الانتفاضة السودانية على نظام البشير في مرآة «غرامشي»
من المعروف أن قراءة وتحليل تحركات الفاعلين السياسيين من أهم الوسائل المُعينة على معرفة مصادر قوتهم ومعرفة طرق تفكيرهم. وإذا حاولنا تطبيق هذا الأمر على الحِراك المُسيطر على الشارع السودانيّ هذه الأيام لفهم تركيبة النظام السياسيّ الحاكم هناك، فهذا سيقودنا لقراءة وتحليل تحركات واستجابة هذا النظام لذلك الحِراك.
لا نعني هنا الاستجابة الأمنيّة التي تقوم على تحجيم المظاهرات وقمعها أو اعتقال المُتظاهرين، وغيرها من الأعمال التي تقوم بها قوات الشرطة أو جهاز الأمن، وإنما نعني الاستجابة السياسيّة/ المدنيّة والفكريّة. والتركيز على الاستجابة السياسيّة والفكريّة سببه الرئيسيّ أن الصراع والتدافع السياسيّ الذي خلقه هذا الحراك هو صراع سِلميّ لا توجد فيه أي أدوات عنف، وفكرته الرئيسيّة أنه ينزع «شرعيّة النظام الحاكم» ويقول ببساطة ومن دون استخدام أي أدوات للعنف: «نحن لا نرى هذا الحزب الحاكم يستحق أن يحكمنا، ونطالب برحيله فوراً»، وهذا الصراع، بمصطلح أنطونيو غرامشيّ، هو صراع على أرضيّة «المجتمع المدنيّ» وليس «المجتمع السياسيّ».
النظام السوداني في مرآة «غرامشي»
يرى الفيلسوف الإيطاليّ أنطونيو غرامشي أن الدولة الحديثة في مجتمع رأسماليّ متقدم تتكون من شقين رئيسيين: المجتمع السياسيّ، ويمثله: الجيش، والشرطة، وجهاز الأمن، والنظام القضائي والقانوني والدستوري للحكومة، والمجتمع المدني ويمثله: الإعلام، والنظام التعليميّ، والنقابات العُماليّة، والقبيلة، وغيرها.
هذا المجتمع المدني يتوسط المسافة بين الدولة والاقتصاد. يؤكد غرامشي أن هذا التفريق هو تفريق نظري في الأساس لأن المجتمع السياسي والمدني كثيراً ما يتداخلان مع بعضهما البعض، ويصعب التفريق بينهما.
كما يرى غرامشي أن الدولة الحديثة تحكم وتسيطر من خلال أمرين: الأول، من خلال القوة والعنف، وهذا يتم في المجتمع السياسيّ، والثاني، من خلال الإقناع والقبول أو «الهيمنة» بتعبير غرامشي نفسه، وهذا يتم في المجتمع المدنيّ. وبالتالي، فإن الصراع ضد الدولة عندما يكون على أرضية المجتمع المدنيّ، كما هو حال صراع النظام الحاكم مع حراك الشارع السودانيّ السلميّ غير المُسلح هذه الأيام، فإن الدولة قد تستخدم ضده بعض العنف لكن أداتها الرئيسيّة في مقاومة هذا النوع من الحراك تكون غالباً استجابات سياسيّة أو فكريّة هدفها «إقناع» الناس بأن النظام الحاكم هو الأفضل وأن دعاوى الحِراك ليست صحيحة.
اقرأ ايضًا: مظاهرات السودان: لهذه الأسباب لا نتوقع رحيل البشير
لسنا هنا بصدد نفي وجود قتلى أو جرحى، لكننا يمكن أن نقول إن أغلب الاستجابات التي قدمها النظام الحاكم في السودان، ولا يزال يقدمها، على الاحتجاجات الجاريّة، هي استجابات فكريّة وسياسيّة هدفها إقناع المواطنين، غير المشاركين في الحراك، بشرعيّة النظام الحاكم ونزع المصداقيّة عن ذلك الحراك. ولعل أوضح دليل على ذلك أن استخدام النظام الحاكم للأجهزة القمعيّة، قوات الشرطة وجهاز الأمن والدعم السريع وغيرها، قد اقتصر عموماً على تحجيم المظاهرات ومحاولة فضّها بالغاز المُسيل للدموع، مع اعترافنا باستخدام الرصاص الحي، ووجود حالات إصابة وقتل للمتظاهرين، لكننا في المقابل نرى أنه في مظاهرات 31 ديسمبر الأخيرة لم يسقط أي قتلى خلالها، كما أن الاعتقالات التي حدثت كان أغلبها يستمر لساعات أو يوم ثم يتم إطلاق سراح المُعتقل، ما لم يكن من العقول المدبرة للمظاهرات.
