سميّة – قصة قصيرة
(1)
وضعت أم عبد الحفيظ أذنها على الباب المصنوع من ألواح خشبية مهترئة، علّها تسمع شيئًا قد تفهم منه ما يجري بين الداية وكنتها سميّة. لم تنظر من الشقوق الواسعة الكثيرة والكبيرة، غلبها فضولها فاسترقت السمع وغلبها حياؤها فلم تسترق النظر. هو الباب ذاته الذي أغُلق عليها وزوجها منذ أكثر من ثلاثين عامًا، خرج منه أبو عبد الحفيظ بعد عامين للحرب ولم يعد. تركها صبية، تخطت الخامسة عشرة بسنة أو سنتين، حينها كان عبد الحفيظ يخطو خطواته الأولى، وهي تحمل في أحشائها رافع، كلاهما ولد في الغرفة الصغيرة من وراء هذا الباب.
انتهى الفحص، لم تفهم شيئًا من همهمات سعدة القابلة، تراجعت إلى الوراء وعادت للجلوس على كرسي القش الصغير. مرّت بضع دقائق قبل خروج القابلة وسميّة من باب الغرفة، بقيت سميّة واقفة عند الباب، بينما تقدّمت الداية سعدة وجلست على مقعد قشّ آخر فقابلت صاحبة الدار وجهًا لوجه.
– بشرّينا يا سعدة يا وجه السعد!
ـ لا يا أم العبد، سميّة ليست حبلى.
– لا حول ولا قوة إلا بالله. والعمل يا سعدة؟ صار لهم سميّة ورافع متزوجين سنتين!
ـ خليها على رب العباد.
– ملّستيها؟ قرأتِ عليها قرآن؟
ـ ملّست، وقرأت المعوّذات والفاتحة. اسمعي يا أم العبد، النساء اللاتي يشبهن سمية يتأخرن في الحمل، لكنهن يحملن في الآخر.
– لم أفهم! ماذا يعني يشبهن سمية؟
ـ يعني لا يأتيها الدم كل شهر، ولها شعر كثير يغطي جسدها المدور الممتلئ.
– يعني عاقر؟
ـ يا أم العبد، أنا أقول إنهن يحملن لكن يحتجن لوقت، لم أقل عاقر.
– أكثر من سنتين؟
ـ أكثر، خُذوها عند الطبيب، في يافا أو حيفا. ممكن أن يساعدوها.
– مشكورة يا سعدة. تشربي شاي؟
فهمت سعدة أن عملها انتهى، وأن سيدة البيت غير راضية عن النتيجة، فاعتذرت عن كأس الشاي وتركت البيت وهي ترمق سمية بنظرة مُشفقة ومعتذرة في الوقت ذاته، فليس بيدها فعل شيء.
ـ استلقى رافع على فراشه مُحملقًا في سقف الغرفة، بينما جلست سمية بقربه.
– ماذا قالت لك أمك؟
ـ سنأخذك إلى يافا.
– هل قالت لك إنني عاقر؟
ـ لا داعي لكثرة الكلام، سنذهب إلى الطبيب ونسمع ما لديه.
كانت أم العبد قد سحبته إلى غرفتها فور وصوله، أخبرته بما قالته سعدة وزادت عليه رأيها أن عليه الزواج من أخرى.
ـ لن أتزوج بأخرى، فلنصبر.
– علامَ تصبر؟ سعدة تقول إن امرأتك لا تنجب.
ـ هي لم تقل هذا، قالت إنها قد تتأخر، أنتِ قلت لي.
– لا أعلم معنى هذا الكلام، ما الذي يمنعك من الزواج؟ ألا تريد أولادًا؟
ـ ما ذنب البنية؟ ألم تختاريها أنتِ؟ وقلت إنها بنت حلال وبنت عيشة. عندما قالت عائشة زوجة العبد إنها ليست جميلة، أصرّيت عليها وكأنها ابنتك. والآن تريدين أن أطلقها؟
– لم تُطلّقها؟ سميّة طيبة ومربية وبنت حلال.
