«الفتوى المُعطَّلة» بين محمد علي والشيخ الجزائرلي
لعل أكثر ما كان يشغل بال المفتي قديماً، ولا يزال يشغله حديثاً؛ عندما يتلقى سؤالاً من المُستفتِي، هو: هل نص السؤال يطابق واقع الحال المسئول عنه أو المطلوب الإفتاء بشأنه أم لا؟ وكان المفتي الراسخ في العلم يحتاط لنفسه دوماً من احتمال أن يكون سؤال المستفتي غير مطابق لموضوعه، فكان ينهي فتواه بعبارة تفيد حصر الفتوى فيما يشير إليه منطوق السؤال وحسب، ومن ذلك قول بعضهم: «هذا إذا كان الحال كما ذكر في السؤال». وقول بعضهم الآخر «وبما ذكرنا عُلم الجواب عن السؤال حيث كان الحال كما ذكر به، والله أعلم». أو «هذا ما ظهر لنا حيث كان الحال كما ذكر بالسؤال، والله تعالى أعلم».
ذلك هو شأن المفتين الراسخين في العلم وهم بصدد الإجابة على سؤالات عموم المستفتين، وهو أيضاً شأنهم- ويفترض أن يكون ذلك من باب أولى- وهم بصدد الإجابة على سؤالات أولياء الأمر من الملوك والرؤساء والأمراء والولاة.
وتشير الوقائع التاريخية إلى أن بعض «الفتاوى» آلت إلى «التعطل» أو «عدم الفاعلية»، ولم تؤثر في الواقع على النحو الذي كان متوقعاً أو مستهدفاً منها. وأغلب تلك الوقائع تتعلق باستفتاءات أولي الأمر وفتاوى المفتين الذين أفتوهم، الأمر الذي يثبت أن بإمكان جمهور الناس إبطال العمل بفتاوى علماء السلطان على مر الأزمان. ومن الأمثلة التاريخية على تلك الفتاوى المتعطلة: فتوى «جواز منع الوقف»، التي أصدرها الشيخ محمد المفتي الجزائرلي، بناء على سؤال وجهه إليه الوالي محمد علي باشا في سنة 1262هـ/ 1846م، أي قُبيل وفاته بثلاث سنوات فقط.
كان نص سؤال محمد علي هو:
وكان جواب المفتي الجزائرلي هو:
ولم يكن أمام المفتي إلا أن يُفتي بما أفتى به؛ حيث أن الغرض من السؤال واضح في نصه وداعٍ إلى استنطاق «جواز المنع» من فم المفتي، بغض النظر عما إذا كان واقع الحال في الواقع الاجتماعي مطابقاً لما ورد في السؤال الأميري أو الحكومي أم لا.
تلقَّف محمد علي تلك الفتوى، وأصدر بناءً عليها، أمراً حكومياً بتاريخ 9 رجب 1262ه/ 3 يوليو 1846م بمنع الوقف فيما يستقبل من الزمان. واستمر أمر المنع سارياً ثلاث سنوات فقط، لم يلتزم فيها الناس بأمر المنع واستمروا في وقف أملاكهم، وسرعان ما ألغى الوالي عباس باشا الأول ذلك الأمر غداة توليه السلطة، إذ أصدر بتاريخ 25 رمضان 1265هـ/ 14 أغسطس 1849م أمراً حكومياً مناقضاً لأمرِ سلفه، وقد نص فيه على أنه:
من غير المعقول أن تكون ثلاث سنوات كافية لتغيير «أحوال العامة» من الفساد -الذي أشار إليه محمد علي في سؤاله للمفتي الجزائرلي- إلى الصلاح؛ حتى يكون هناك مبرر لإلغاء أمر المنع، ومن ثَمَّ لإبطال الفتوى الشرعية التي استند إليها هذا الأمر. وإذا كان ذلك كذلك، فالسؤال هنا هو: أين مكمن الخطأ الذي أدى لتعطل فتوى الشيخ الجزائرلي وأعاق تطبيقها في الواقع؟ هناك احتمالان:
الاحتمال الأول هو:
أن محمد علي كان كارهاً لنظام الوقف وأراد القضاء عليه وتجفيف منابعه فيما يستقبل من الزمان، ولهذا فإنه سعى لاستصدار تلك الفتوى، ولكنه اصطدم باتساع إقبال الناس على الوقف ورسوخ اعتقادهم في مشروعيته وعدم جواز منعه، ومن ثَمَّ لم يلقوا بالاً لأمر المنع ولا لفتوى المفتي.
ولكن هذا احتمالٌ غير صحيح إذا كان مبنياً على افتراض كراهية محمد علي للوقف؛ فالثابت لدينا أن محمد علي لم يكن يكره الوقف، ودليلنا هو أنه أنشأ بنفسه خمس وقفيات كبيرة، لا تزال آثارها قائمة إلى اليوم وهي: وقفية جزيرة طاش أوز بالبحر الأبيض المتوسط، وقد سجلها بالديوان العالي بمصر بموجب بحجة مؤرخة في 25 جمادى الآخر 1228هــ، ووقفية مكتب تحفيظ القرآن في مدينة قوله مسقط رأسه وقد سجلها بموجب حجة من محكمة دار السلطنة العلية بتاريخ 11 ربيع الآخر 1232ه، ووقفية جفلك كفر الشيخ بمصر على تكيتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، وقد سجلها بموجب حجة من محكمة الباب العالي بمصر بتاريخ 15 شوال 1259هـ، ووقفية أخرى على التكيتين أيضاً، وقد سجلها بموجب حجة من محكمة الباب العالي بمصر بتاريخ 20 صفر 1260، وأخيراً وقفية اشتملت على مساكن واصطبلات وجناين بمسقط رأسه في مدينة قوله خصصها للإنفاق على مكتب تحفيظ قرآن ومكتبة كان قد أنشأهما في «قوله»، وسجلها بحجة من محكمة الباب العالي بتاريخ 5 جمادى الآخر 1260ه. ومعنى ذلك أن محمد على عندما استصدر فتوى جواز منع إنشاء الوقف من الشيخ الجزائرلي كان قد أتمم إنشاء خمس وقفيات، ولا يستساغ عقلاً أن يستحل لنفسه إنشاء الأوقاف ثم يحرم ذلك على عامة المصريين.
الاحتمال الثاني هو:
أن محمد علي قد اعتمد على معلومات غير دقيقة عن اتساع حجم إساءة استخدام الوقف للتوصل به إلى «أغراض فاسدة» حسبما جاء في سؤاله الذي وجهه للمفتي الجزائرلي. ولئن كان هناك من أساؤوا استخدام الوقف لأغراض فاسدة، فإنهم ظلوا استثناءً محدوداً لا يقتضي استصدار فتوى عامة بالمنع تشمل الجميع على النحو الذي ورد بأمر المنع. ويؤكد هذا الاحتمال: أن أمر المنع انحصر فقط في الأراضي العشورية (وهي التي فُتحت صلحاً)، وظل قضاة المحاكم الشرعية يقبلون تسجيل الأوقاف في الدور والحوانيت وفي الأراضي الخراجية (وهي التي فُتحت عنوة)، وانضم القضاة إلى «العامة» في عدم الالتزام بأمر محمد علي بمنع الوقف، وكانوا سبباً في تعطل فتوى المفتي وأمر الوالي وفشلهما على أرض الواقع.
وهذا الاحتمال الثاني هو الأرجح في نظري، وهو الذي يفسر لماذا تعطلت فتوى الشيخ الجزائرلي ولماذا فشلَ أمرُ المنع الذي أصدره محمد علي بناء على تلك الفتوى. ومما يؤكد هذا الاستنتاج أن الشيخ الجزائرلي كان حياً يرزق ولم يُبد أي اعتراض أو ملاحظة على الموضوع- لا كتابة ولا شفاهة- عندما بادر عباس باشا الأول بإلغاء أمر جده محمد علي باشا، وهو الإلغاء الذي تضمن إدانة صريحة له، ووصفه بأنه كان أمراً مخالفاً «للشرع الشريف المحمدي» وأنه كان «تعدياً على حقوق الناس».
لقد كان على المفتي الجزائرلي أن يدافع عن فتواه، وأن يوضح أنها- على الأقل- ليست مخالفة للشرع الشريف المحمدي، ولا فيها تعدٍ على حقوق الناس كما ورد في أمر الإلغاء الذي أصدره «عباس الأول». كان بإمكان الشيخ الجزائرلي أن يفعل شيئاً من ذلك إذا «كان الحال كما ذكر في نص السؤال» الذي وجهه إليه محمد علي باشا، ولكن الشيخ لاذ بالصمت، وكأن شيئاً لم يكن. ويظهر أنه عندما أصدر فتواه كان يدفع ثمن إنعام محمد علي باشا عليه بتعيينه مفتياً للإسكندرية بعد أن نفته سلطات الاحتلال الفرنسي من بلده الجزائر، وعليه فإنه لم يكن بمقدوره آنذاك التخلف عن تلبية رغبة ولي نعمته فيما أراد، كما لم يكن بمقدوره أن يتصدى لولي الأمر الجديد «عباس الأول»، الذي أدان جده وأدان مفتيه في آن واحد. لقد فعل الوالي والمفتي ما بدا لهما، وفعل عموم الناس وقضاة الشرع ما بدا لهم.
إن كل الوقائع التي أحاطت بفتوى الشيخ الجزائرلي وبأمر محمد علي الذي استند فيه على تلك الفتوى بجواز منع الوقف، تشير إلى أن أهم أسباب تعطلها هو: أنها جاءت تلبية لرغبة سلطوية جامحة، ولم تأت تلبية لتحقق مصلحة اجتماعية راجحة، أو لتجلب منفعة عامة تحظى بقبول مجتمعي، ولهذا لم يعرها الناس اهتماماً ولم يلتزموا بها، فكان أن بادر عباس باشا الأول بإلغاء الأمر الذي انبنى عليها، ربما لأنه وجد أن ضرر بقائه أكبر من نفعه. ويبدو لي أن التعطل هو مصير أغلب الفتاوى التي لا يتطابق فيها واقع الحال مع نص السؤال. والله أعلم.