أزمة قناة السويس: تحول استراتيجي على صعيد عالمي
اجتذب مأزق جنوح سفينة إيفر جيفن (Ever Given) في الجزء الجنوبي للممر الملاحي لقناة السويس أنظار وسائل الإعلام العالمية، كاشفاً الأهمية الاستراتيجية لها في تسيير حركة التجارة العالمية، لا سيما وقوعها على طريق التجارة الدولية وكونها الطريق الأقصر لحركة التجارة الدولية بين الشرق والغرب وحلقة الوصل بين سلاسل الإمداد العالمية. يمر بقناة السويس حوالي 12% من حجم التجارة العالمية و30% من حركة نقل الحاويات في العالم.
هذا وقد تسبب جنوح سفينة إيفر جيفن بالممر الملاحي لقناة السويس في إرباك حركة التجارة العالمية واضطراب سلاسل، إذ يقدر عدد السفن العالقة بنحو 321 سفينة وفقاً لما أعلنت عنه هيئة قناة السويس، وتتنوع السلع المارة بين سلع نفطية وسلع استهلاكية غذائية وسلع وسيطة، فما هي أهم الانعكاسات على التجارة الدولية جراء توقف الملاحة في قناة السويس؟ وما هي الخيارات المحتملة للتعامل مع الأزمة؟
مساعي الإنقاذ
تشير التقارير الأولية إلى أن جنوح السفينة العملاقة إيفر جيفن، والتي ترفع علم بنما والتابعة للشركة العالمية إيفر جرين، بالممر الملاحي لقناة السويس، جاء نتيجة لظروف الطقس السيئ ومرور المنطقة بعاصفة ترابية شديدة، إذ أعلنت هيئة قناة السويس أن الحادث «يعزى بشكل رئيس إلى انعدام الرؤية، بسبب سوء الأحوال الجوية، فيما بلغت سرعة الرياح نحو (74 كيلومتراً في الساعة)، مما أفقد السيطرة على السفينة». وقد تطابقت روايتا هيئة قناة السويس والشركة المالكة لسفينة إيفر جرين في هذا الشأن، وقد جنحت السفينة العملاقة بطول 400 متر في عرض قناة السويس الذي لا يتخطى 250م على أقصى تقدير، مما عرقل حركة الملاحة بين البحرين؛ الأحمر والمتوسط، وأدى إلى اصطفاف مئات السفن في مدخلي القناة منذ صبيحة يوم الثلاثاء 23 مارس 2021.
لا زالت جهود الإنقاذ من قبل هيئة قناة السويس جارية من أجل تعويم السفينة العالقة، والتي تبلغ حمولتها نحو 220 ألف طن، وقد يتطلب الأمر تفريع أو تخفيف حمولة السفينة سواء بنقل حاويات منها إلى سفينة أخرى، أو حتى تفريع السوائل بها سواء وقود السفينة أو ما بها من مؤن حتى يتم تحريك السفينة من مكانها إلى المياه العميقة، إذ يقع الجزء الأمامي للسفينة تحت عمق 5 أمتار بجانب القناة الشرقي، وقامت هيئة قناة السويس بإزالة نحو 15-20 ألف متر مكعب من الرمال من مقدمة السفينة، وتم إجراء مناورة من أجل تعويم السفينة من خلال 9 قاطرات عملاقة، ولكنها جهود لم تسفر بعد عن تعويم السفينة.
وقد استعانت الشركة المالكة لسفينة إيفر جيفن بشركة بوسكاليس ويستمنستر (Boskalis Westminster) لأعمال الإنقاذ البحري من أجل إعادة تعويم السفينة، وصرَّح يتر بيردوفسكي، الرئيس التنفيذي لشركة بوسكاليس، بأن الأمر سيحتاج لمزيد من الوقت، إذ يتطلب تفريغ السفينة – كأحد أسوأ السيناريوهات – فترة أطول من أجل عودة حركة الملاحة بممر قناة السويس. لذلك أوقفت هيئة قناة السويس مؤقتاً حركة المرور على طول المجرى المائي.
وفي مساعيها لمحاولة تعويم السفينة، تعمل هيئة قناة السويس على مدار الساعة من أجل إعادة الملاحة بالممر الملاحي، وهناك خيارات لتخفيف حمولة السفينة العالقة لتحريكها، ولكن لا تأمل الهيئة اللجوء إلى هذا الخيار نظراً لطول الوقت الذي قد تتخذه، ولم تستبعد هيئة قناة السويس فرضية الخطأ البشري أو الفني في جنوح السفينة، وهذا لا شك سيعود بالتعويضات المالية على الشركة المالكة للسفينة.