ـ في البيت غرفتان، ولن أستطيع تعمير أخرى من العمل بالأجرة في حقول أبي السعيد، ما الحل؟ امرأتان في غرفة؟
– سميّة ستكون معي في غرفتي.
ـ هذا لن يكون أبدًا.
(2)
خرج إلى بيت أخيه البكر عبد الحفيظ، بيت مكوّن من غرفتين وساحة مكشوفة واسعه تتوسطها تينة كبيرة مظللة. أحسنت عائشة صيانة البيت وزينته ما استطاعت بالزرع وبالأولاد والبنات. أدخله العبد إلى البيت وجلسا تحت الشجرة.
– كأس شاي لرافع يا أم حسن. ما بك يا أخي؟
ـ أريد أن آخذ سمية إلى الطبيب في يافا أو حيفا، وأريدك أن تأتي معي.
– من أجل الخِلْفِة؟ لماذا لا تتزوّج بأخرى؟
ـ أظلمها يا عبد؟ لماذا أظلمها؟ ألا يكفي ما نحن فيه؟ البلاد مولّعة والظروف ضنك.
– معك مصاري للطبيب؟
لم يجب رافع، ففهم الأخ مراد أخيه واتفقا على السفر إلى يافا، حيث يعرف العبد بائع خضار في السوق، رجل فَطِن ويعرف كل يافا. لكنه طلب من رافع أن يمهله حتى يستفسر أولًا ثمّ يعود إليه بالخبر. أخبره بائع الخضار أن مستشفى الدجاني في يافا يستقبل بعض الحالات أيام الخميس للمراجعة. وعندما سأله على استحياء إن كانوا يعالجون النساء هناك، أجابه أن بعض النساء يلدن داخل المستشفى، فلا بد أن أحدهم يفهم في مثل هذه الأمور.
أسدلت طرحتها البيضاء على ظهرها وكتفيها، مغطّية الجزء العلوي من ثوبها. ثوب اشتراه لها أبوها قبل عرسها بأيام، أسود اللون مطرز بالأحمر والأخضر، هذا الثوب هو كل كسوتها قبل العرس، هدية أهلها الوحيدة. أما رافع فقد اشترى لها ثوب العرس الأبيض المطرّز أيضًا، لكن بنقشة حمراء ممتدة على طول الفستان. خبأته ليوم لا تعرفه لكنه قد يأتي، ربما لعرس آخر.
لم يكن فقر أبيها هو سبب كسوتها المتواضعة الوحيد، فهي تعرف معرفة أصيلة لا توصف بالكلمات أنها وأختها الكبرى سليمة أقل شأنًا في العائلة من أشقائهما الستة، معرفة لا تُوصف لكنها تعاش فلا تذكي تذمرًا ولا تمردًا.
بعد زواج سليمة انتقل حمل خدمة رجال الأسرة بكامله إلى كتفيها ويديها، تحت إشراف أمها التي تحملت مسئولية الطهي فقط. من الواضح أنه قدرها غير المعلن، فلم يتوقع أحد منهم أن تتزوج. صحيح أن العيون كبيرة كحيلة، لكن البشرة قمحية موشومة ببثور صغيرة تشوب صفاءها، وشعر كثيف مُهمَل. لم ينقذها من الأخير إلا زواج سليمة، فقد أصرّت إحدى صاحباتها على تنظيفه، فهي أخت العروس وعليها أن تتزيّن أيضًا. لم تبلغ يومها الرابعة عشر، طويلة ممتلئة الجسم رغم شحّ الطعام وقلّة الأكل. ومن يومها استمرت بزيارة ذات الصبية كل أسبوعين. ظلت سميّة مهمة في عيني يوسف وربحي أصغر الإخوة، وعداهم لم يكن أحد يهتم بها، بالكاد كانوا يتحدثون معها أو عنها. في اليوم الذي زارتهم فيه أم العبد وطلبت يدها للزواج برافع، يومها فقط فرحوا جميعًا بها ولكن فرحوا لأنفسهم وليس لها، فهمت سميّة هذه الفرحة ولم تشعر بها.