كيف استجاب نظام البشير للحراك؟
الرئيس السوداني «عمر البشير»
تنبه الكثير من المُتابعين للحراك السودانيّ لفكرة أن الاستجابات والتكتيكات الفكريّة والسياسيّة التي يقدمها النظام الحاكم في محاولاته لإثبات شرعيته كانت تقوم إما على إظهار المظاهرات كمحاولات تخريبيّة وتدمير للممتلكات العامة، أو بتأجيج النزعة العنصريّة ضد مواطنيّ غرب السودان، مثل قصة خلية عبد الواحد التي نشرها النظام الحاكم، أو استغلال آيات القرآن وأحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – لتبرير وجوده في سدة الحكم وإظهار المظاهرات كأنها مظاهرات ضد الدين والإسلام، أو بالحديث عن المؤامرات الدوليّة التي تُحاك للسودان من قِبل القوى العظمى، أو تخويف الناس من نفس المصير الذي آلت إليه الثورات العربية في سوريا ومصر واليمن وليبيا.
بيد أنه ثمة ملاحظة مهمة جداً لم ينتبه لها كثيرون، وهي أن كل تلك التكتيكات كان يقوم بها، غالباً، رجل واحد وهو الفريق عمر البشير، وأن أغلب الخطابات العلنيّة للرد على الاحتجاجات كان يقوم بها رئيس الجمهوريّة نفسه، وليس أحد سواه. فمنذ اشتعال شرارة الحِراك في 19 ديسمبر، ظهر البشير في عدد من المناسبات التي نقلتها أغلب وسائل الإعلام، ومعروف طبعاً أن وسائل الإعلام لا تغطي حدثاً لرئيس الجمهورية من دون إذن النظام الحاكم، بمعنى أن هذا الظهور الإعلامي الكثيف هو أمر يقصده النظام ويريده، فمنذ بداية الحِراك ظهر البشير في الإعلام على النحو التالي:
1. أول تحرك رسميّ للبشير كان يوم الجمعة 21 ديسمبر عندما عقد اجتماعاً ضم نائبيه، ومدير جهاز الأمن، ووزير شؤون الرئاسة، ووزيري الدفاع والداخلية، ورئيس البرلمان. وكان من قرارات البشير في ذلك الاجتماع: «حراسة المنشآت الحيوية بواسطة الجيش السودانيّ، واستمرار تعليق الدراسة في كل مستوياتها، لأن الذين بدؤوا التخطيط للاحتجاجات يستهدفون إحداث خسائر كبيرة وسط الطلاب وصغار السن». واهتمت رئاسة الجمهورية بالإعلان عن هذا الاجتماع عن طريق مساعد الرئيس السوداني فيصل حسن إبراهيم حسب وكالة الأناضول الإخباريّة.
والمتابع للأحداث يعرف أنه وبعد يومين فقط، أي في يوم الأحد 23 ديسمبر، من ذلك الاجتماع، قامت قيادة الجيش بعقد الاجتماع الدوري لقادة القوات المسلحة بوزاة الدفاع، وبعده أصدر الجيش السودانيّ بياناً وعممه على كل الصحف السودانيّة، أكدت فيه قيادة الجيش: «التفافها حول قيادتها، وحرصها على مكتسبات الشعب، وأمن وسلامة المواطن، كما أكدت عمل القوات المسلحة، وقوات الشرطة الموحدة، وقوات الدعم السريع، وقوات جهاز الأمن والمخابرات الوطنية ضمن منظومة أمنية واحدة ومتجانسة بقيادة المشير عمر البشير».
2. أما الظهور الإعلامي للبشير، فقد بدأ في 24 ديسمبر عندما قام بلقاء مع هيئة قيادة جهاز الأمن السوداني ودعا فيه لعدم الالتفات لمن وصفهم بمُروجي الشائعات، كما حذر مما سماها محاولات التشكيك وزرع اليأس والإحباط، وتعهد، بإجراءات حقيقية ملموسة لإعادة ثقة المواطنين في القطاع المصرفي.
3. في 25 ديسمبر ظهر البشير مرة أخرى في جولة ميدانيّة بولاية الجزيرة مع والي الولاية، محمد طاهر إيلا، قال فيها إن بعض «الخونة والعملاء والمرتزقة والمندسين»، بحسب وصفه، استغلوا الضائقة المعيشية للتخريب وتدمير الممتلكات العامة، وإنهم يخدمون بذلك أعداء الوطن. وذكر أن هنالك مؤمرات تُحاك للسودان لأنه متمسك بالإسلام والعزة والكرامة التي لا يبيعها «بالقمح ولا بالدولار».
4. في 27 ديسمبر، أي بعد يوم واحد فقط من موكب/ مظاهرات 26 ديسمبر وهو الموكب الاحتجاجيّ الأول الذي دعا له تجمع المهنيين السودانيين، ظهر البشير مرة أخرى في كلمة له في تخريج دفعة جديدة من الدارسين في كلية القادة العسكريّة، قال فيها، إن السودان يواجه مخاطر وتهديدات من قبل الدول العظمى، وإن موقف السودان ثابت في وجه تلك المؤامرات.
وفي نفس اليوم عُقد المؤتمر الصحفي لوزير الإعلام والاتصالات بوكالة السودان للأنباء، والذي قال فيه إن المظاهرات بدأت سلمية، وإن الشرطة حمت المتظاهرين قبل اندساس «المخربين»، بحسب وصفه، وسطهم.
