التصوف في المغرب: أداة الدولة في التأثير على الشعب
طُرق صوفية للعامة، وطُرقٌ للساسة. لكلٍ منها طبيعة متفردة. مريدوها يرون في اللجوء إليها خلاصًا من العالم المادي. هي شكلٌ من أشكال التنظيم الاجتماعي.. وفي الوقت ذاته أداة للتوظيف السياسي.
الصوفية وطرقها في المغرب، يجتمع الضدان في بلد واحد، ففيه تجد تصوف «عالم» قائم على فكرة المعراج كارتقاء وصعود نحو الأعلى حيث السماء، وترتبط طرقها بإسلام الدولة، فتمثل بالنسبة للسلطة الحاكمة حجر الزاوية في إستراتيجيتها لمواجهة حركات الإسلام السياسي، ومن أشهرها الطريقة التيجانية والبودشيشية. وهناك أيضًا تصوف «شعبي»، وهو الأكثر تجذرًا في داخل الأوساط الشعبية، يُكرس جهوده نحو «التحت» حيث عالم الجن، ينخرط فيه المجتمع المغربي ويؤمن بطقوسه الغريب منها قبل المألوف، ومن أشهر تلك الطرق: العيساوية والحمدوشية والكناوية.
الطرق الشعبية: حفلات رقص واستحضار جن
1. الليلة الكناوية
هي رحلة للتفاوض مع الأرواح، وسفر طقوسي يتجاوز حدود الجسد نحو الروح، ولحظة الحضور نحو استحضار اللامرئي من أرواح الأسلاف وملوك الجن، في لحظة تتواطأ فيها ومن خلالها كل الحواس رغبةً في الهروب من قبضة الإحساس بالعالم المادي.
تُنسب تلك الليلة إلى الطريقة الكناوية، الطائفة الأكثر أهمية من حيث عدد أتباعها المنتشرين على امتداد مدن المغرب وقراها. تتولى تلك الطائفة خلال هذه الليلة استحضار ملوك الجن من أجل التفاوض معهم والتوسل إليهم كي يتدخلوا للمساعدة أو لتصفية الحسابات.
تخضع تلك الليلة لإيقاعات موسيقى وحركات جسد وألوان سبعة جميعها يتخذ صيغة نزول أو هبوط متدرج. فالموسيقى تتوزع وفق إيقاعات متدرجة، بحيث يصاحب كل إيقاع «محلة» خاصة، وفي كل محلة يحضر ملك من ملوك الجن السبعة، ويمثل كل لون من الألوان السبعة تعريفًا بأحد هؤلاء الملوك، وكل ملك مسئول عن نوع مخصوص من الأذى كالمس أو العقم أو السحر، ولكل ملك منهم ما يفضله من أنواع البخور.
وخلال ذلك السفر الطقوسي، في كل محلة، يكتب الجسد «المجذوب»لغته الخاصة بحثًا عن الشفاء. يتم كل ذلك تحت إشراف «المعلم» الكناوي، فهو من يضبط إيقاع الآلة التي يعزف عليها، تساعده في ذلك شوافة أو عرافة تتلخص مهمتها في تيسير سبل التواصل مع ملوك الجن. ويشترط خلال تلك الليلة إراقة الدم وتقديم القرابين إرضاءً للملوك.
2. شجرة يُذبح بجانبها قربان
أشعلت فوزية، البالغة من العمر 40 عامًا، شمعتها ووضعتها على سور «لالة عيشة مولات المرجة»، ورشت الزهر والحليب والحناء ووضعت علبة سكر وأشعلت قطعة بخور وهي تردد «شايلاه اسيدي علي بن حمدوش، شايلاه الالة عيشة الحمدوشية»، آملة في أن تحصل على البركة منها وتنعم عليها بالزواج!
فوزية ليست وحدها، فالعديد من الفتيات المغربيات ممن تأخرن في الزواج يترددن على ذلك المقام طلبًا للزواج.
يُذكر أن لاله عيشة توفي عنها الشيخ علي بن حمدوش، زعيم الطريقة الحمدوشية، قبل زفافهما بقليل، فجلست تبكي على قبره حتى حصلت لها البركة!
تتوافد الهدايا عليها في موسم سيدي علي بن حمدوش على نغمات الطرق الكناوية أو العيساوية أو الحمدوشية، وكل منها بنغمته الخاصة. تتقدم تلك الفرق الفتيات والنسوة واضعات على رؤوسهن أطباقًا فضية تشمل أطباقًا يختلط فيها الحناء والزهر ونصف لتر من الحليب وعود بخور وسكر وشمعتان، وبالقرب من ضريح سيدي علي بن حمدوش بمنطقة قيادة المغاصيين، توجد شجرة تذبح بجانبها القربان، الذي يباع فور ذبحه، أو يرمى إلى جوار الضريح.
أثناء ذلك يختلط الدم بالحليب أمام الشجرة حتى تتحول الساحة التي يُذبح فيها القربان إلى «مجزرة»، يتبرك الزوار وخاصة النساء منهم بالدم وسط أجواء صاخبة من «الحضرة» و«الجذبة» وعلى إيقاعات الفرق الثلاثة.
3. حفلات رقص وزمر
في وسط أجواء من الجذبة، حيث يتخلص الروح فيها من العالم المادي، ووسط صفوف الجمهور تُعقد الحفلات التي تنظمها الفرق الثلاث وعلى رأسها طريقة عيساوة، أحد أشهر طرق التصوف الشعبي في المغرب. تعتمد الفرقُ المنتسبة إليها على ترديد الأمداح النبوية، والصلاة والسلام على رسول الله، إلى جانب استعمال آلات موسيقية تقليدية، كالدف والطبل والمزامير.