لم تكن تعرف من هو رافع، الشاب الأصيل الذي رفع رأس البلد يوم أن رحل وشارك الثوار في الجبال وهو في مقتبل عمره، تاركًا أمه الملوّعة وأخاه العبد وفقره الشديد. عاد رافع بعد انتهاء الثورة ليجد أمه وفقره كما هما. أما العبد فقد تحسنت أوضاعه بعد أن تاجر بالخضار ونجح بالزواج من عائشة ابنة أبو سمير التايه، لم يستطع العبد مساعدتهم لكنه ترك له البيت ليعيش ويتزوج فيه، وبنى هو لنفسه بيتًا آخر في قطعة أرض اشتراها بالتقسيط في طرف البلد.
خرج رافع فتى ورجع رجلًا صلبًا قليل الكلام، لم يجد في قريته من يفهم حديثه الطويل عن البلاد والثورة والأرض المهددة. كسب احترام الناس بشرف المحاولة، لم يحاسب على النتائج، ولكنه بقي وحده دونها. مات حسين وحامد وعبد الله وبقي هو. لم يفهم لماذا ماتوا ولماذا بقي؟ أحقًّا يكفي أن تحاول؟ ربما لو استشهد كما استشهدوا لانتصرت الثورة! لن يعرف الإجابة أبدًا، ومن يعرفها؟ ربما الشهداء، ربما أصحابه!
(3)
تقع بناية المستشفى في حي النزهة في يافا، البحر لا يُرى من شرفتها لكن من الوارد شم رائحته. أصرّ مرافقهم أن يُريهم قبر مؤسس المستشفى ومالكه الأصلي، الطبيب فؤاد الدجاني. مقدسي المولد، يافوي الهوى. حكى لهم الرجل عن وفاة الدكتور فؤاد قبل بضع سنين إثر تلوث أصابه جراء جرح في إصبعه. جرح أصيب به أثناء عملية أجراها لامرأة. لم يمنحه المرض إلا مهلة قصيرة، كتب فيها وصيته طالبًا فيها الاهتمام بالفقراء وعلاجهم بالمجان. جزعت سميّة للقصة وخرجت منها آهة عفوية جعلت رؤوس الرجال تنحني، معرفة سبب الموت زادت صاحبه جلالًا وهيبةً. مرّوا بالضريح القابع داخل أسوار المستشفى، وقرأوا الفاتحة عند رأسه. مشوا جميعًا إلى مدخل البناية الرئيسية، حيث تركهم العبد وصاحبه على أن يعودا بعد صلاة الظهر. دخل رافع وسمية من الباب حائرين بما عليهما فعله. تقدم رافع نحو رجل يرتدي زيًّا أبيض كاملًا، تبادل معه بعض الكلام وعاد إلى حيث تقف سمية.
ـ من هنا.
مشيت خلفه دون أن تنطق بكلمة. كم هو طيب رافع، يفعل ما لا يفعله أحد في البلدة. من يفكر في أخذ زوجته إلى العلاج في المدينة؟ ألم يكن من الأسهل أن يتزوج بأخرى؟ رافع ليس ككل الرجال، هو ليس كأبيها ولا كإخوتها. ليس ككل الرجال الذين سمعت عن قصصهم مع نسائهم. ما هذا الحظ الذي أوقعها برافع؟ من الأكيد أن الله جازاها خيرًا لرعايتها ربحي ويوسف.
ـ سمية، انتبهي.
سرحت في رافع وهي تجري خلفه في دهاليز المستشفى، فلم تنتبه أنه توقف وأنها كانت على وشك أن تصطدم بامرأة أخرى تقف مسندة ظهرها إلى الحائط.
ـ قفي هنا.
التصقت بالمرأة الأخرى متعمدة هذه المرة، ابتسمت نحوها، تبدو هي أيضًا من إحدى القرى مثلها، لكنها حامل. لم تكن واثقة من معنى أن تصبح أمًا، لا زواج يدوم من دون أن يكون هناك أولاد. في القرية يوجد بضع عازبات ملقبات بـ «العوانس».
أبو شفيق، سمعت أنه تزوج أربعًا من النساء دون أن تحمل أي منهن. طلق الثلاثة الأوائل واحدة تلو الأخرى، وقد بقي مع آخرهن دون أولاد حتى توفيت ولم يتزوج من بعدها. شفيق كان اسم أبيه وليس اسم ابن له. هل سيتركها رافع لتلحق بالعازبات، وتعود لخدمة الدار والإخوة وأولادهم ونسائهم؟ التصقت بالمرأة مرة أخرى، ألا يُعدي الحمل؟
– توجد قابلة، قد وافقت أن تراك. فلننتظر قرب تلك الغرفة!
ـ رافع! كم دفعت؟
– لا يوجد دفع، الكشف بالمجان.
ـ ما معنى قابلة؟ أهي طبيبة؟
– لا يا سميّة، هي مثل أم السعد، لكن متعلّمة تعليمًا عاليًا، ومعها رخصة من الحكومة.
دخلت الغرفة وحدها دون رافع. نظرت إليها المرأة البيضاء من خلف نظارتها، خاطبتها بلهجة عامية ركيكة الألفاظ أجنبية المخارج:
– أنت المرأة التي تحاول الإنجاب؟
. همست سمية: نعم.
قامت من خلف مكتبها، امرأة متوسطة العمر والطول والبنية. أشارت إلى سمية أن تدخل خلف الستار وأن تكشف لها نصفها الأعلى. تحركت سمية بتثاقل واختفت خلف حجاب من القماش، فلحقت بها القابلة، ألقت عليها نظرة متفحصة، وعادت إلى مقعدها داعية إياها إلى العودة والجلوس أمامها.
– ما اسمك؟
. سمية.
– اسمعي يا سميّة، أنا قابلة، لذا أرى النساء فقط وهنّ حوامل. لكن أذكر أثناء تعليمي في بريطانيا، أنهم شرحوا لنا حالة تشبه حالتك، وقد شاهدت بعض الصور وهي تشبهك كثيرًا. لا أعرف السبب لها.
ـ أهو مرض؟
ضحكت القابلة:
– لا ليس مرضًا يا سميّة، ولا ذنب لك فيه، لكن للأسف لا حل له عندي. فيك بعض من الرجولة يا سميّة.
ـ ما هذا الكلام؟
– لا تغضبي، أنا لم أقل إلا أن فرص الحمل عندك قليلة وهذا كل الموضوع، فاستمري بالمحاولة، ولا تكثري من الأكل.
ـ وأين هو الأكل؟
– كيف زوجك؟ هل هو طيب معك؟ يبدو كذلك.
ـ رافع أحسن الناس!
لم يعد بإمكانها حبس دموعها فانهالت بصمت وعلى استحياء. فاستطردت القابلة بيضاء البشرة:
– سمية سأخرج لأستشير الطبيب من أجلك، لكني أعرف أن لا حل في يدنا. أما زوجك فلن أقول له شيئًا غير أن تصبرا، فأنت صغيرة.
أي صغيرة؟ هل ستصبر هي وإن صبرت فهل سيصبر هو؟ وإن صبر هو فهل ستصبر أمه؟
كان مشوار يافا مشوار الأمل ومشوار اليأس في آن.
(4)
فهمت أم العبد أن لا بشرى من يافا ولم تعد تتستر في حديثها عن زواج رافع بأخرى.
عاد يومها إلى البيت مبكرًا، لم يجد أمه ولا سمية في ساحة البيت. دخل غرفته ليجد زوجته جالسة على البساط قرب فرش نومهما. حياها وسأل عن أمه، فلم تجب.
– سمية، لماذا لا تردين؟
ـ هل أحضر لك الطعام؟
– أين أمي؟
ـ لا أعرف.
– سمية، تكلمي.
لم تتكلم، بقيت جالسة على الأرض، شاخصة إليه بعيون ميتة. جلس بقربها ومدّ يده محولًا وجهها إليه.
– هل حدث شيء بينكما؟ هل أغضبتِ الحجة؟
ـ رافع، طلقني.
لم تغضب الحجّة، اتفقت مع الحجّة. فقد حملتها الأخيرة كل مآسيها، حملتها عبء الأتراك الذين أخذوا زوجها ولم يعيدوه. حملتها كلّ حزنها صبية شابة وحيدة مع يتيمين. ذكّرتها بالجوع الذي مروا به في زمن مضى كانت سمية وقته في علم الغيب، أخبرتها عن الحرمان الذي مرت به القرية منذ تولاهم الإنجليز. وذكرتها باليهود الذين يتربصون بهم ليأخذوا أرضهم، وبرافع البطل الثائر في الجبال سنين. كيف لا يكون ابن لرافع؟ وكل هؤلاء، كلهم، في انتظاره. رافع شهم، لن يطلقها ولن يتزوج عليها، فما الحل؟ أن تلقي هي سمية نفسها من الجبل وعندها بالتأكيد سينتهي الحرمان وسيزول الخطر. رافع بطل وهي أيضًا، ألم تخبرها القابلة أن فيها شيئًا من الرجال؟ فليكن فعلها فعلهم.
– لماذا يا سمية؟ ماذا قالت لك أمي؟
ـ لم تقل شيئًا، ذهبت إلى بيت العبد. يجب أن يكون لديك أولاد، ولذا طلقني لأرجع إلى بيت أهلي. أنا لا أنفعك.
كيف يخبرها أنه يريدها هي؟ هو لم يقل لها يومًا أنه يحبها، فالرجل لا يقول. هو لم يعرف غيرها، ولكنها طيبة وهو يحب الطيبين، تذكره بأصحابه، أولئك الذين راحوا والذين حكى قصصهم لسمية دون باقي الناس، وحفظتها هي بلهفة وغبطة. هو وحسين وحامد وعبد الله شكلوا مجموعة داخل الجماعة الكبيرة والتصقوا ببعضهم، ما جمعهم هو هدوءهم الشديد وفقرهم الأشد، يجلسون في كل حلقة، ويسمعون ما يروى في حب البلاد والتضحيات فيشربونه ويبقون عطاشى للمزيد. يتحولون رجالًا، والحياة تكتسي معانيَ لم يعرفوها من قبل.
حامد وعبد الله علموه هو وحسين القراءة والكتابة وتغيّرت الدنيا ولم تعد كما كانت، جاء يوم انتُدبوا فيه لعملية حماية توريد أسلحة. وقف الأربعة في المقدّمة ضمن مجموعة من عشرة رجال، يؤمّنون بضعة من الشباب عليهم نقل الأسلحة المخبأة في حفر موزعة تحت أشجار حرش صغير. وما إن بدأ الرجال في كشف السلاح حتى انهال عليهم الرصاص من الغرب، من الجهة التي وقف فيها رافع ورفاقه. لم يطلقوا رصاصة واحدة من بنادقهم، سقط حسين أولًا ومن بعده حامد وعبد الله، تباعًا وبسرعة، وكلهم فوق جسده فحموه، كانوا ستره وترسه فلم يُصَب بأي من الرصاص الذي مرّ فوق أجسادهم أو استقرّ فيها. لكنه أصيب بالدم، اختلط دمهم وخضب جلده وروحه وتغيرت رائحته إلى الأبد. لم يتحرك حتى بعد أن سكنت المعركة، وانسحب رفاقهم تاركين إياه وأصحابه في الحرش. خشي إن تحرّك تحتهم أن يؤذيهم في غفوتهم الثقيلة. فبقي هناك إلى أن حلّ المساء، إذ شعر بجثث رفاقه تسحب من فوقه، فقد عاد الرجال للبحث عنهم، ولم يُصدّقوا أنهم وجدوه حيًّا.
