تجربة السلطان عبد الحميد: الغناء على موسيقى جنائزية
يحفل تاريخنا العربي والإسلامي بالكثير من الإنجازات الإعجازية، كما تكثر فيه أيضًا الانكسارات والانهيارات. وبينما تتعدد النظريات التي تفسر قيام الدول والحضارات، وصعودها أو انحدارها، فإننا نجد أيضًا تعددًا في الكتب التي ترسم استراتيجيات الغرب القوي تجاه بقية العالم الضعيف، سواء تحريضًا أو تحليلاً واستشرافًا.
يمكن النظر لنماذج: كصمويل هنتنجتون في كتابه «صدام الحضارات»، وفوكوياما في «نهاية التاريخ»، وأخيرًا برنارد لويس الزعيم والمخطط الأكاديمي الأكثر تأثيرًا في مراكز التفكير التي تقود السياسة الأمريكية وترسم مستقبلها، أو بالأحرى مستقبلنا نحن.
هذا الميراث الثقيل من الهزائم، والواقع المرير من العمالة، والمستقبل الضبابي جراء تكاثف سحب المؤامرات المملوءة بالنفعية والبراجماتية والميراث العقائدي الحاقد الذي أشعله رجال الدين والبابا في تأليبهم لغجر أوروبا، بل وأمرائها، سعيًا وراء كنوز الشرق وقبر الرب ومواقع قصص الإنجيل؛ كل ذلك الضغط الساحق قد يجعل المرء منا مستسلمًا لمصيره المجهول، يائسًا من النهوض والتغيير، أو حتى المحاولة.
لكن ثمة ومضات إعجازية في تاريخنا القريب والبعيد تؤكد إمكانية استمطار الأمل من سحب اليأس، واستيلاد النهار من رحم الليل، واختلاق الأرقام بأيدي الأصفار، ونسج الانتصارات بخيوط الانكسارات.
ثِقَل الموروث
إنها الروح المعنوية التي يبثها الإسلام في روح أتباعه، فإذا بها تنبعث من جديد أمة ذات إمكانات هائلة وقوى هادرة.
وفي التاريخ القريب نموذج مماثل، ورغم أن الظروف المحيطة به كانت أشد صعوبة، والعوامل المساعدة أشد ضآلة، لكنه تمكن من جمع السهام المصوبة نحوه ليعيد تسديدها إلى صدور عدوه، ولم يجد من الإمكانيات إلا خيوط المؤامرة ليعيد نسجها من جديد في راية يلوح بها للمسلمين، محذرًا لهم من خطر الاضمحلال، وجامعًا لهم تحت مظلة واحدة لم تؤثر فيها عوامل التمزيق، كفكرة عابرة للزمان والمكان (الجامعة الإسلامية).
كانت التركة التي آلت إلى السلطان عبد الحميد الثاني (1876 – 1909م) ثقيلة كما وصفها المؤرخون:
يصف هذه الحالة السفير الألماني في الآستانة (إم. دو. بلوويتش) قائلًا:
وكانت الموسيقى الجنائزية الأوروبية تعزف منذ زمن استعدادًا لمراسم الوفاة الرسمية للخلافة العثمانية، كان العزف بطيئًا، لكنه كان بوتيرة ثابتة ومستمرة. وفي هذه المرة، انضم إليهم المايسترو الروسي لتتوافق نغمات الجميع في سيمفونية النهاية.
وهنا تبرز عبقرية السلطان عبد الحميد، وبالأحرى تبرز لنا استراتيجية مُلهِمة في تحويل عناصر الضعف إلى عناصر قوة.
استنهاض مؤسسات الخلافة
توزعت استراتيجية السلطان عبد الحميد الثاني في مسار سعيه لنهضة الخلافة العثمانية مجددًا على عدة جوانب؛ ففي الجانب الدبلوماسي والعلاقات الدولية كان عبد الحميد دبلوماسيًا عظيمًا، كان يعرف جيدًا كيف يمكنه الاستفادة إلى أقصى حد من التنافس الموجود بين الدول الكبرى الراغبة في التوسع والاستعمار، وكان هدفه إبعاد بلاده عن خطر الحرب عبر المحافظة على علاقاته بالدول الكبرى.