كما تتميز الحفلات التي تحييها فرق الطريقة العيساوية بطقوس خاصة، منها حمْلُ علمين كبيرين، أحمر وأخضر، واستفتاح حفلاتها بالدعاء، كما تتميز بارتداء فرد من الفرقة زيًّا متميزًا،مهمته الأولى والأخيرة تحفيز الجمهور وجعله ينخرط في الجذبة التي تؤديها الفرقة من خلال قيامه بحركاتٍ مميزة لتشجيع الجمهور.
جدير بالذكر أن تلك الحفلات تتمكن في كل مرة من جذب جمهور كبير، تدفعه طقوسها على التزاحم أمام المنصة، وكلما ارتفعت إيقاعات الموسيقى والأمداح، قام الجمهور للرقص جماعة، والسهر إلى أوقات متأخرة حتى تنتهي الحفلة.
الصوفية بوصفها أداة سياسية
للصوفية في الميدان السياسي دور لا يُضاهى، فكم من أسر مالكة لم تتمكن من الإمساك بزمام الحكم بالمغرب إلا بفضل علاقاتها مع الصوفية الذين تمتعوا بسلطة روحية، مكنتهم من توجيه الشعب المغربي إلى الوجهة التي يريدونها. بل إن هناك حركات صوفية استأثرت بالسلطة كما فعلت حركة «الزاوية الدلائية» التي استغلت نفوذها الروحي فاحتفظت بمقاليد السلطة لنفسها. وقد شكلت الزوايا خصوصًا والصوفية عمومًا الأساس الذي اعتمدت عليه الدولة في مواجهة الإسلام السياسي، فزاحمته ولم تترك له الساحة الدينية فارغة حتى يستقطب ما يشاء من الناس، بل تمكنت من تملك عقول الناس والسلطة السياسية.
لهذا، أولت الدولة المغربية أعلى مستويات الرعاية للزوايا، وذلك من خلال تقديمها لكافة أشكال الدعم المادي والمعنوي والمبادرات الرسمية. لعل أبرزها إرسال هبات ملكية خاصة إلى عدد كبير من الزوايا لمكافأتها على الأداء البارز الذي تمارسه داخل المشهد الصوفي والديني في المغرب، كما هو الحال بالنسبة للزاوية البودشيشية، التي عملت على خلق التوازنات على مستوى الخريطة السياسية بالمغرب في مقابل باقي جماعات الإسلام السياسي، وتنسب تلك الطريقة لشيخها حمزة بن العباس.
وقد تعرضت إلى انتقادات جمة متعلقة بعلاقاتها مع السلطة ومزجها الجانب الديني بالسياسي. ولعل أبرز المواقف الدالة على ذلك: مشاركة البودشيشيين في التظاهرات المناهضة لحركة 20 فبراير/شباط، التي قادت الحراك الشعبي في المغرب 2011، والدور الكبير الذي لعبته في إقناع الشعب المغربي بالتصويت على دستور 2011، ودورها في العمل على استقطاب مئات الشباب المغاربة الذين كانوا يعملون بداخل التيار السلفي من خلال إبرازها لمحاسن الصوفية؛ الأمر الذي يعد عملاً سياسيًا بطبيعته على أساس أن التوجه العام للدولة يشجع الصوفية.
كذلك تمثل الزاوية التيجانية أكثر الزوايا من حيث النفوذ السياسي. فبالرغم من خفوت حضورها في المغرب إلا أنها تمثل جسرًا لتقوية العلاقات المغربية الأفريقية لما تتمتع به الزاوية التيجانية من نفوذ واسع في القارة السمراء وبالأخص في السنغال.
وفي إطار الصراع بين المغرب والجزائر حول النفوذ في القارة الأفريقية، كانت الجزائر قد اعتقدت أن بخروج المغرب من منظمة الاتحاد الأفريقي عام 1982، أنها بذلك قد خرجت نهائيًا من مناطق النفوذ، لكن المغرب ظلت محافظة على وجودها في القارة استنادًا إلى ما تسميه بـ «الدبلوماسية الدينية»، وظلت تستخدم هذا المصطلح لتبرهن على عمقها وتواجدها في القارة منذ أن جرى تنظيم أول مؤتمر للتيجانيين بها عام 1985 وحتى يومنا هذا.
قد تتسبب الصوفية أيضًا في حدوث توترات سياسية مع غيرها من الدول، لعل آخرها مقطع الفيديو الذي تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي لمؤذن جزائري يُدعى موسى بلغيت، وهو يرتدي ثيابًا بعدة ألوان، متحدثًا عن الدور الذي تؤديه «الطريقة الكركرية»، إحدى الزوايا الصوفية الموجودة في المغرب، في تجديد للدين؛ الأمر الذي خلق جدلاً واسعًا بالجزائر، جعل وسائل الإعلام تؤكد على أن هذه الطائفة تريد الفتن بالناس، وأن الجزائر مستهدفة من قبل المغرب، إذ مثّل ما حدث بالنسبة لهم «اختراقًا أجنبيًا للجزائر» عبر المذاهب الصوفية.
كذلك تقدم الدولة المغربية الهبات لدعم أنشطة الزوايا ومساندتها في القيام بوظائفها الدينية المختلفة في المواسم الدينية، والترحيب والاحتفاء بمريديها وتكريم رموزها والمساعدة في نشر طقوسها، علاوة على تنظيمها للقاءات عالمية للمنتسبين للتصوف، كاللقاء الصوفي بـ «سيدي شيكر»، وإحيائها للزوايا والطرق الصوفية وتشجيعها، رغبة منها في أن تظل الصوفية هي سيدة المشهد الديني، وألا تسمح للحركات الإسلامية الأخرى بأن يكون لها كلمة على الشعب المغربي.