ها هي سميّة تُصرَع من أجله، ويستتر هو خلفها، خشي أن يؤذيها فصمت، هنا أيضًا، ولم يتحرك.
(5)
ـ عجلن المشي يا أخواتي… قد سبقنا الجميع.
أشار رافع لثلاث نساء يهرولن نحوه، إحداهن كبيرة السن والثانية صبية صغيرة والثالثة امرأة تحمل طفلًا يلقي برأسه على كتفها. تثاقل المرأة المسنة والطفل من خطاهن جميعًا. عندما اقتربن منه، أجابته المرأة الكبيرة:
ـ على مهلك يا بني، تعوّقنا ونحن نجهز للأولاد، قلت لهم ألا يأخذوني معهم، ما الذي سيحدث لي؟ سأموت؟ أنا أريد أن أموت في داري.
ـ لا بأس عليك يا خالة، بضعة أيام في الجبل، وتعدن كلّكن إلى البلد.
اجتمع رجال القرية، أمس، في ديوان آل السعودي عند مختار البلد بعد أن وصلت الأخبار عمّا يجري في ضواحي اللد والرملة. اتخذوا قرارًا بأن يُرحّلوا النساء والأطفال والشيوخ إلى قرى كفر جمال وكفر عبوش في الجبل. عاد رافع إلى البيت وأخبر زينب وأمه أن يجهزّن أنفسهن والبنات للرحيل في اليوم التالي عند الفجر. فصرخت زينب:
ـ يا ويلي، أنا نَفَاس، كيف أستطيع قطع الطريق إلى هناك يا رافع؟
ـ لا مفرّ، سأفتّش عن عربة أو دابة تحملك. لا مفرّ. سنوصلكن أنا وبعض الشباب ثم نعود للحراسة في الطابات. لا أحد يعرف ما الذي سيحصل في الأيام القريبة.
نظر رافع إلى أمّه وزوجته وبناته الثلاث، أصغرهن ليلى، عمرها ثلاثة أيام. وأردف:
ـ سأكون معكن… لا تخفن.
ـ آه يا أمي يا رافع. لا تملك من يسند ظهرك في هذه الأيام وحملك كله حمل بنات. ماذا فعل أخوك العبد؟
نظر رافع إلى المرأة الثالثة التي تحمل الطفل الصغير، إنها سميّة، عرفها عندما اقتربت رغم أن طرحتها ورأس الصغير يخفيان بضع وجهها. اختلج قلبه وخفض رأسه. إنها هي وحماتها وإحدى بنات زوجها أبو النصر. الرجل الخمسيني الذي زُوّجت به بعد طلاقهما. رجل له من الأولاد والبنات عشرة بعضهم متزوّج. وقد توفيت عنه امرأته. تزوج سمية بعد شهرين من زفاف رافع وزينب. لم يعلق رافع عندما أخبرته أمه بزواج سميّة واصفةّ إياه بزيجة الستر والخدمة، مادحةً وذامةً في آن. مرت سنون ثلاث، أنجب هو فيها بنات ثلاثًا. لكن من هذا؟
مشي خلف النسوة وقد أسرعن الخطى حتى بان باقي القوم، توقفوا لاستراحة منتصف النهار والطريق. اقترب قليلًا من سميّة حتى تأكد أنها وحدها تسمعه، فسألها بصوت منخفض:
ـ من هذا الولد يا سمية؟
واصلت السير دون الالتفات اليه:
ـ هذا ابني حسين.
توقف عن المشي ساندًا كلتا يديه على طرف البندقية. واصلت سميّة الابتعاد عنه، سمعها تسأل من بعيد بصوت لا يسمعه إلا هو:
-هل سنرجع؟