صرخات الزاهدين: التصوف الثائر في مواجهة السلطة
اُشتهر عن التصوف بعلاقته المتصالحة مع السلطة، ينقل لنا أبو النجيب «السهروردي» [ت563هـ] عن عقيدة الصوفية؛ أنهم «يرون الصلاة خلف كل بَرٍ وفاجر، ولا يشهدون لأحد من أهل القبلة بالجنة لخير أتى به، ولا يشهدون عليه بالنار لكبيرة أتى بها … ولا يرون الخروج على الولاة وإن كانوا ظلمة»[2].
والسلطة قد تكون دينية أو سياسية أو اجتماعية. الدينية متمثلة في الحاكم أو الملك أو الرئيس أو الوزير أو الأمير أو المشير. والدينية المتمثلة في رجل الدين. والاجتماعية متمثلة في العقل الجمعي والعادات والتقاليد والأعراف.
تتزاوج السلطة الدينية بالسياسية أحيانا فيصبح «الحاكم بأمر الله»، «المعتصم بالله»، «المعتضد بالله»، «المستظهر بالله»، «الراشد بالله». وأحيانا تتزاوج السلطة الدينية بالسلطة الاجتماعية، فتصبح العادات دينا، والدين عادة وتقليد، وأحيانا تجتمع السلطات الثلاث، كما في «النظام الملكي» حينما يؤيده النظام الاجتماعي والسردية الدينية.
وعلى الرغم من أن السياق التاريخي للتصوف يشير إلى تبنّي عدم المواجهة والاحتكاك مع السلطة، ذلك لأن طبيعة التصوف طبيعة رومانسية هادئة. لكن رغم أن السواد العظيم من التوجّه الصوفي يميل إلى المسالمة وعدم الاعتراك على مستوى التنظير والعمل؛ إلا أن ثمة تيار على الجانب الآخر يجابه السلطة ويحتك بها ولا يتصالح معها ولا يتصالح حتى مع من يتصالح معها.
لقد طفا التيار الأول أي تيار المصالحة مع السلطة على سطح التراث بحكم أغلبيته، ولم يتيسر للتيار الثاني أن يتم تقديمه والذي كان الحلاج [ت 309هـ] على سبيل المثال نموذجا منه وعلامة بارزة في التيار الثوري الحر في الوعي الصوفي الثوري؛ الثورة على السلطة، التي كانت حينها متمثلة في السلطة الدينية. فقد جابه الحلاج السلطة الدينية المتمثلة في الفقهاء المتمسكين بالظاهر وحرفية النص، فاتهموه بالكفر والزندقة فأهدر الخليفة «المقتدر بالله» دمه، فأعدم صلبًا، وكان من ضمن ما قاله عن التصوف بعد صلبه، أنه سئل عن التصوف ما هو؟ فكانت إجابته هي: «أهونه ما ترى»!. أي أن التصوف بالمعنى الثوري لابد أن يكون هكذا.
الصوفي كينونة حرة؛ لأنه يجاهد نفسه ليتخلص من سجن جسده وشهواته، فيصبح حرًا من ربقة حاجات الغريزة والشهوة، ومن ثم فكل شيء هيّن عنده لأنه لا يطمع في شيء، أو كما عرّف سمنونُ التصوفَ: «ألا تَملك شيئًا ولا يَملكك شيء»، وبالتالي فهو إنسان متخفف من كل المتعلقات التي من شأنها أن تجذبه نحو الحرص المُذِل. لهذا السبب وُجد الكثير من النماذج الثورية في التصوف الذي ندد بسلوكيات السلطة والذي هو على عكس ما هو مشهور.
لم يكن الحلاج وحده ممثلا لهذا التيار، بل كذلك لقي شهاب الدين «السهروردي» [ت 632هـ]، الذي قُتل في السادسة والثلاثين من عمره، فقد ألب الفقهاءُ عليه الحاكم الذي كان صلاح الدين الأيوبي حينها كما يذكر لنا ذلك ابن أبي أصيبعة في «عيون الأنباء»؛ أنه لما توجّه السهروردي إلى الشام، أتى إلى حلب، وناظر الفقهاء، فلم يجاره أحد، فكثر مشنعيهم عليه، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك صلاح الدين، واستحضر أمامه من المدرسين والفقهاء ليسمع ما يجري بينه وبينه، فتكلم السهروردي بكلام كثير، وبان له فضلٌ عظيم، وعلم باهر، وحسن موقعه من الملك الظاهر، وقربه منه، وصار مكينا عنده. فزاد تشنيع أولئك عليه، وكتبوا مَحاضَرَ بكفره، وسيّروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين، قالوا فيها: إن بقي هذا الرجل فسيفسد اعتقاد الملك الظاهر، وإن أُطلق؛ فإنه يفسد أي ناحية يرحل بها من البلاد. فبعث صلاح الدين إلى ولده يقول: «إن هذا الشهاب السهروردي لا بد من قتله، فلا سبيل أن يطلَق أو أن يبقى بوجه من الوجوه». ومن بعدها أُطلق عليه لقب «السهروردي المقتول».
بالتدقيق التاريخي والنظر في كتب الطبقات التي سردت جملة من حياة وأقوال الصوفية الكبار، نجد أننا لا نعدم عددا ليس بالقليل على منوال الحلاج والسهروردي، فإن كان للحلاج والسهروردي محنة مشهورة ومواجهات مع السلطة جعلتهما محور الاهتمام، فإننا نجد كذلك نماذج من أعلام وأقطاب الصوفية كانت لهم معارضة ومواجهة مع السلطة السياسية مباشرة؛ كالشيخ عبد القادر الجيلاني [ت561هـ] مثلا، وهو صوفي ألمعي عصامي، ذو هيبة ومهابة «فكان إذا جاء الخليفة ليحضر مجلسه، يدخل داره، ثم يخرج حتى لا يقوم له»[3]. وكان من ضمن ما يراه أن الجلوس على بساط الملوك من العقوبات المعجلة للفقير أي الصوفي[4]، ويروي لنا صاحب «مرآة الزمان» أنه «ما قام لأحدٍ من العظماء ولا الأعيان، ولا أَلَمَّ ببابِ وزير قَطُّ ولا سلْطان»[5]. و«كان يرى الجلوسَ على بساط الملوك ومن يليهم من العقوبات المعجَّلة»[6]. و«كان إذا كاتَبَ الخليفةَ يكتب إليه: عبد القادر يأمرك بكذا»![7].
وتروي لنا كذلك كتب الطبقات عن سفيان الثوري [ت161هـ] الذي يُترجم له «المناوي» و«الشعراني» في طبقاتهما، فيقول المناوي عنه: «وكان شديدًا على الولاة جداً، ولا يخاف لومة لائم»[8]، دخل عنده «المهدي» مرة فقال له: يا سفيان أعطني الدواة لأكتب، فقال له سفيان: أخبرني أي شيء تكتب، فإن كان حقا أعطيتك![^9]. وكان يقول: «إذا رأيتم العالِم يلوذ ببابِ السلطان؛ فاعلموا أنه لِص»[10]. وكان إبراهيم بن أدهم [ت162هـ] يقول: «كل سلطان لا يكون عادلا؛ فهو واللص بمنزلة واحدة»[11].
أولئك النخبة من هذا التيار الصوفي يمكن أن نصفه بأنه كان ممثلا عن «التيار اليساري» حينها، فكان ينهى ويزجر عن الاقتراب من السلطة السياسية التي كان يراها ليست على ما يرام في الحكم والعدل، فيقول مِسعَر الصوفي [ت155هـ]: «لا ينبغي أن يُثنى على عالِم وهو يأخذ جائزة السُلطان»[12]. أما يوسف بن أسباط [ت192هـ] فيقول: «من دعا لظالمٍ بالبقاء؛ فقد أحبَ أن يُعصى الله»[13]. يقصد بها السلطان الجائر. إبراهيم المتبولي الصوفي المصري الشهير كان يعارض السلطان «قايتباي»[14]، وكان يقول: «إذا كان طعام الأمراء سمًا، فكيف بطعام الملوك؟!»[15].
أما عن الجُنيد، الذي هو من أهم أعلام الصوفية، «سيد الطائفة» كما يُلقب في الأدبيات الصوفية، كان ينهى عن مشاركة السلطان ويقول: «من شارك السلطان في عز الدنيا؛ شاركه في ذُل الآخرة»[16]. وكان عبد الله بن عبد العزيز العمري [ت184هـ] يقول: «إن الرجل ليسرف من ماله فيستحق الحجر عليه؛ فكيف بمن يسرف في أموال المسلمين»[17] مشيرا بذلك إلى إهدار المال العام.
