الصليحيون في مكة: شيعة اليمن يكسون الكعبة بالأبيض
تزامن ضعف الدولة الفاطمية في مصر مع ظهور فرع جديد للشيعة في اليمن، استطاع أتباعه إقامة الدولة «الصليحية»، نسبة إلى علي بن محمد الصليحي أحد دعاة الدعوة الإسماعيلية، والذي وصل نفوذه إلى بلاد الحجاز.
تذكر فاطمة جان أحمدي في دراستها «الصليحيون وآثارهم المعمارية في اليمن»، أن اليمن انقادت للدولة الإسلامية منذ بدايتها في عصر النبوة، وعصر الخلفاء الراشدين (11- 40هـ) حتى العصر العباسي الأول، حيث باتت الدويلات المستقلة تحكم اليمن، ومنها الدولة الزيادية والدولة اليعُفرية والدولة الإسماعيلية الأولى.
وفي النصف الثاني من القرن الثالث الهجري خرجت بلاد اليمن من حكم العباسيين بسبب نجاح الدعوة الإسماعيلية التي تنسب إلى إسماعيل بن جعفر بن موسى الكاظم، وهي الدعوة التي بدأت منذ عام 266هـ، ويرجع الفضل في نجاحها إلى الداعييْن أبو القاسم حسن بن فرج بن حوشب المعروف بمنصور اليمن، وعلي بن فضل.
وبعد موت علي بن فضل وابن حوشب انتهت الدولة الإسماعيلية الأولى، وخفت ضوء الدعوة في اليمن مع وفاتهما وتحولت من العلانية والقوة إلى العمل السري للحفاظ على ما تبقى من أمر الحركة الإسماعيلية.
وخلال هذه الفترة تعاقب الدعاة الإسماعيليون على شؤون الدعوة حتى انتقلت إلى رجل يسمى سليمان بن عبد الله الزواحي، فدعا إلى الخلفاء الفاطميين الحاكم بأمر الله والظاهر والمستنصر والمستعلي، وكان كثير المال والجاه، فلما احتضر استخلف علي بن محمد الصليحي مؤسس الدولة الإسماعيلية الثانية في اليمن، وهي الدولة التي عُرِفت بـ«الصليحية».
ولم يزل شأن الصليحي يظهر شيئًا فشيئًا حتى أعلن الثورة في جبل مسار عام 429هـ، ووصل الشيعة من أنحاء اليمن إليه، وجمعوا له الأموال الجزيلة، وأظهر الدعاء إلى المستنصر بالله الخليفة الفاطمي في مصر، ثم سار إلى صنعاء عام 455هـ فملكها وخضع اليمن لحكمه وسيطرته.
وتمكن الصليحي في فترة قصيرة من القضاء على كل من الدولة النجاحية في زبيد غرب اليمن، والزيدية في شمال البلاد، مسيطرًا بذلك على معظم اليمن.
السيطرة على مكة
وبحسب أيمن فؤاد سيد في كتابه «تاريخ المذاهب الدينية في بلاد اليمن حتى نهاية القرن السادس الهجري»، لم يبقَ خارجًا على الصليحي في ذلك الوقت إلا مكة المشرفة، التي كان بها الأشراف الحسنيون – دوكانوا على طاعة الإمام المستنصر بالله الفاطمي– وكان أميرها في ذلك الوقت هو الشريف شُكر بن أبي الفتوح الحسن بن جعفر الحسني، وكان متحاملاً على الصليحي.
وكتب الصليحي إلى الخليفة المستنصر بالله يستأذنه في إزالة الشريف عن مكة ليكون أمرها إليه، فنهاه المستنصر عن سفك الدماء بالحرم وأمره بالصبر. وفي نفس الوقت كتب المستنصر إلى صاحب مكة يأمره بالدخول في طاعة الصليحي، وأن يلزم أوامره وزواجره، فاستجاب شريف مكة لقول المنتصر وجرت الأمور بينه وبين الصليحي على الوجه الذي أراده المستنصر.
معتقدات باطنية
بعد القضاء على الدولة الفاطمية في مصر عام 567هـ، أمر صلاح الدين الأيوبي أخاه توران شاه عام 569هـ بقيادة حملة عسكرية كبيرة للقضاء على هذه الدولة الصليحية عام 569هـ. وخلال تاريخ الصليحيين ثار جدل كبير حول أفكارهم ومعتقداتهم، فهناك من يرى أنها انحرفت عن الدين الإسلامي من خلال بعض الممارسات والطقوس، في حين يرى آخرون أن ما تردد بهذا الشأن هدف إلى النيل من الدولة وتشويهها.
الفريق الأول أشار إليه أحمد محمد أحمد جلي في كتابه «دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين: الخوارج والشيعة»، إذ ذكر أن الدولة الصليحية نهجت نهج الحركات الباطنية من قبل، مستندًا في ذلك إلى ما تناوله محمد بن مالك الحمادي أحد علماء السنة في اليمن في المائة الخامسة للهجرة، والذي كان معاصرًا لازدهار هذه الدولة، وكشف في كتابه «كشف أسرار الباطنية» عن انحراف الصليحيين وتعاليمهم الباطنية، بعدما انخرط في سلك أتباع هذه الدولة، وصوّر من الداخل حقيقة أمرهم.
يقول الحمادي عن الولي الصليحي الذي كان معاصرًا له، إن له نوابًا يسميهم الدعاة المأذنوين، وآخرين يلقبون بالمكلبين، تشبيهًا لهم بكلاب الصيد، لأنهم ينصبون للناس الحبائل ويخدعون من يقع في حبائلهم بروايات عن النبي محرفة وأقوال مزخرفة، ويتلون عليهم القرآن على غير وجهه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، وينهجون النهج الباطني القائم على نظرية الظاهر والباطن. فالزكاة مفروضة في كل عام مرة، وكذلك الصلاة من صلاها مرة في السنة فقد أقام الصلاة بغير تكرار.
ويبين الصليحيون لمن يريد اتباعهم كذلك أن لكل شيء ظاهرا وباطنا، وفقا لقوله تعالى «وذروا ظاهر الإثم وباطنه»، وقوله «قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن». والظاهر ما تساوى به الناس وعرفه الخاص والعام، وأما الباطن فقصر علم الناس عن العلم فلا يعرفه إلا القليل.
الصلاة والزكاة والصوم
والصلاة والزكاة سبعة أحرف دليل على اسمي «محمد» و«علي»، لأنهما سبعة أحرف، فالمعني بالصلاة والزكاة ولاية محمد وعلي، فمن تولاهما فقد أقام الصلاة وآتى الزكاة، وبهذا يوهمون من لا يعرف لزوم الشريعة والقرآن وسنن النبي محمد، فيقبل كثير من الناس بذلك ويقع في مذهبهم، لأنه مذهب الراحة والإباحة، والذي يريحهم مما تلزمهم الشرائع من طاعة الله، ويبيح لهم ما حظر عليهم من محارم الله، بحسب الحمادي.
ويذكر الحمادي، أنه إذا قبل المدعو هذا التفسير الباطني طُلب منه أن يدفع قربانًا يتقرب به إلى الإمام، فيحط عنه الصلاة وغيرها من الفرائض التي تعتبر في رأيهم إصرًا وإغلالاً. ثم يرفع عنه تحريم الخمر والميسر، باعتبارهما رمزين لأبي بكر بن الصديق وعمر بن الخطاب لمخالفتهما لعلي ولظلمهما له وأخذهما الخلافة منه.
أما الصوم فيفسره الداعي بأنه كتمان أسرار الدعوة، ويفسر بناء على هذا الآية «فمن شهد منكم الشهر فليصمه» بأنها تعني كتمان الأئمة في وقت الاستتار خوفًا من الظلمة. ويجدون مصداقًا لقولهم قول السيدة مريم الوارد في قوله تعالى «إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيا». فلو كان الله عنى بالصيام ترك الطعام، لقال فلن أُطعم اليوم شيئًا، فالصيام إذن هو الصموت عن الكلام.
ويفسر الباطنية الصليحيون الطهارة بأنها طهارة القلب، ويقولون «إن المؤمن طاهر بذاته، والكافر نجس لا يطهره الماء ولا غيره. وأن الجنابة هي موالاة أضداد الأنبياء والأئمة وعدم معرفة العلم الباطن». لذا يفسرون معنى «فإن كنتم جُنبًا فاطهروا»، بأنها تعني «فإن كنتم جهلة بالعلم الباطن فتعلموا»، والعلم الباطن بالنسبة لهم هو علم حياة الأرواح، وهو كالماء الذي هو حياة الأبدان. ويستندون في ذلك إلى تفسيرهم لقول الله تعالى «وجعلنا من الماء كل شيء حي»، وقوله «فلينظر الإنسان مم خلق. خلق من ماء دافق»، وتسمية الله للماء بهذا دل على طهارة الإنسان، وينتهي الأمر بأن يباح للإنسان ترك الغسل من الجنابة.
جنة الدنيا وجنة الآخرة
وبحسب الحمادي في كتابه، يعتقد الصليحيون أن دخول الجنة في الدنيا شرط لدخولها في الآخر، ويستندون في ذلك إلى قوله تعالى «وإن لنا في الآخرة والأولى» وقوله «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة»، والزينة هنا – أي لدى الصليحيين – ما خفي عن الناس من أسرار النساء التي لا يطلع عليها إلا المخصوصون بذلك، وهي مستورة غير مشهورة، فمن لم ينل الجنة في الدنيا لم ينلها في الآخرة.
وبحسب الحمداي «حتى إذا جاء الليل ودارت الكؤوس وحميت الرؤوس، وطابت النفوس، أحضر الجميع حريمهم، فيدخلن عليهم من كل باب وأطفأوا السرج والشموع وأخذ كل واحد ما وقع عليه في يده».
ويرى جلي في كتابه، أنه رغم تشكيك البعض في صحة تفاصيل ما ورد في هذه الرواية، فإنها تمثل جانبًا من حقيقة الدعوة الباطنية، والتي تتكرر في عدة دوائر باطنية، وذكرها معظم من أرخوا لهذه الجماعات والتيار الذي يمثلونه.
التمسك بالكتاب والسنة
ويرفض حسين بن فيض الله الهمداني كل ما أثير بشأن انحراف الصليحيين عن الإسلام، فيذكر في كتابه «الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن من سنة 268 إلى سنة 626هـ»، أن الصليحي ظهر على صفحة التاريخ داعيًا ومتمسكًا بأهداف دينية، حريصًا على ما جاء في الكتاب والسنة، غير مكره لأحد في الدين، فلم يرخص لأحد مطلقًا التهاون بشيء من الفرائض، ولكنه مع ذلك اُتهم كما اُتهم الفاطميون من قبله بالكفر والخروج عن الدين الإسلامي، وكذلك أنهم كانوا يدينون بالإباحة وتعطيل الشرائع.
ويستند الهمداني في رأيه إلى أن الصليحي قام بأعمال جليلة في مكة عندما حج سنة 454هـ، مستدلًا على ذلك بما ورد في كتاب «تحفة الكرام في أخبار البلد الحرام» لتقي الدين بن محمد الفاسي، والذي ذكر «فطابت قلوب الناس، ورخصت الأسعار، وأمّن الحجاج أمنًا لم يعرفوا له مثيلًا من قبل، حتى أنهم كانوا يعتمرون ليلًا ونهارًا وأموالهم محفوظة، ورحالهم محروسة».
وذكر أن ما قام به الصليحي في الأراضي المقدسة كسبه ثقة كثير من أهالي البلاد الإسلامية، وما جلبه من الأقوات إليها جعل الألسنة تلهج بالدعاء له في كل مكان.
وبحسب الهمداني، كان الصليحيون يتخذون الدين الإسلامي الحنيف وولاءهم لأئمتهم الفاطميين بمصر وسيلة لنشر نفوذهم وتوطيد حكمهم في البلاد التي أخضعوها لسلطانهم، كما كان دأب الحكومات والسلاطين في العالم الإسلامي في ذلك العهد، في تعلقهم وانتسابهم لخلافة بني العباس لذلك الغرض.
الأكثر من ذلك، أن الصليحي كان يتسامح مع علماء السنة، وسمح لبعض فقهائهم بإقامة شعائرهم ونشر تعاليمهم في المساجد، فعندما دخل أسعد بن شهاب زبيد سنة 456 واليًا عليها من قبل الصليحي «أحسن السيرة في الرعية، وأذن لأهل السنة بإظهار مذهبهم». حسبما ذكر وجيه الدين عبد الرحمن الشيباني في كتابه «قرة العيون في أخبار اليمن الميمون».
الرأي نفسه يذهب إليه سعيد رشيد زميزم في كتابه «دول الشيعة عبر التاريخ»، فيذكر أن الصليحي كان محبًا للعلم والعلماء، فقربهم منه وأنعم عليهم بالهدايا والهبات، كما أشرف على تشييد العشرات من المساجد الفاخرة التي كانت تتصف ببداعة البناء.
وبحسب زميزم، اهتم الصليحي بالبيت الحرام اهتمامًا واسعًا، فخصص أموالًا طائلة لتعميره وإكساء الكعبة المشرفة بالديباج الأبيض، كما جلب الأقوات إلى الحجاز، وأمر بتأمين طرق الحج من خلال تيسيره لمجاميع من عسكره لحماية قوافل الحجاج من اللصوص وقطاع الطرق.