لا تخضع العلاقة بين الرجل والمرأة عند الصوفية لنفس المنطق الجامد الذي يحكم التصور الفقهي أو الاعتقاد الجنساني التقليدي للأشكال المعتادة للعلاقة بين الرجال والنساء، والتي تجعل المرأة، في أغلب الأحيان، وسيلة لمُتعة الرجل وممارسة استبداده وعنفه، وإنما أحدث منظّرو الصوفية ارتقاءً في هذا الارتباط بين المخلوقين الأسمى على الأرض، جعل العلاقة الجنسية تتطوّر إلى متع حسية متبادلة، وافتتان وعبادة روحية.

فالعلاقة الجنسية عند الصوفي هي فعل مركب يجمع بين العناصر التي تشدُّ الإنسان إلى الله والطبيعة وإلى مبدأيهما «الحياة والحب»، حسبما توصَّل إليه أستاذ الفلسفة عبد الحق منصف في دراسته «أبعاد التجربة الصوفية: الحب – الإنصات – الحكاية».

قد يبدو ما سبق صادمًا للبعض، ولكن الأكيد أن المتأمل في مؤلفات عددٍ من أقطاب الصوفية يجد أن الجنس لديهم هو صورة من صور الاتحاد بالذات الإلهية، وهذا الاتحاد هو أسمى مرتبة يصل إليها الصوفي في مجاهداته الروحية، والمسألة هنا ليست تقليلاً من الذات الإلهية أو حتى حالة الاتحاد بها، ولكنها ارتقاء للفعل الجنسي وتنزيهه عن الدنو الذي ينظر به كثيرون للاشتباك الحسّي بين مخلوقي الله المُكرَّمين، وبهذا رفع كثير من أقطاب الصوفية، وعلى رأسهم ابن عربي، العملية الجنسية إلى مقام أرقى مرتبة روحية لديهم، وهي الاتحاد.

كيف برهن الصوفية على صدق اعتقادهم في الجنس، وما علاقة ذلك بنظرتهم لخلق الإنسان أو «آدم وحواء» على وجه التحديد، وكيف وجدوا علاقة روحية بين الفعل الجنسي وأعلى مراتب القرب من الله وهي الاتحاد به، وما علاقة ذلك بفكرة الحب، المركزية جدًّا في التفكير الصوفي، هذا ما سنوضحه في السطور التالية.

عن الخلق واتحاد المخلوق بالخالق

قبل الإجابة على الأسئلة التي طرحناها بشكلٍ مُباشر، لا بد من توضيح مصطلحين صوفيين ضروريين لفهم القضية، ألا وهما «الاتحاد» و«الخَلْق».

الاتحاد ببساطة، ومن خلال مجموعة تعريفات اختلفت بين صوفي وآخر، يُمكن تبسيطه وفقًا لفهم الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه «شطحات الصوفية»، بأنه قُرب شديد وحُب حارق بين الله والإنسان، يحدث نتيجة مجاهدة روحية قوية تصل بالإنسان إلى الذوبان والفناء في ذات الله، فيصبح كأنه هو، مصداقًا للحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها…».

أما نظرية خلق الإنسان عند الصوفية، وهي مرتبطة بفكرة الاتحاد، وتُعبِّر عن سر حب الإنسان لله، فتفيد– كما يفهمها صوفية كُثُر كابن عربي وابن الفارض والحلاج والرومي والبسطامي وغيرهم- أن الله هو الأصل، وأن الإنسان وكل الكائنات فروع انبثقت عنه، وفي ذلك يقول ابن الفارض في ديوانه عن رؤيته لذات الله في كل مخلوق كائن من كان:

جَلَت في تَجَلِّيها الوجود لنَاظِرِي … ففي كل مرئِيٍّ أراها برؤية

ويقول الحلاج في ديوانه مخاطبًا الله: أنا أنت بلا شك، فسبحانك سبحاني وتوحيدك توحيدي وعصيانك عصياني وإسخاطك إسخاطي وغفرانك غفراني. وكان البسطامي يخاطب الله، شارحًا حاله بعد الاتحاد، فقال– حسبما ينقل عبد الرحمن بدوي: «كُنتَ لي مرآة فصرتُ أنا المرآة».

ويتبنَّى ابن عربي في كتابه «الفتوحات المكية» نظرية الإنسان الكامل، والتي تعني ببساطة أن الله خلق آدم على هيئته– وفقًا للحديث النبوي الذي رواه البخاري عن أبي هريرة- فإذا تخلَّق هذا الإنسان بالأخلاق الإلهية، ووصل لدرجة الفناء في الله، وبالتالي وصل للاتحاد به، صار صورة من الله، أو «يتجلَّى الحق على صورته»، وفي هذه الحالة يُطلق عليه «إنسانًا كاملاً»، واعتبر ابن عربي أن المسيحيين لم يُخطئوا حين نسبوا الألوهية للمسيح، ولكنهم أخطئوا بأن حصروها فيه وحده، لأن الله في المسيح وكل الكائنات!

وبالتالي فإن حالة الفناء والاتحاد بذات الله، هي حنين الإنسان إلى أصله، وحنين الفرع إلى جذره، الذي حجبته عنه الدنيا باللهو والمعاصي وخلافه، وحين يصفو الإنسان وينقّي نفسه من كل ما علق بها من شوائب يستطيع أن يعود إلى الله ويتحد به.

الجنس ونظرية خلق آدم وحواء

يرى ابن عربي، أن آدم حين خُلِق لم تكن في جسده شهوة جنسية، ولكن لمّا خُلع منه ضلع انبثقت عنه حواء، خُلقت فيهما الشهوة الجنسية التي فسّرها القطب الصوفي الأبرز بأنها حنين من الفرع إلى الأصل؛ فالضلع الذي خُلِع من الجسم ونتج عنه أنثى (حواء) يحنُّ إلى مكانه الأصلي في جسم الرجل (آدم)، وكذلك يحنُّ المكان الذي خلع منه الضلع إلى الأنثى التي تكونت من الضلع الذي نزع عنه.

وأوضح الكاشاني في «التفسير الصافي- الفيض الكاشاني»، أن هذا المكان الذي خُلع منه الضلع في الرجل، يقع في «النقرة التي بين وركيه»، والذي يقول عنه ابن عربي: «وعَمَّر الله الموضع من آدم الذي خرجت منه حواء بالشهوة إليها، إذ لا يبقى في الوجود خلاء، فلما عمره بالهواء حن إليها حنينه إلى نفسه لأنها جزء منه، وحنت إليه لكونه موطنها الذي نشأت فيه، فحب حواء حب الموطن، وحب آدم حب نفسه».

هذه الرغبة الجنسية هي شكل من أشكال الوعي بالانفصام والفراغ والاغتراب الذي يشغل حيزًا كبيرًا في الفكر الصوفي منذ بداية النشأة والتكوين، فكما أن الإنسان يشعر، من وقتٍ لآخر، بشهوة نابعة عن فراغ بداخله لا يمتلئ إلا بشريكه الجنسي، كذلك فإن اتصاله بالله وشغفه أمر نابع عن فراغٍ مُماثل يجعل الإنسان بداخله حنينًا إلى أصله الأول، وهو الله، حسبما يُفهم من نصوص كثيرة من أقطاب الصوفية.

العشق الصوفي مظهر للحب الإلهي

كل تجارب وممارسات العشق عند الصوفي، بما فيها الجنس، هي مجرد مظاهر وصور للحب الإلهي، حيث يقول ابن الفارض:

وليسوا بغيري في الهوى لتقدم … علَيَّ لسبق في الليالي القديمة
وما القوم غيري في هواها وإنما … ظهَرتُ لهم للبسٍ في كل هيئة
ففي مرة قيسًا وزخري كُثَيْرًا … وآونة أبدو جميل بثينة
تجليت فيهم ظاهرًا واحتجبت باطنًا … كل فتى والكل أسماء لبسة

ويقول ابن عطاء حسبما نقل عنه القشيري في رسالته حول التصوف:

غرست لأهل الحب غصنًا من الهوى .. ولم يك يدري ما الهوى أحد قبلي
فأروق أغصانًا وأينع صبوة … وأعقب لي مُرًا من الثمر المحلى
وكأن جميع العاشقين هواهم … إذا نسبوه كان من ذلك الأصل

ولا يتورّع أقطاب الصوفية عن التعبير المتّصل بوسائلٍ شتّى عن أن كل تجارب العشق غايتها الحب الإلهي، والاتصال بمبدأ الحياة والخلود، بِاعتبار أن كل حب لا يوقظ في الإنسان الحنين إلى أصله الإلهي ليس بحُبٍّ عند الصوفية، فالرغبة الحقيقية من وراء كل حُب هي الرغبة في التماس مع مطلق الجمال الإلهي الذي يتخلل كل مشهد وكل كائن، ويستغرق حياة الصوفي الوجدانية بكاملها.

وفي هذا يقول ابن الفارض فيما يبدو تغزلاً في أنثى أيضًا، لكنها كلمات تُبطن في حروفها كثيرًا من الدلالات:

وصرِّح بإطلاق الجمال … ولا تقل بتقييده ميلًا لزخرف زينة
فكل مليح حسنه من جمالها … معار له بل حسن كل مليحة
بها قيس لبنى هام بل كل عاشق … كمجنون ليلى أو كُثَير عزّة
وما ذاك إلا أن بدت بمظاهر … فظنوا سواها وهي فيها تجلت

ثم يربط ابن الفارض حبه لعشيقته التي بينت الأبيات السابقة أن كل العاشقات كن مجرد صور منها أو تجليات لها، بتاريخ نشأة آدم وحواء، وتجلِّي الله للبشرية جميعها، حين كان البشر مجرد أرواح قبل خلق أجسادهم في أزمنة متلاحقة:

ففي النشأة الأولى تراءت لآدم … بمظهر حواء قبل حكم الأمومة
فهام بها كيما يكون بها أبًا … ويظهر بالزوجين حكم البنوة
وكان ابتداء حب المظاهر … بعضها لبعض ولا ضد يصد ببغضة
وما برحت تبدو وتخفى لعلة … على حسب الأوقات في كل حقبة
وتظهر للعشاق في كل مظهر … من اللبس في أشكال حسن بديعة
ففي مرة لبنى وأخرى بثينة … وآونة تدعى بعزة عزت

ثم يعود ابن الفارض ويؤكد نفس المعنى بتفصيله، ليؤكد أن نشوته ولذته بها كانت منذ كان في عالم الروح، جزءًا من الذات الإلهية الكلية، قبل خلق جسده:

وهمت بها في عالم الأمر حيث لا ظهور وكانت نشوتي قبل نشأتي
وعندي منها نشوة قبل نشأتي معي أبدًا تبقى وإن بلى العظم

ويرى الصوفي عبد الكريم الجيلي في كتابه «الإنسان الكامل في معرفة الأواخر»، أن اسم الله مشتق من فعل «أَلِهَ.. يَأْلَهُ» بمعنى «عَشِق.. يعشق»، لذلك كان حنين الصوفي للعودة إلى أصله الإلهي هو ذاته الميل إلى الذوبان في الحب كحقيقة أو مبدأ كوني؛ فحُب الألوهية يخفي في ذاته حبًا للحب نفسه، بكل أشكاله، لأن الله هو الحب المُطلق.

وعن ذلك يقول ابن عربي:

ولما رأينا الحب يعظم قدره ومالي به حتى الممات يدان
تعشقت حب الحب دهري ولم أقل كفاني الذي قد نلت منه كفاني
فأبدا لي المحبوب شمس اتصاله أضاء بها كوني وعين جناتي

الجنس فِعل إلهي

زهدت بعض التيارات الصوفية في العلاقة الجنسية من أساسها واعتبرتها عائقًا عن القُرب من الله، ومن أشهر أقطاب هذا التيار رابعة العدوية، إلا أن هذا الاتجاه لا يتمتع بشعبية كبيرة في المجتمع الصوفي لصالح التيارات الأخرى التي احتفت بالعلاقة الجنسية وتعرّضت لها في كثير من مؤلفاتها، ولو على سبيل التورية كما فعل ابن الفارض مثلاً، أو بشكلٍ واضح مُفصًّل كما فعل الشيخ الأكبر ابن عربي.

لا يعتبر ابن عربي أن العملية الجنسية مُجرد شهوة حسية، ولكنها «فِعل إلهي»، هدفه خلق الأجساد لحمل الأرواح التي هي من روح الله، معتبرًا أن عملية النكاح التي ينتج عنها التوالد، هي نفسها عملية الخلق الإلهي لكل الموجودات في الكون، حيث يقول: ما كَمُل الوجود ولا المعرفة إلا بالعالم. ولا ظهر العالم إلا عن هذا التوجه الإلهي على شيئية أعيان الممكنات بطريق المحبة للكمال الوجودي في الأعيان والمعارف، وهي حال تشبه النكاح للتوالد، فكان النكاح أصلًا في الأشياء كلها، فله الإحاطة والفضل والتقدم.

