مثَّل رقم 313 إذن رمزية مهمة في مسألة الجهاد والخروج والثورة، وقد روي عن الصادق قوله: «إنه لو اجتمع على الإمام عدة أهل بدر، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، لوجب عليه الخروج بالسيف»، فهو يشير للقلة الصابرة المحتسبة التي تنصر الحق وتقف في وجه الباطل، ويمكن القول إن حضور هذا الرقم في المخيال الشيعي التقليدي يرجع بالمقام الأول لمحاولة الربط بين أحداث نهاية العالم ووقائع بداية الإسلام، في مجاراة ومسايرة للحديث المشهور «يعود الإسلام غريبًا كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء».