النجاة من المذبحة: كيف تعامل مسلمو البوسنة مع اليهود؟
في بقعة واحدة، لا تتجاوز الكيلومتر المربّع الواحد، تتجاور أماكن العبادة لأديان ثلاثة، اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، لم تقم بشكل مقصود للاحتفال المصطنع، وإنما هو مشهد استثنائيّ لا تراه إلّا في سراييفو التي سُمّيت لهذا السبب «قدس أوروبا».
اليهود الذين سكنوا سراييفو جاء أكثرهم هاربين من إسبانيا بعد عام 1492، ووجدوا ملجأ لهم في أراضي الدولة العثمانية، واستقرّوا بأعداد كبيرة في البوسنة والهرسك، في مدن سراييفو وتوزلا وبانيالوكا وغيرها. والجدير بالذكر، أنهم لم يجبروا على العيش في جيتوهات كما عاش نظراؤهم في دول أوروبية أخرى، وتركت لهم الحرية ليقيموا في أي مكان يختارونه.
ومن بين ما حملوه إلى سراييفو عند وصولهم «الهاجاداه»، وهو كتاب دينيّ فيه تفسيرات قديمة للتّوراة، يحتوي صلوات وأغاني، ويحكي أيضًا قصة خروج موسى وقومه من مصر، وهو عبارة عن كتابات على الجلد وصور رسمت بكثير من الفن حسب مقاييس ذلك الزمن، وتعدّ فريدة من نوعها. نجت تلك النّسخة من محاكم التفتيش ووصلت إلى سراييفو مرورًا بإيطاليا ودوبروفنيك، وهي محفوظة الآن في المتحف الوطني.
استقرّ اليهود في حيّ يحمل حتى الآن اسم «الحي اليهودي»، وأقاموا كنيسهم في موضع قريب من جامع الغازي خسرو بك (يمثّل الجامع المركزي للمسلمين في سراييفو)، وعرفوا بين السكان المحلّيين بـ «الإسبان»، إذ حافظ اليهود على ممارساتهم وتراثهم الذي جلبوه من إسبانيا. وسرعان ما حملت سراييفو بصمات هؤلاء القادمين، فاشتهروا بعملهم في السّباكة والعطارة والتجارة الخارجية، وكان لهم زيّهم الخاص الذي تمايزوا به عن بقية سكان المدينة، مسلميهم ومسيحييهم.
عاملت الدولة العثمانية اليهود بشكلٍ جيد. وعلى الرّغم من بعض القيود، ازدهرت أوضاعهم في أنحائها المختلفة، ومنها البوسنة والهرسك. فقد منح اليهود استقلاليّة كبيرة، مع حقوق مختلفة منها الحق في شراء العقارات والقيام بالتجارة في جميع أنحاء الدولة. وفي عام 1856، حصلوا مع رعايا الإمبراطورية العثمانية الآخرين غير المسلمين على المساواة الكاملة بموجب القانون.
كان استيلاء إمبراطورية النمسا والمجر على البوسنة عام 1878، إيذانًا بقدوم وافدين جدد إليها من اليهود الأشكناز، وجلبوا معهم رأس المال والشركات والأساليب الأوروبية في التعامل الاقتصادي. وصل عدد الجالية اليهودية في البوسنة إلى ما بين أربعة عشر ألفًا واثنين وعشرين ألفًا في عام 1941، وشكّلوا في سراييفو وحدها نسبة 20% من سكانها، وأنشئوا فيها معبدًا عام 1902 اعتبر ثالث أكبر كنيس لهم في أوروبا.
الاحتلال النازي
غزا النازيون وحلفاؤهم مملكة يوغوسلافيا في أبريل/نيسان 1941، فأصبحت البوسنة والهرسك تحت سيطرة دولة كرواتيا المستقلة، وهي دولة عميلة للنازية، حاولت استمالة المسلمين البشناق بوصفهم «كرواتًا مسلمين» ينتمون للعرق الآري، ولم تهدر كثيرًا من الوقت في اضطهاد غير الكروات مثل الصرب واليهود والغجر. ففي سبتمبر/أيلول من العام نفسه بدأت عمليات ترحيل اليهود، حيث تم ترحيل عدد كبير من اليهود البوسنيين إلى معسكرات الاعتقال في كرواتيا، ومنها إلى «أوشفيتز» (معسكر الاعتقال النازي الشهير في بولندا).
تحدثت مصادر صهيونية وصربية عن دور المسلمين البشناق في الوقوف مع الاحتلال النازي، وانخراطهم في وحدة «خنجر» المقاتلة ضمن صفوف الجيش النازي، وهي التي أسّسها مفتي القدس الحاج أمين الحسيني كما ذكرت تلك المصادر.
وليس المقال في صدد الحديث عن تلك الوحدة المثيرة للكثير من الجدل، وقد أنشئت تلك الوحدة أساسًا بغرض حماية المسلمين البشناق من مجازر الميليشيات الصربية «تشتنيك»، وليس لمناصرة النازيين في اعتداءاتهم وتنكيلهم بيهود البوسنة، فهناك على الجانب الآخر مواقف مشهودة للدور الإنساني الذي تجلّى من قبل أهل البوسنة آنذاك نحو سكانها من اليهود.
اقرأ أيضًا:إعادة كتابة تاريخ الهولوكوست
مواقف مشهودة في حماية يهود البوسنة
ومن الأمثلة البارزة على ذلك ما عُرف بـ «قرار المسلمين»، وهي عريضة أصدرتها جمعية العلماء «الهداية» في سراييفو في أكتوبر/تشرين الأول 1941، ونشرت في الصّحف الرّسميّة، ثمّ سلّمت للوزير المفوّض في سراييفو، ووقّع عليها 108 من وجهاء المدينة ومثقّفيها وتجّارها.
تطالب تلك العريضة السّلطات التّابعة للنّازيّة بوقف الأعمال العدائيّة ضدّ جميع المدنيّين (والمقصود منها وقف اضطهاد اليهود والغجر والصّرب الذي دأبت عليه السّلطة وقتها)، وتأمين الحماية لحياتهم ولشرفهم ولممتلكاتهم ولأديانهم، ومحاكمة المسئولين عن تلك الجرائم، وتعويض ضحايا تلك الأعمال العدائية. كذلك أعلنت العريضة براءة مسلمي البوسنة من كلّ عمل فرديّ ينتهك حقوق الإنسان منسوب للمسلمين.
اعتُبرت هذه الوثيقة تصرّفًا شجاعًا ضد النزعة الفاشية التي سادت حينها. فقد اعتبرت السّلطات هذا القرار طعنة في الظهر وخيانة للوطنية، ووجّهت تهديدًا للموقّعين على الوثيقة في سراييفو بأخذهم لمراكز الاعتقال،ونفّذت تهديداتها فعلًا، فقد سجنت بعضًا منهم، وقتلت آخرين.
لكنّ المدن الأخرى في البوسنة حذت حذو سراييفو في الإعلان عن قرار مسلميها بشكل رسميّ ضد عمليات القتل والخطف، وهو ما حدث في مدن مثل برييدور، وموستار، وبنيالوكا، وتوزلا وبييلينا وتريبينا، و أصدروا عرائض موقّعة تعبّر عن هذا القرار. وفي سياق آخر، أدان ممثلو المسلمين التّحويل القسريّ الذي حدث لبعض اليهود إلى الدّيانة الرّسمية آنذاك الكاثوليكية.
وكذلك ساعد أهالي سراييفو العديد من اليهود على الفرار والتسلل. من بين العديد من القصص الشهيرة، قصة مصطفى وزينبا، وهما زوجان من عائلة هرداغا، قاما بإيواء عائلة اليهودي يوسف كابيليو في بيتهما، وحموْها من الاعتقال، وساعدوها على الوصول إلى مدينة موستار عاصمة الهرسك التي كانت تحت الاحتلال الإيطالي، وبذلك نجت العائلة بنفسها من قبضة النّازية.
وذكر باحثان كرواتيّان في كتابهما «البشناق في معسكر ياسونافانتش» أن عدد البوسنيين الذين قضوْا في معسكر الاعتقال ياسونافانتش سيئ السّمعة بلغ 1520، كانت تهمتهم إما مناصرة الشّيوعيّين البارتيزان (المناضلون الشيوعيون ضد الحكم الفاشي في إيطاليا وغيرها)، أو المعارضة اللفظية لأعمال العصابات الكرواتية «أوستاشا»، أو إخفاء عائلات يهوديّة، أو تقديم المساعدة للاجئين على الرغم من حظر «الأوستاشا».
هذا التعامل الإنساني والوقوف بأصعب الظروف من قبل مواطني البوسنة، اعترفت به حتى دولة الكيان الصهيوني. ففي نصبها التذكاري لضحايا الهولوكست، وعلى قائمة «الصالحين بين الأمم»، وهم الأشخاص من غير اليهود الذين ساعدوا اليهود على النجاة بأرواحهم من المحرقة، يرد ذكر اثنين وأربعين بوسنيًّا. ومع ذلك، وجريًا على عادتها في الغدر والتنكّر لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها،شاركت دولة الكيان الصهيوني في دعم صرب البوسنة في عدوانهم على دولة البوسنة والهرسك.
كتب راتكو ملاديتش، الرئيس العسكري لصرب البوسنة، في مذكراته:
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2016، رفضت المحكمة العليا في دولة الكيان الصهيوني قبول دعوى للكشف عن صادرات الأسلحة الإسرائيليّة لدولة يوغسلافيا السابقة خلال فترة الإبادة الجماعية التي ارتكبها الصرب ضدّ المسلمين في تسعينيات القرن الماضي.
الواقع الحالي للجالية اليهودية في البوسنة
كان العدوان الصّربي على البوسنة وحصار سراييفو الطويل سببًا لرحيل ما تبقى من اليهود فيها إلى دولة الكيان الصهيوني أو للدول الغربية. وتذكر الإحصاءات الحالية أن هناك ما يقارب ألف يهودي يقيمون حاليًا في سراييفو.
وقد قال جاكوب فينشي، رئيس الجالية اليهودية في سراييفو، في مقابلة مع صحيفة هآرتس: