صنعوا الملوك وقادوا الثورات: أقطاب الصوفية في زمن المماليك
ظهرت الدولة المملوكية في مصر في أواسط القرن السابع الهجري، وتمكنت من حكم مساحات واسعة من الأقاليم والأراضي على مدار ما يقترب من القرون الثلاثة. رغم التفوق العسكري الكبير للمماليك فإن المصريين عانوا كثيراً من بطشهم ونهمهم الدائم لتحصيل الأموال، الأمر الذي عبر عنه الدكتور البيومي إسماعيل في كتابه «النظم المالية في مصر والشام زمن سلاطين المماليك» بقوله: «الضريبة في عهد المماليك، امتدت إلى أمور لم تكن موجودة قبلهم وشملت كل شيء إلا الهواء الذي أخلي سبيله وحده وبقي حراً».
في ظل تلك الظروف العصيبة، بحث المصريون عمن يساندهم قبالة تلك القوى الغاشمة الظالمة، فلم يجدوا سوى شيوخ الصوفية الكبار، أولئك الذين تمتعوا بمكانة مهمة على المستويين الديني والاجتماعي، وصاروا–مع الوقت- مراكز قوى ارتمى في أحضانها المساكين والمظلومون من العامة والدهماء.
من هنا، لم يكن من الغريب أن نجد المصادر التاريخية– لا سيما تلك التي تشبعت بالروح الصوفية- وقد أسهبت في الحديث عن بطولات الأولياء الصوفيين في ميادين السياسة والحكم، فذكرت الكثير من القصص عن معارضتهم لسلاطين عصرهم، وهي القصص التي تتباين في مدى صدقها وموثوقيتها، ولا ريب أن الأغلبية الغالبة منها، قد تشكل في المخيال الشعبي الجمعي الذي ظهر مع اشتداد القبضة المملوكية على السلطة.
من العز إلى ابن عنان: الولي يفرض نفسه على السلطة
إذا ما عملنا على رصد بدايات العلاقة الجدلية القلقة بين سلاطين المماليك من جهة وشيوخ الصوفية من جهة أخرى، فإنه يمكن الادعاء بأن الفقيه الشافعي الشهير عز الدين بن عبد السلام المتوفى 660هـ، والذي اشتهر بلقب سلطان العلماء، كان أول شيوخ الصوفية الذين تمكنوا من لعب دورٍ مهمٍ على الساحة السياسية المملوكية، وقد ظهر هذا الدور في مواقف متعددة، أهمها على الإطلاق كان ذلك الذي تزامن مع اندلاع الحرب المملوكية– المغولية في عين جالوت في 658هـ، عندما اصطدم بأمراء المماليك وأجبرهم على دفع المبالغ المالية الطائلة لبيت المال، لتحرير أنفسهم من الرق، وهي الأموال التي تم الاستعانة بها فيما بعد لتجهيز الجيش للقتال.
بمجرد وصول السلطان المملوكي الظاهر ركن الدين بيبرس إلى كرسي السلطة، عرف الأهمية الكبرى التي يحتلها العز في قلوب العامة، وأيقن من قدرته الهائلة على تحريك جموع الشعب، ولهذا فقد كان «يُعظِّم الشيخ العز ويحترمه، ويعرف مقداره، ويقف عند أقواله وفتاويه»، بحسب ما يذكر تاج الدين السبكي المتوفى 771هـ في كتابه طبقات الشافعية الكبرى، كما أنه كان– أي بيبرس- لا يقدر على إظهار مخالفته، وذلك كما يحدثنا جلال الدين السيوطي المتوفى 911هـ في كتابه حسن المحاضرة «كان بيبرس بمصر منقمعاً تحت كلمة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، لا يستطيع أن يخرج عن أمره، حتى إنه قال لما مات الشيخ: ما استقر ملكي إلا الآن».
وإذا كان العز بن عبد السلام هو الشيخ الذي حجَّم من سطوة بيبرس في مصر، فإن بلاد الشام قد عرفت الأمر ذاته من خلال واحد من أشهر علمائها، ألا وهو الإمام يحيى بن شرف النووي المتوفى 676هـ، وهو الذي عارض قرار بيبرس بجمع المكوس الإضافية من الرعية بحجة التجهز لقتال المغول، وقد قيل إن الصدام بين الرجلين قد وصل إلى حد نفي النووي من دمشق كلها، ولم يعدل بيبرس عن قراره وقتها إلا بعد أن راجعه العديد من الأعيان والعلماء والفقهاء، وقد اشتهرت تلك الواقعة في كثير من المصادر التاريخية، حتى وصف النووي في بعضها بأنه «كان يواجه الملوك والظلمة بالإنكار، ويكتب إليهم ويخوفهم بالله تعالى».
ثوار الأقاليم ومصدر للسلطة
يمكن رصد العديد من التأثيرات المُتخيلة التي نسبتها المدونات الشعبية الصوفية الصبغة لشيوخ الصوفية الكبار فيما يخص علاقتهم بالسلطة المملوكية الحاكمة، ويمكن أن نرصد ثلاثة تجليات لتلك التأثيرات المُتخيلة.
أول تلك التجليات، كان ارتباط الأولياء وشيوخ المتصوفة بالمدن والأقاليم البعيدة عن القاهرة، ويمكن أن نفهم تلك الظاهرة في ضوء تطور الأحداث السياسية، لا سيما تصاعد حركة الاحتجاجات والمعارضة في الأطراف البعيدة عن العاصمة، إذ كان تحول المعارضة والاحتجاجات إلى أشكال عنيفة أكثر حدوثاً في مدن الأقاليم، البعيدة عن سيطرة الحكومة المركزية، وذلك بحسب ما تذكر الدكتورة أمينة البنداري في كتابها «عوام وسلاطين».
المصريون عبّروا عن احتجاجهم واعتراضهم على السياسات المملوكية الجائرة من خلال تعظيم دور الأولياء وشيوخ المتصوفة المقيمين في الأقاليم والريف، ومن خلال السير الشعبية لهؤلاء الأولياء، نجح المصريون في تمرير الإشارات المؤكدة على أهمية أقاليمهم، ليظهروها بمظهر المدن المنافسة للعاصمة المملوكية، والتي لا تقل عنها مقاماً ومكانة.
هذا الملمح نلمسه في كثير من الروايات الصوفية الشعبية، ومن ذلك النبوءة المشهورة التي تحدثت عن الهاتف الذي سمعه أحمد البدوي عندما كان في مكة، وحدا به للانتقال إلى مصر، فبحسب ما ورد في الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني المتوفى 973هـ «رأى– أي أحمد البدوي- في منامه ثلاث مرات: قائلاً يقول له، قم واطلب مطلع الشمس، فإذا وصلت إلى مطلع الشمس فاطلب مغرب الشمس، وسر إلى طنطدتا– مدينة طنطا- فإن بها مقامك أيها الفتى»، وفي موضع آخر من الكتاب وردت النبوءة بصيغة مختلفة، وهي «يا أحمد سر إلى طنطدتا، فإنك تقيم بها وتربي بها رجالاً وأبطالاً».
الأمر نفسه نلاحظه في السيرة الشعبية للصوفي الشهير، القطب الرابع إبراهيم الدسوقي، والذي عاش في مدينة دسوق الواقعة على فرع رشيد. بحسب الكثير من المصادر الصوفية، فإن القطب الرابع قد رفع راية المعارضة ضد الحكم المملوكي، وجاهر برفضه لسياسات السلطان المملوكي الأشرف خليل، الأمر الذي عرضه لنقمة البلاط المملوكي، وللكثير من المؤامرات التي دبّرها له الوزراء والأمراء، والتي انتهت جميعاً بالفشل، واضطر الأشرف خليل –في نهاية المطاف- أن يأتي بنفسه إلى دسوق ليتوب بين يدي أبي العينين –الدسوقي- ويمثل بين يديه، طالباً منه الصفح والمغفرة.
أما التجلي الثاني لتلك التأثيرات المُتخيلة، فنلاحظه في عمل المِخيال الشعبي على إبراز تفوق شيوخ الصوفية على معاصريهم من السلاطين والأمراء، وإظهار هؤلاء السلاطين الذين حكموا مصر لما يقرب من الثلاثة قرون في صورة التابعين الخاضعين للأولياء الذين تحيط بهم هالات الهيبة والإجلال والتقديس. على سبيل المثال، اهتمت المصادر الصوفية بذكر القصص التي تثبت الهيمنة الصوفية المطلقة على السلاطين، إذ ورد في طبقات الشعراني على سبيل المثال، أن «الملك الظاهر بيبرس، أبو الفتوحات، كان يعتقد في سيدي أحمد البدوي، اعتقاداً عظيماً، وكان ينزل لزيارته، ولما قدم من العراق، خرج هو وعسكره من مصر، فتلقوه وأكرموه غاية الإكرام»، وذلك رغم عدم توافر شواهد تاريخية قوية من شأنها التأكيد على صحة تلك الرواية.
سيطرة الصوفية، ظهرت أيضاً في قدرتهم الهائلة على التأثير على عقائد السلاطين وأفكارهم، فقد قيل إن الأمير تمربغا المتوفى 879هـ كان يحب ويقدر مشايخ الصوفية، حتى تأثر بمعتقد أهل الاتحاد من المتصوفة، فكان يقول «وماذا على الإنسان إذا قال أنا الله»، وذلك بحسب ما يذكر الدكتور أحمد صبحي منصور في كتابه «العقائد الدينية في مصر المملوكية»، كما ظهرت تلك السيطرة في ممارسة بعض الأفعال المنكرة، التي لم يألفها العامة على الحكام، ومن ذلك أن السلطان الظاهر سيف الدين برقوق كان يعتقد في الصوفية والمجاذيب، لدرجة أن أحد المجاذيب- ويدعى الزهوري- كان قد اعتاد أن يبصق في وجه السلطان، وذلك بحسب ما يذكر ابن حجر العسقلاني المتوفى 852هـ في كتابه «إنباء الغمر بأبناء العمر».