وفي الجانب الإداري فإن عبد الحميد مُجِدٌّ غاية الجد؛ إذ عمل بحيوية وطاقة تفوق جميع من يعمل معه من الوزراء، وهو سياسي من الدرجة الممتازة، فقد أدار البلاد العثمانية المترامية الأطراف إدارة ممتازة، رغم أنها كانت مشرفة على الزوال، وأخذ في إصلاحها وترقيتها.
وفي الجانب الثقافي كان عبد الحميد مقتنعًا بأن إعطاء الحرية للأمة دون سابق إعداد وتربية من شأنه الإضرار بالأمة، لذلك حث الخطا وشمر عن ساعديه لإقامة المؤسسات الثقافية في البلاد. بينما في الجانب السياسي كان أكثر دهاءً بين قادة العالم في العصر الحديث، إذ عرف عنه حينها أنه لو وُزِنَ مع أربعة من نوابغ رجال العصر لرَجَحَهُم ذكاءً ودهاءً وسياسة، وأعظم ما يدهش في ذلك هو ما أعده من خفي الوسائل، وأقصى العوامل، كي لا تتفق أوروبا على عمل يمثل خطرًا على الممالك العثمانية.
أما الروح المعنوية التي اعتبرناها رمزًا على الإحياء الإسلامي لميراث الرسالة وحقائقها ومعانيها، فقد جسدها السلطان عبد الحميد في مشروعه الأكبر الموسوم بـ «الجامعة الإسلامية»، وكان هو أجدر سلاطين العهود العثمانية الأخيرة بترسيخ هذا المشروع، وتعظيم الاستفادة منه إلى أقصى درجة.
لم يكن هدف السلطان عبد الحميد إقامة رابطة سياسية تضم كل بلاد المسلمين في وحدة سياسية واحدة، وإنما أراد جمع شعور المسلمين في حركة واحدة، تؤكد وحدتهم وتقويهم في مواجهة أعدائهم. وفطن المؤرخون المعاصرون لهدف السلطان، معترفين بقوة هذا السلاح الخطير في مواجهة المؤامرة الأوروبية والغربية، وفي هذا الإطار يقول أرنولد توينبي:
أثيرت مسألة «الخلافة العربية» البديلة للخلافة التركية، وأثار عدد من المستشرقين شرط «القرشية» في الإمامة، وكان على رأس هؤلاء ولفرد سكاون بلنت في كتابه «مستقبل الإسلام»، ثم مواطنه مارك سايكس أحد مهندسي الحدود العربية المعاصرة في اتفاقية سايكس/بيكو، وقبلها في كتابه «الميراث الأخير للخليفة».
جدير بالذكر أن مسلمي الهند قاموا بثورة عارمة ضد الاحتلال الإنجليزي، ولم تتمكن بريطانيا من إخمادها إلا باللجوء إلى السلطان العثماني عبد المجيد، وبالفعل أخمدت الثورة نزولاً على طاعة خليفة المسلمين. سلاح الخلافة هذا، كان هو الأقوى في يد السلطان؛ بل كاد يحول الاحتلال إلى وبال على التاج البريطاني.
إنجازات عبد الحميد
كان مشروع «سكة حديد الحجاز» الذي تم تمويله وتنفيذه بأموال وخبرات عثمانية إسلامية – في معظمه – ذا تأثير كبير في تجاوز لعبة القومية، وميل الرأي العام العربي بشدة إلى السلطان؛ بالإضافة إلى مزاياه العسكرية، والتجارية، والوحدوية الأخرى. ولعل أكبر دليل على أهمية ذلك المشروع وخطره على المخططات الاستعمارية، أنه كان الهدف الأول لما يسمى بـ«الثورة العربية الكبرى» التي قادها الشريف حسين، بتخطيط الرجل اللغز: لورانس العرب.
كما أن تكوين «فرق الخيالة الحميدية» من القبائل الكردية قلب الأحوال رأسًا على عقب في المناطق الحدودية والجبلية في أنحاء الأناضول، حيث انخرط أشقياء الأكراد والجبال في فرق عسكرية استخدمها السلطان لحفظ النظام وتأديب المتمردين في المناطق البعيدة عن سيطرة الحكومة المركزية.
وانتشر النشاط الثقافي والتعليمي والدعوي للدولة العثمانية – باعتبارها دولة الخلافة – في شتى أرجاء العالم الإسلامي، وتم افتتاح المراكز الإسلامية، والمساجد، والمكتبات، والمدارس.
كما شهدت ولايات الدولة نهضة تعليمية وثقافية بمثابة طفرة لم تشهدها الدولة منذ عهد محمد الفاتح وسليمان القانوني، كما تؤكد الإحصائيات. ولم تكن النهضة الثقافية والتعليمية لتتم دون أن يضبط تدفقها الإطار الإسلامي للفكر العثماني والجامعة الإسلامية، في مواجهة موجة التغريب التي اتخذت سبيلها الرسمي للدولة منذ إعلان «التنظيمات» 1839م، ثم فرمان «الإصلاحات» 1856م، وتحول التغريب من طور الفكر إلى طور التقنين والتنفيذ ونظام الحكم.
كان سؤال: كيف ضبط السلطان منهج التلقي عن الغرب ليجعله مقتصرًا على النهضة العلمية والتقنية، دون الانسياق وراء الفكر الغربي سلوكًا وعقيدة؟
لم يكن لذلك كله أن يتم دون موقف مالي قوي، وخزانة منتعشة، واستعادة الحالة المادية الثابتة للدولة العثمانية، إذ كان ذلك من أقوى إنجازات عبد الحميد الثاني؛ إذ وجه عناية للنهوض بالاقتصاد، كما قام بتشكيل عدد من الإدارات لضبط مالية الدولة ومصروفاتها، مثل «إدارة الرسوم السنية» ومرسوم «قرار محرم»، وأخيرًا «إدارة الديون العمومية»، حيث تمكن في فترة وجيزة نسبيًا من سداد أكثر من 90% من ديون الدولة.
كانت الدولة ما تزال تعاني من مشكلة عرفت في أدبيات التاريخ العثماني باسم «قحط الرجال»، حيث افتقدت الدولة إلى المسئولين ذوي الخبرة والكفاءة -بل والإخلاص- للدولة وفكرتها الإسلامية الخالصة، مما كان دافعًا قويًا للسلطان عبد الحميد في الاعتماد بشكل كبير على تقارير جهاز مخابراته، وجمع خيوط السياسة والإدارة في يديه، وجعل نظام الحكومة أكثر مركزية، ولقي جراء ذلك اتهامات متوالية بالاستبداد.
اعتبرت النهضة التعليمية واحدة من أهم الوسائل المتخذة للقضاء على قحط الرجال، وكان من أشهر هذه المدارس «مدرسة العشائر» في العاصمة، والتي جمع فيها السلطان أبناء شيوخ القبائل العربية لإكسابهم العلوم والثقافة اللازمة لممارسة دورهم القيادي في مناطقهم.
من الناحية العسكرية؛ فبعد الهزيمة الساحقة التي منيت بها الدولة العثمانية في مطلع العهد الحميدي جراء تحكم رجال الحكم المشروطي وأتباع مدحت باشا؛ فقد نحاهم السلطان عن مناصبهم، وأدار بنفسه الحرب العثمانية/ اليونانية، وحقق انتصارًا عسكريًا باهرًا، بل انتصارًا دبلوماسيًا أشد مهارة بتحييد موقف القوى الأوروبية، ثم اعتمد في تحديث الجيش تسليحًا وتدريبًا على ألمانيا، التي رآها الدولة الأوروبية الوحيدة التي ليس لها أطماع استعمارية في الممالك العثمانية.
وأخيرًا فإن تعامل السلطان عبد الحميد الثاني الراقي والمتوازن مع المعارضين لحكمه وسياسته، مثَّل أمرًا سابق لزمانه، ونموذج يحتذى في دعم المعارضة مادياً ومعنويًا، والاحتفاظ بموقفها الوطني – سواء في الداخل أو في الخارج – بعيدًا عن الارتماء في أحضان العمالة والدول المعادية.
لقد كانت التجربة الإصلاحية والوحدوية والنهضوية التي خطط لها وقادها السلطان عبد الحميد الثاني تجربة ثرية وفريدة في ظل ظروف صعبة بشكل استثنائي، وهو ما جعلها تجربة ملهمة ونموذجًا يحتذى به على كافة الأصعدة؛ لاسيما في مواجهة عوامل التحدي، واتخاذ التجربة الحضارية الغربية المعاصرة مثيرًا وحافزًا للصعود والإحياء، وانبعاث الحضارة الإسلامية المعاصرة كقوى مرهوبة الجانب على مستوى الصراع السياسي والعسكري، أو على مستوى التحدي العلمي والفكري والحضاري.