دولة آل البيت السنية: الأدارسة في المغرب الأقصى
يمتلئ التاريخ الإسلامي المبكر والوسيط بالعديد من الدول المنتسبة إلى آل البيت أو المتشيعة لهم دينياً وسياسياً كالدولة الفاطمية في شمال أفريقيا، ودولة بني بويه في العراق وبلاد فارس، ودولة القرامطة في شرق الجزيرة العربية، والدولة الصفوية في إيران. وهي دول محسوبة جميعاً – كما هو معروف – على المذهب الشيعي باتجاهاته المختلفة: الإسماعيلية والإمامية الاثني عشرية والزيدية.
ثمة دولة بعينها، ثار الجدل حول حقيقة انتمائها المذهبي، بأثر رجعي من بعض الباحثين، هل هو إلى أهل السنة والجماعة أم إلى الشيعة الزيدية، ألا وهي الدولة الإدريسية، التي تأسست في المغرب الأقصى عام 172 هـ على يد إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، الملقب بـ«إدريس الأول».
ما هي قصة تأسيس دولة الأدارسة؟ وهل كانت دولة شيعية حقًّا؟
تغريبة إدريس الأول: الفرار من المدينة إلى المغرب الأقصى
في الـ 28 من جمادى الآخرة عام 145 هـ / 25 أيلول 762 م، دعا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب – الملقب بمحمد «النفس الزكية» – إلى الثورة على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، ودعا أهل المدينة المنورة إلى بيعته، فاستفتى أهل المدينة الإمام مالك بن أنس في هذا الشأن، فأجاب الأخير بأن بيعتهم للمنصور كانت تحت الإكراه، ولذلك فلا بيعة صحيحة له في أعناقهم، وكان الإمام أبي حنيفة النعمان أيضاً من مؤيدي محمد «النفس الزكية» في هذا السياق.
باءت ثورة محمد «النفس الزكية» بالفشل، بعد هزيمته على أيدي جيش المنصور في الـ 14 من رمضان من العام نفسه. لم تتوقف ثورات العلويين بعد إخفاق ثورة «النفس الزكية»، حيث تلتها ثورة أخيه «إبراهيم بن عبد الله» الذي قتل في العام نفسه، ثم ثورة الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى في عام 169 هـ، التي انتهت بمقتله ومعه الكثير من آل البيت، في موقع بالقرب من مكة يدعى «فخ»، ويعرف اليوم باسم «حي الشهداء»، حيث يضم هذا المكان رفات ضحايا تلك الموقعة، الذين رثاهم الشاعر دواد بن سلم مولى بني تميم بن مرة، بقوله:
كان أحد الناجين من مذبحة «فخ» الرهيبة إدريس بن عبد الله، وكذا أخوه يحيى الذي ذهب إلى بلاد الديلم في إيران، ودعا الناس إلى بيعته، فبايعوه واشتدت شوكته، إلى أن جهز له الخليفة العباسي هارون الرشيد جيشاً بقيادة الفضل بن يحيي البرمكي، الذي بذل له الأمان، فأجابه يحيى على شرط أن يكون هذا الأمان بكتاب من خط الرشيد يشهده الكبراء، وهو ما حدث بالفعل، فحضر يحيى على إثر ذلك إلى بغداد، حيث حبسه الرشيد رغم وعده بالأمان، ومات هناك في السجن[1].
اختار إدريس الذهاب إلى مصر، التي ساعد والي البريد بها وكان يدعى «واضح مولى صالح بن المنصور» إدريس ومولاه راشد على الفرار إلى المغرب الأقصى، وكان جزاؤه بعد ذلك من الخليفة العباسي هارون الرشيد على ذلك الفعل ضرب عنقه وصلبه.
بعد وصول إدريس بن عبد الله إلى مدينة وليلي المغربية في غرة ربيع الأول عام 172 هـ، بايعت قبائل البربر إدريس إماماً لها، ومن هناك قام بنشر الإسلام بشكل واسع بين القبائل غير المسلمة في المغرب الأقصى، وتوسعت أرجاء دولته حتى وصلت إلى مدينة تلمسان في الجزائر حالياً.
دامت فترة حكم إدريس بن عبد الله 5 سنوات، انتهت بوفاته مسموماً بتدبير من الخليفة العباسي هارون الرشيد وفق الكثير من الروايات، التي تروي تفصيلاً كيف قُتل ومن هو الفاعل ومن الذي حرضه، والتي تدعمها قرائن واضحة، تظهر من خلال العديد من الشواهد، مثل طريقة تصرف الرشيد من قبل مع يحيى أخي إدريس الأول الذي مات سجيناً عنده، ما يعكس بجلاء مخاوف الرشيد السياسية من كلا الأخوين الفارين بحياتهما بعد نجاتهما من معركة «فخ».