أما التجلي الثالث، فنستطيع ملاحظته في حرص المدونات الصوفية على التأكيد على الدور الكبير الذي لعبه شيوخ الصوفية في نقل السلطة الزمنية للسلاطين المماليك، الأمر الذي عكس تنامي الإحساس الشعبي الجمعي بالظلم والقهر من جهة، وعبر عن وجهة نظر المصريين في كونهم مصدر السلطة الحقيقية في البلاد من جهة أخرى. هذا الملمح يمكن أن نلاحظه بوضوح في سياق دراسة السير الشعبية الخاصة بكثير من سلاطين المماليك، ونذكر منهم هنا على سبيل المثال، كل من السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس، المؤسس الحقيقي للدولة المملوكية، والسلطان طومان باي، آخر السلاطين المماليك.
الحضور الصوفي الطاغي في سيرة الظاهر بيبرس يظهر بأشكال مختلفة ومتعددة، على سبيل المثال، فيما يخص الإرهاصات المبكرة التي توقعت وصول بيبرس إلى السلطة، تذكر بعض الروايات التي أوردها المناوي في كتابه الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية، أن الشيخ الصوفي خضر بن أبي بكر بن موسى المهراني العدوي الكردي، تنبأ بوصول بيبرس للسلطة، وقال لما رآه في مسجد دمشق للمرة الأولى «هذا يصير سلطاناً».
وفي السياق نفسه، تُختتم السيرة الشعبية للظاهر بيبرس، بنهاية مؤلمة نوعاً ما، ذلك أن بيبرس لما أراد أن يفرض بعض الضرائب الإضافية على الرعية، ليجهز بها حملته على المغول، فإنه استفتى الإمام محيي الدين النووي، ولكن الأخير يمنعه من ذلك ويرفض أن يمنحه الفتوى، ويطالبه بأن يأخذ جميع كماليات السلطان والأمراء قبل أن يمد يده إلى أموال الرعية، فيغضب بيبرس عليه، ثم يرى في منامه الولي الصوفي نجم الدين أيوب يحدثه قائلاً «ابنِ لك بيتًا تأوي إليه من الفانية إلى الباقية»، فيستيقظ بيبرس من نومه منزعجاً، ويعرف أن أجله قد اقترب، ويأمر الصناع والبنائين بصناعة مدفن له في دار العقيق بدمشق، ويُدفن فيه بعد وفاته، لينسدل الستار على سيرة السلطان المملوكي الأشهر.
هذا في الوقت الذي تذهب فيه بعض الروايات إلى نهاية مختلفة نوعاً ما، عندما تذكر أنه لما اشتكى بعض الحاقدين من الشيخ خضر العدوي، وأقاموا الحجة عليه عند السلطان، احتار بيبرس فيما يفعل، واستشار رجال البلاط المملوكي، فأشاروا عليه بقتله، ولكن خضر أرسل لبيبرس «أنا أجلي قريب من أجلك وما بيني وبينك إلا مدة أيام يسيرة، من مات منا لحقه الآخر عن قريب»، فخاف بيبرس، وسجن الشيخ في القلعة، ولما توفي خضر في محبسه في محرم سنة 676هـ، بقي بيبرس خائفاً يترقب حتى توفي بعد عشرين يوماً في دمشق.
أما النموذج الثاني لحضور النزعة الصوفية القوية في المُتخيل الشعبي المملوكي، فيتمثل في سيرة السلطان طومان باي، آخر السلاطين المماليك على الإطلاق، فبحسب ما هو شائع في الثقافة الشعبية المصرية، فقد تم تصوير طومان باي على كونه بطلاً شجاعاً، محباً للعلماء والصوفية، كما تم التأكيد على أنه كان يرفض ظلم العامة، بعكس الأغلبية الغالبية من الأمراء المماليك الظالمين.
تلك الصورة البطولية، تتماهى مع فكرة التأثر بمشايخ الصوفية الكبار، إذ يذكر ابن إياس الحنفي في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» واصفاً لحظة نقل السلطة إلى طومان باي على يد الشيخ الصوفي أبي السعود الجارحي «فأحضر الشيخ أبو السعود بين يدي الأمراء مصحفاً وحلّفهم عليه بأنهم إذا سلطنوا طومان باي لا يغدرون به ولا يثيرون الفتن، وينتهون عن ظلم المسلمين، وأصر على الأمير طومان باي بأن يتقبل السلطنة وتقبلها». الرواية السابقة أظهرت أن طومان باي لم يكن مفروضاً على المصريين، كحال من سبقه من المماليك، بل على العكس، أكدت أن آخر سلاطين المماليك قد نال شرعيته من خلال سلطة روحية صوفية ينصاع لها أهل البلاد ويقدرونها ويظهرون لصاحبها آيات القدير والإجلال.