وإذا كانت كل الكائنات هي ظهور من مظاهر الله، وكان الإنسان هو الظهور العظيم، فإن المرأة هي الظهور الأعظم لله عند ابن عربي، وبالتالي فإن الاتصال بجسدها والالتصاق به هو اتصال بسر الألوهية، وحب هذا الجسد عبادة تُجدِّد العلاقة بالله، باعتبار أن هذا الجسد الأنثوي هو أعظم مظاهر الإبداع الإلهي، حيث يقول الشيخ الأكبر عن شهود الصوفي لله في الجسد الأنثوي: «شهوده للحق في المرأة أتم وأكمل، إذ لا يشاهد الحق مجردًا عن المواد أبدًا، فإن الله بالذات غني عن العالمين، وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعًا، ولم تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله. وأعظم الوصلة النكاح، وهو نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته».

ويعتبر القطب الصوفي، أن حُب النساء بهذه الشاكلة ليس «انتقاصًا من الألوهية» وإنما اكتمالاً في فهم طبيعة المحبة التي تجمع الرجال بالنساء، فمَن أحب النساء من جهة الشهوة الطبيعية فقط يكون كمَن يعشق صورة بلا روح، أما من يبلغ في عِشقه للمرأة أن يعتبرها طريقه إلى الرب، يكون قد وصل إلى المفهوم الحق للحُب الإلهي.

وهكذا تتشابك الخيوط بين العبادة الروحانية والفعل الجنسي، وبين الحنين إلى الأصول الطبيعية والإلهية، فتجمعها معًا حركة كونية يُسمِّيها الصوفي «الحب الإلهي»، كما يقول عبد الحق منصف.

رحلة الصوفي الروحية للعبادة والجنس

ما قاله ابن عربي، يلتقي مع ما قال به أشهر من حلّلوا فلسفة العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة؛ فالجنس فعلٌ ذو اتجاهين لأنه من جهة يُعمِّق الوعي بالاختلاف والانفصال النوعي بين الذكر والأنثى، ومن جهة أخرى يُعمِّق الرغبة والشهوة نحو اتصال هذين الكيانين الناقصين، واللذان يكتملان باتصالهما.

يقول الفيلسوف الفرنسي جورج باتيلي (Georges Bataille) في دراسته «الإيروتيكية: الموت والشهوانية – Erotism: Death and Sensuality»، إن الانفصام والاغتراب هما اللذان يُؤسِّسان العلاقة بين المرأة والرجل، ولكن الجنس يزيل هذا الانفصام، لأنه ينتهك خصوصية وكينونة الرجل والمرأة معًا.

وكما يعتبر الانفصام والاغتراب والاستيحاش والرغبة في الاتصال هي المشاعر الدافعة للعلاقة بين الذكر والأنثى جنسيًا، نجد أن المشاعر نفسها تُؤسِّس للعلاقة بين الصوفي وربه، كما نلحظ في قصيدة جلال الدين الرومي عن الناي وأنينه.

وفي القصيدة الموجودة في كتابه «مثنوي»، يعتبر الرومي الناي رمزًا للإنسان الصوفي الذي يحنُّ إلى أصله الإلهي، ويُعاني وحشةً واغترابًا، مستخدمًا إياه كصورة شعرية، يحكي من خلالها عن شعور روحه بالاغتراب والوحشة وهي بعيدة عن خالقها، كشعور الناي بالحنين إلى شجرة الغاب التي قطع منها ليستخدم كآلة موسيقية، فبدا هذا الناي وهو يعزف وكأنه يبكي على غربته، كما يبكي الصوفي حنينًا إلى اشتياقه الاتصال بالله، يقول الرومي:

أنصت إلى الناي يحكي حكايته ومن ألم الفراق يبث شكايته
مذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون
أريد صدرًا مِزَقًا مِزَقًا برَّحه الفراق لأبوح له بألم الاشتياق
فكل من قطع عن أصله دائمًا يحن إلى زمان وصله
وهكذا غدوت مطربًا في المحافل أشدو للسعداء
وأنوح للبائسين وكلٌ يظن أنني له رفيق
ولكن أيًا منهم لم يدرك حقيقة ما أنا فيه
لم يكن سري بعيداً عن نواحي
ولكن أين هي الأذن الواعية، والعين المبصرة