من الروايات الشهيرة في مقتل إدريس بن عبد الله – والتي تثبت تورط الرشيد – قصة مطاردة مولاه راشد للقاتل، حيث استطاع أن يلحق به بعد ليلة طويلة من المطاردة، في وادٍ يسمى وادي ملوية، وقاتله وقام بقطع يده اليمنى وأثخنه بالجراح، ولكن القاتل استطاع الفرار في النهاية بعد أن سقط الجواد براشد من الإعياء بسبب عدوه طوال الليل حتى الصباح، واستطاع القاتل أن يضمد جراحه في الطريق وتابع سيره إلى العراق رغم آثار الجراح البادية عليه، وعندما وصل إلى هناك كافأه الرشيد، وعينه والياً على البريد في مصر[2].
كيف حكم الأدراسة بلاد المغرب؟
بعد دفن الإمام إدريس بن عبد الله جمع مولاه راشد زعماء القبائل البربرية، وقام فيهم متحدثاً وترك لهم الخيار فيمن يتولى الأمر من بعد إدريس، وقال لهم إن الأخير لم يترك ولداً ذكراً إلا حملاً من أمته كنزة، التي كانت حينذاك في الشهر السابع، وخيرهم بين انتظار أن تضع الجارية حملها، فإن كان ذكراً تولوا تربيته حتى يبلغ مبلغ الرجال ويتسلم الإمامة، وإن كانت فتاة فهم أحرار فيما يقرروه بعد ذلك، فوافقوا بصدر رحب على هذا الرأي، وقالوا له أيضاً إنه أحق الناس بهذا الأمر إن كانت فتاة، لفضله ودينه وعلمه كما ذكروا.
وضعت كنزة حملها وكان المولود ذكراً، وأخرجه راشد إلى وجهاء البربر ليشاهدوا إمامهم الجديد، الذي سموه إدريس تيمناً باسم والده، وظل في وصاية راشد، الذي لم تكن أعين بني العباس غافلة عنه، حيث أوعز الرشيد إلى عامل إفريقية إبراهيم بن الأغلب بالتخلص من الأخير، واستطاعوا في نهاية المطاف قتله بالسم عام 188هـ، لكن لم يستطيعوا الوصول إلى إدريس الثاني الصغير، حيث كانت تتولى أمه مهمة إطعامه بنفسها مخافة أن يُدس له السم[3].
بعد مقتل راشد بعشرين يوماً، توجهت قبائل البربر لمبايعة إدريس الثاني، في جامع وليلي، في غرة ربيع الأول عام 188 هـ، وكان عمره حينذاك 11 عاماً وخمسة أشهر، ولحق بتلك القبائل الكثير من الوفود المهنئة والمؤيدة من الأندلس وإفريقية، واستقام الأمر بعدها لإدريس الثاني وكثر أتباعه. ضاقت مدينة وليلي الصغيرة بالوافدين القادمين من كل مكان، فرأى إدريس الثاني أن يبني عاصمة جديدة لدولته تنافس حواضر الشرق كبغداد والقيروان، وبعد العديد من التجارب والمحاولات لاختيار الموضع الجديد وجد وزيره عمير بن مصعب الأزدي الموضع المنشود.
كان يسكن الموضع المختار للعاصمة الجديدة عدة قبائل غير مسلمة متحاربة فيما بينها، فأصلح بينها إدريس الثاني، ودخلوا في الإسلام، ثم اشترى منها مناطق مضارب خيامهم وكتب عقد الشراء الفقيه أبو الحسن عبد الله بن مالك الخزرجي الأنصاري في سنة 191 هـ، ثم بدأ البناء في نهار الخميس غرة ربيع الأول عام 192 هـ، بعد أن أخذ إدريس الثاني المعول وبدأ بحفر أساس السور، ثم تبعه العمال بعد ذلك، وكانت تلك هي لحظة ميلاد مدينة «فاس» بالمغرب، التي رفع إدريس الثاني يده إلى السماء أثناء تخطيطها ودعا قائلاً:
ثم ختم دعاءه بحمد الله تعالى ثم بهذه بالآية القرآنية:
كان الأدراسة عند حسن ظن أهل المغرب بهم، حيث طبقوا أحكام الإسلام بحذافيرها، وكانوا قريبين من الناس، يجلس الإمام للناس بعد كل صلاة وفي أوقات محددة يحكم بينهم ويعالج مشاكلهم ويعلمهم القرآن وأحكام الإسلام، يتفقد أحوال الناس الصحية والمعيشية، ويحضر حفلات الزفاف، يشارك في تشييع الموتى، يزور الأرامل والأيتام، يعود المرضى ويواسيهم بتواضع لم يشهده أهل المغرب من جانب الحكام قط.[5]
خاض الأدارسة في المغرب الكثير من الصراعات مع الدولة الفاطمية والدولة الأموية بالأندلس، إلى أن استطاع الأمويون القضاء على حكم الأدارسة في نهاية المطاف، بعد أن دامت دولتهم في المغرب ما يقرب من قرنين من الزمان بين 788 م و974 م.