ليست هذه هي المرة الأولى، فقد شهدت سفينة إيفر جيفن حادثاً في أكتوبر 2019، إذ تسببت السفينة في تحطيم عبارة للنقل بطول 25 متراً في هامبورغ.
الأهمية الاستراتيجية لقناة السويس
محلياً، تمثل قناة السويس أهمية كبيرة للاقتصاد المصري، إذ تساهم بنحو 5-6 مليارات دولار أمريكي في المتوسط من حصيلة موارد النقد الأجنبي، كما يعول عليها الاقتصاد المصري في أن تكون مركزاً لجذب الصناعات وتنمية محور قناة السويس وخلق الكثير من فرص العمل والتطلع لزيادة إيرادات المرور من القناة لنحو 13 مليار دولار بحلول 2030.
وحققت قناة السويس عائدات قياسية بلغت نحو 5.8 مليار دولار في العام المالي 2019/ 2020، غير أن الظروف غير المواتية للاقتصاد العالمي بسبب جائحة فيروس كورونا وتداعياتها على الاقتصاد العالمي، لا سيما تراجع حركة التجارة العالمية بنحو 10%، علاوة على انكماش الاقتصاد العالمي بنسبة 4.4%، تراجعت معها إيرادات قناة السويس لنحو 5.61 مليار دولار في عام 2020، ورغم ذلك فإنه يعد ثالث أعلى إيراد سنوي على مدى تاريخ القناة.
دولياً، يمر بقناة السويس نحو 18- 19 ألف سفينة سنوياً، وفي المتوسط حوالي 50 سفينة يومياً، وهذا أدى إلى اصطفاف مئات السفن بسبب توقف حركة الملاحة بالقناة، وهو ما يؤثر على حركة التجارة المارة بالقناة ويزيد من تكاليف الشحن والخسائر المحتملة للبضائع القابلة للتلف.
تنبع أهمية قناة السويس في كونها ممراً ملاحياً يربط بين ثلاث قارات، وتقع على طريق التجارة الدولية، وتستحوذ على نحو 12% من حجم التجارة العالمية، كما تعد حلقة الوصل بين سلاسل الإمداد العالمية؛ التجارية والصناعية، ويمر بها نحو 30% من حركة نقل الحاويات في العالم يومياً، وتسهم بالنصيب الأكبر من إجمالي تجارة الحاويات المنقولة بحراً بين آسيا وأوروبــا.
وتقدر صحيفة لويدز ليست المختصة بالشحن البحري أن قيمة التجارة المارة بالقناة نحو 9.6 مليار دولار يومياً، حيث تبلغ حركة مرور القناة باتجاه الغرب بحوالي 5.1 مليار دولار يومياً، وحركة المرور المتجهة شرقاً بحوالي 4.5 مليار دولار يومياً.
ونظراً للأهمية المتزايدة لقناة السويس على الصعيدين المحلي والعالمي، فإن توقف الملاحة بها بسبب جنوح سفينة إيفر جيفن (Ever Given) يعني انتظار الشركة المالكة مطالبات بتعويضات ضخمة.
خسائر الاقتصاد المصري والعالمي
من المحتمل أن تواجه شركة شوي كيسن اليابانية التي تملك السفينة إيفر جيفن علاوة على شركات التأمين مطالبات بتعويضات كبيرة من قبل الشركات المالكة للسفن المنتظرة لعبور الممر الملاحي لقناة السويس، والتي يحمل بعضها سلعاً قابلة للتلف مما يزيد الخسائر المحتملة.
إن توقف حركة الملاحة يكبد قناة السويس خسائر يومية، إذ تدر القناة نحو 15 مليون دولار يومياً في المتوسط كرسوم على حركة البضائع المارة بالقناة، ووفقاً لرئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع تصطف نحو 321 سفينة عالقة تنتظر العبور، تم تقديم جميع الخدمات اللوجستية لها. وقد تزيد خسائر القناة إذا طالت مدة تعويم السفينة مما سيضطر السفن لاتخاذ طرق أخرى للتجارة وخاصة الالتفاف عن طريق رأس الرجاء الصالح.
وتُقدر بعض الدراسات تزايد تكاليف الشحن عن كل يوم تأخير في البحر بنحو 0.6% إلى 2.3% من قيمة البضائع على متن السفينة، ووفقاً لغرفة الشحن الدولية فإن نحو 3 مليارات دولار من البضائع تمر من القناة يومياً، وتشير بعض التقديرات إلى ارتفاع سعر شحن الحاوية الواحدة من الصين إلى أوروبا نحو 8 آلاف دولار مع تعطل الملاحة، وهو ما يساوي 4 أضعاف السعر في عام 2020.