لم يتوقف الأمر عند التعريض والتلميح إلى السلطة السياسية، بل تجاوز الأمر إلى المواجهة المباشرة معها، فكان سليم العسقلاني [ت840هـ] كما يقول عنه المناوي: «يكلم أرباب الدولة بالخشونة والصوت العالي»[18]. وصالح الزواوي [ت835هـ] يحكي عنه المناوي كذلك أنه : «كان قائما بالحق، يروّع أرباب الدولة، ولا يبالي بالظلمة ولا يلتفت إليهم»[19]. أما عبد الرحمن عمرو الأوزاعي فقد دخل عليه «المنصور» مرة فقال: عظني، فقال له :«ما أحد من الرعية إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه»[20] أما بهلول المجنون: وهو من «مجاذيب»[21] الصوفية فكان يُثقل على الرشيد النصيحة، أمر الرشيد مرة بِصلة له، فردها عليه وقال «ردها إلى من أخذتها منه قبل أن يطالبك صاحبها بها في الآخرة فلا تجد لهم شيئا ترضيهم به»[22].
سنندهش حينما نعلم أن هذا التيار الثوري من الصوفية كان يشدد على الابتعاد عن دائرة السلطة الحاكمة، ويغلظ حتى على رجال الدين حينما يقتربوا منها، كـ«محمد وفا»، شيخ الجماعة الوفائية: كان يسخر من شيوخ السلطان فيقول: «شيخ الأمير: طبلٌ كبير، وشيخ السلطان: أخو الشيطان»[23]
ربما لأن الأمر مرتبط بمسألة الزهد، فالزهد نقطة مركزية في الوعي الصوفي، والزهد يدفع المرء للشجاعة والثورة نحو الممارسات الخاطئة، وهو الأمر الذي كان يدفع «طاووس بن كيسان» الصوفي المعروف ألا «يسقي دابته من بئر حفرها سلطان»[24].
لكن هل يمكن أن نعتبر هذا التيار «يسارا سياسيا» في التراث الإسلامي بالمعنى الاصطلاحي؟ في الواقع على نحو كبير يمكن الإجابة بالإيجاب مجازا، لكننا نضيف كذلك أنه كان تيارا غير منظم، وبالتالي كان ممثلا لممارسات فردية لمجابهة الساسة والحكام والولاة، ثورات فردية دون تنظيم أو تبني نسق سياسي متكامل، يدفعه الزهد في المتع واللذائذ والمتعلقات من جانب، والشعور بالمسؤولية تجاه هموم الجماهير من جانب آخر. وعليه فقد كان الصوفي الثائر يعتبر مظهرَ غضبٍ جماهيري مكبوت من الرعية تجاه الراعي، تولاه بنفسه لأنه قد تحقق بالزهد فاستوى عنده الذهب والمدر، المدح والذم، الأخذ والعطاء، الرضا والغضب.
- أكاديمي حاصل على الدكتوراه في الفلسفة.
- أبو النجيب السهروردي: آداب المريدين، تحقيق: عاصم الكيالي، ط2 ، دار الكتب العلمية، بيروت، 2013، ص11
- عبد الوهاب الشعراني: الطبقات الكبرى، تحقيق: عبد الرحمن حسن محمود، مكتبة الآداب، القاهرة، 1993، ص291
- السابق، ص291
- يوسف بن قِزْأُوغلي: مرآة الزمان، تحقيق: محمد بركات وغيره، دار الرسالة العالمية، دمشق_ سوريا، ط1، 2013، ص81
- السابق ، ص81
- السابق، نفس الصفحة.
- المناوي: الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية، تحقيق/ عبد الجميد صالح حمدان، المكتبة الأزهرية، القاهرة، 1994، ج1، ص215.
- السابق: ج1، ص215
- عبد الوهاب الشعراني: الطبقات الكبرى، 1993، ص121
- المناوي: الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية، ج1، ص146.
- السابق، ج1، ص302
- السابق، ج1، ص325
- عبد الوهاب الشعراني: الطبقات الكبرى، ص615
- السابق، ص611
- المناوي: الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية، ج1، ص382
- عبد الوهاب الشعراني: الطبقات الكبرى، ص151
- المناوي: الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية، ج3، ص136
- السابق، ج3، ص139
- عبد الوهاب الشعراني: الطبقات الكبرى، ص116
- المجذوب : هو صاحب الحال ، الذي تراه يترك كل شيء في الدنيا ويبقى في الحضرة الإلهية فقط ، يبقى في حضور دائم متصل. راجع: [موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان 3/ 290 ]
- عبد الوهاب الشعراني: الطبقات الكبرى، ص158
- السابق، ص60
- السابق، ص105