أشهر فروع الأدارسة في العالم الإسلامي
تولى الناصر لدين الله علي من بني حمود الذين كانوا إحدى فروع الدارسة ولاية سبتة في عام 403 هـ من قبل الأمويين، في العام 406 هـ استولى الناصر على حكم مالقا، ثم سيطر على الخلافة الإسلامية في الأندلس بعد إطاحته بالخليفة الأموي في قرطبة. بعد مقتل الناصر لدين الله علي دخل أخواه القاسم ويحيى بن علي في صراع على الحكم؛ الأمر الذي أضعف من قوة الحموديين، وأدى إلى تقهقهر دولتهم وانحسارها في حدود مالقا والجزيرة في عصر «ملوك الطوائف». ثم سقط حكمهم لهما بنهاية المطاف بعد أن أطاح بهم الزيريون حكام غرناطة في عام 450 هـ.، وكان آخر أمراء بني حمود هو المستعلي بالله محمد حاكم منطقة الجزيرة في الأندلس، التي ضُمت في الأخير إلى دولة بني عباد.
أشهر فروع الأدراسة في العصر الحديث هم السنوسيون، والسنوسية هي حركة تجديدية إصلاحية تأسست على يد الشيخ محمد بن علي السنوسي في مكة المكرمة عام 1837، وانتقلت إلى ليبيا عام 1843. بعد خروج الاستعمار الإيطالي من ليبيا تولى محمد بن إدريس السنوسي حكم البلاد، وأسس المملكة السنوسية التي استمرت حتى انقلاب بعض ضباط الجيش الليبي بقيادة العقيد معمر القذافي في سبتمبر عام 1969.
جير بالذكر أيضاً أنه بين عامي 1908 و1930 م أسس محمد بن أحمد الإدريسي الإمارة الإدريسية في منطقة جازان وتهامة عسير، تم ضم الإمارة إلى «سلطنة الحجاز ونجد وملحقاتها» – التي تغير اسمها بعد ذلك إلى المملكة العربية السعودية – بموجب معاهدة بين الحسن بن علي الإدريسي والملك عبد العزيز آل سعود في عام 1926.
هل كانت دولة الأدراسة دولة شيعية أم سنية؟
هناك عدة أمور تكاد تحسم الجدل حول مذهب الأدارسة، أولها هو الانتماء التاريخي المعروف لمختلف أبناء وأحفاد الأدراسة المنتشرين في أرجاء شمال أفريقيا والمغرب العربي للمذهب المالكي السني، منذ العصر الوسيط وحتى العصر الحديث، ومن بين هؤلاء حكام معروفون تولوا الخلافة الإسلامية السنية في قرطبة، وتولوا حكم الكثير من مدن ومناطق الأندلس والمغرب الأقصي، هذا فضلاً عن العديد من الشخصيات المعروفة الأخرى من أحفاد الأدارسة، مثل العالم الجغرافي المسلم الشهير «الشريف الإدريسي» المتوفى عام 1165 م، والأمير عبد القادر الجزائري (1808 – 1883).
الأمر الثاني هو أن وصف أنصار تلك الدولة بالتشيع في بعض المصادر التاريخية كان المقصود به هو التشيع السياسي لآل البيت، وهو أمر لم يكن بالغريب في القرن الهجري الثاني والثالث بين حتى أوساط مشاهير العلماء والمحدثين من أهل السنة والجماعة، ويمكن تفسير محاولات إعادة قراءة التاريخ بأثر رجعي حول هذه المسألة، في ضوء مسألة محددة، ألا وهي بحث البعض عن جذور التشيع في أماكن مختلفة من أنحاء العالم الإسلامي، في سياق التأثر بموجات التشيع الجديدة في شمال أفريقيا والمغرب العربي بعد الثورة الإسلامية الإيرانية.
بجانب هذا، هناك أيضاً إحدى الوثائق التاريخية التي استشهد بها الزعيم الوطني المغربي «علال الفاسي» مؤسس حزب الاستقلال، هي عبارة عن نداء من إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي أبي طالب، دعا خلالها المغاربة إلى الانضمام إلى ثوره أخيه محمد الملقب بـ«النفس الزكية» أيام خلافة المنصور العباسي سنة 145 هـ، ويظهر من خطاب إدريس الأول خلالها وما جاء في كلامه ابتعاد عقيدته عن التشيع المذهبي، ومفردات لغته وأدبياته التقليدية منذ بداية تأسيس دولته.
- أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى، ج1، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1997م، ص 208.
- سعدون عباس نصر الله، دولة الأدراسة في المغرب: العصر الذهبي، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1987، ص 85.
- المرجع نفسه ص 94.
- المرجع نفسه نقلاً عن كتب «جنى زهرة الآس ص 22 و23، روض القرطاس ص 36، سلوة الأنفاس ج1 ص 73، المفاخر العلية باب 5 ص 71، جذوة الاقتباس ج1 ص 36».
- المرجع نفسه ص 118.