ووفقاً لوكالة بلومبرج، أظهرت تقديرات بأن توقف الملاحة يكبد الاقتصاد العالمي نحو 400 مليون دولار في الساعة، وفقاً لحسابات لويدز ليست.
وشهدت أسواق النفط اضطراباً نتيجة توقف حركة الملاحة في قناة السويس وقفزت الأسعار بنحو 6%، مما تسبب في ارتباك في أسواق النفط عالمياً، إذ يمر نحو 3 ملايين برميل من النفط يومياً عبر قناة السويس، وهناك حوالي 27 سفينة في قائمة الانتظار تنقل نحو 1.9 مليون طن من النفط الخام في انتظار المرور عبر القناة. جدير بالذكر عودة أسعار النفط لمستوياتها قبل أزمة توقف حركة الملاحة.
سلاسل الإمداد العالمية؛ أثر توقف حركة الملاحة على سلاسل الإمداد وخاصة من السلع الوسيطة التي تستخدم في مراحل إنتاج لاحقة، وهذا يؤثر على النشاط الصناعي والتجاري العالمي، والذي يعاني بالفعل جراء جائحة كورونا. ومن المحتمل أن تنعكس تكاليف تأخير عبور السلع المختلفة؛ كالسلع الاستهلاكية وقطع غيار السيارات وغيرها من السلع، في أسعار المستهلك النهائي، ولا شك أن التأخير سيزيد من اضطراب سلاسل التوريد وسيؤدي إلى إبطاء تسليم البضائع إلى الشركات في جميع أنحاء بريطانيا وأوروبا.
وللأمر تكاليف بيئية، إذ يساهم النقل البحري بالفعل بنحو 2%:3% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، وبذلك فإن استخدام طريق رأس الرجاء الصالح سيزيد من استهلاك الوقود ويؤدي إلى انبعاثات إضافية.
استمرار الأزمة
وجهت بعض شركات الشحن سفنها للالتفاف حول طريق رأس الرجاء الصالح تفادياً لممر قناة السويس، غير أن هذا الخيار وإن كان هو المطروح حالياً أمام الكثير من شركات الشحن، لكنه يتسبب في تأخير الشحن بنحو 14 يوماً لطول الفترة المستغرقة مقارنة بالمرور بقناة السويس. وقد بدأت بالفعل الشركة المشغلة لسفينة إيفر جيفن بتحويل مسار إحدى سفنها Ever Green للإبحار نحو طريق رأس الرجاء الصالح بدلاً من مسارها التقليدي من مركز الشحن في ماليزيا عبر قناة السويس، كما يمكن رؤية سفينة الحاويات HMM Rotterdam وهي تحوِّل رحلتها في مضيق جبل طارق تجنباً للإبحار نحو قناة السويس.
ليس هذا فحسب، بل تجددت آمال استخدام طرق بديلة لقناة السويس استغلالاً للأزمة؛ منها استخدام بحر الشمال الروسي، إذ دعت شركة الطاقة النووية الروسية (روساتوم) السفن للمرور عبر القطب الشمالي، قائلة: «ربما تظلون عالقين في قناة السويس لأيام»، أو الترويج لخط دبي- عسقلان لنقل النفط بديلاً عن قناة السويس، وهذا يضع ضغوطاً كبيرة لزيادة تنافسية قناة السويس مع مثل تلك المشروعات الملاحية البديلة.
وتعمل هيئة قناة السويس مع شركائها وبالتعاون مع خبراء في مجال الإنقاذ البحري من أجل استعادة الحركة بقناة السويس، ومن المنتظر مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في عمليات الإنقاذ وإعادة فتح الممر الملاحي، جاء ذلك في بيان نقلته جين بساكي، المتحدثة باسم البيت الأبيض، بقولها: «نتفهم أن المسؤولين المصريين يعملون على إزالة الناقلة في أسرع وقت ممكن ومواصلة حركة المرور». و«كجزء من حوارنا الدبلوماسي النشط مع مصر، عرضنا مساعدة الولايات المتحدة على السلطات المصرية للمساعدة في إعادة فتح القناة».
وأخيراً، فقد أظهرت هذه الأزمة الأهمية الاستراتيجية المتزايدة لقناة السويس والتي لا شك تدحض فكرة تراجع أهميتها في مقابل الطرق الأخرى للتجارة العالمية، ولكن يضع عليها ضغوطاً من أجل زيادة تنافسيتها والعمل من أجل تلافي مثل هذه الحوادث مستقبلاً.