5. في 30 ديسمبر ظهر البشير مرة أخرى، قبل يوم واحد من موكب 31 ديسمبر وهو الموكب الاحتجاجي الثاني الذي دعا له تجمع المهنيين السودانيين، في مخاطبته لقادة الشرطة والتي قال فيها، إنه لن يسمح بانزلاق البلاد نحو التخريب والفوضى، والتي استشهد فيها بآيات القصاص في إعطاء الشرعية لقتل المتظاهرين.
6. وفي 31 ديسمبر، ظهر عمر البشير مرة أخرى فيما عُرف باحتفالات الاستقلال والتي دعا فيها البشير أحزاب المعارضة للمساهمة الراشدة في بناء الوطن بـ«روح النصح وإبداء البدائل».
7. وفي 3 يناير ظهر البشير أمام قيادات اتحاد عمال السودان وتحدث فيه عن استهداف السودان من قبل الدول العظمى، وذكر فيه أن السودان كان هو الأول في قائمة تضم سبع دول مُستهدفة من هذه الدول العظمى وذكر ليبيا والعراق وسوريا واليمن كأمثلة لهذه المؤامرات الدوليّة.
8. وفي 3 يناير أيضاً قام البشير بلقاء مشايخ الطرق الصوفيّة بمقر الضيافة الرسميّ في الخرطوم، وذكر في ذلك اللقاء بأن الحكومة تلقت عروضاً من بعض الدول مقابل «تطبيعها مع إسرائيل» لكن الحكومة رفضت، ثم قال إن القضيّة الفلسطينيّة هي قضيّة «عقديّة وليست سياسيّة» بالنسبة للنظام الحاكم.
يمكننا ببساطة من كل ذلك أن نستنتج أن مقاومة النظام الحاكم لشرعيته وتشويهه لشرعية الحراك الجاريّ تمركزت بصورة رئيسيّة حول عمر البشير نفسه، ومع ظهور رئيس الوزارء معتز موسى في بعض اللقاءات، أو وزير الإعلام بمؤتمرين إعلاميين، إلا أن الخطابات والظهور الإعلاميّ الرسميّ للنظام الحاكم كان متمركزاً بصورة واضحة جداً حول البشير كان هو أساس الاستجابة الفكريّة والسياسيّة للنظام الحاكم في محاولته لإقناع المواطنين بشرعيته في الحكم.
لماذا هذا التمركز حول عمر البشير، ولماذا هذا الإصرار على تصديره في كل الخطابات الناقدة للحراك الحاليّ؟
الإجابة على هذه الأسئلة ستساعدنا كثيراً في تحليل وفهم بنيّة النظام الحاكم الحاليّ.
النظام السياسي في السودان وتاريخ الانقلابات العسكرية
في فهمه لطبيعة الانقلابات العسكريّة التي حدثت في تاريخ السودان الحديث وقادة تلك الانقلابات يعتمد البروفيسور حسن الحاج على، أستاذ النظم السياسيّة المقارنة بجامعة الخرطوم، على التصنيف الذي ذكره بروفيسور العلوم السياسيّة إريك نوردلينغر Eric Nordlinger والذي قَسّم العسكريين، بناءً على دراسته للانقلابات العسكريّة حول العالم، الذين يديرون شؤون البلاد بعد نجاحهم في تحقيق انقلابات أو تمرد على السلطة القائمة إلى ثلاثة أنواع: ضباط البرامج (Moderators)، والضباط المحافظون (Guardians)، والضباط الحكام (Rulers).
أما ضباط البرامج (Moderators) فهم، بحسب تعريف نوردلينغر، ضباط مُحافظون لا يرغبون عادةً في التدخل لاستلام السلطة وإذا تدخلوا فإنّهم يفعلون ذلك بهدف تغيير نظام ديمقراطيّ/ مدنيّ، بنظام ديمقراطيّ بديل، وهم في ذات الوقت لا يبتعدون عن السياسة فهم يفضلون البقاء كقوة ضغط سياسية مؤثرة في الواقع السياسيّ.
أما الضباط المُحافظون (Guardians) فهم الضباط الذين يستلمون السلطة لمنع تغييرات سياسية ويسعون للمحافظة على الوضع السياسي القائم، وفي أثناء ذلك يركزون على التنمية الاقتصادية. في المرتبة الثالثة، يأتي الضباط الحكام (Rulers) وهم العسكريون المتطلعون إلى السلطة والذين يريدون البقاء فيها والقيام بتغييرات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبيرة.
يطبق البروفيسور حسن الحاج هذا التصنيف العسكريّ – السياسيّ على قادة الانقلابات العسكريّة في تاريخ السودان الحديث ثم يحاجج:
أولاً، بأن الضباط الذين استجابوا للانتفاضة الشعبيّة في أبريل 1984 وقاموا بالإطاحة بنظام المشير جعفر نميريّ العسكريّ بقيادة المشير سوار الذهب يمكن تصنيفهم على أنهم ضباط برامج (Moderators)، حيث قاموا بإدارة الفترة الانتقالية التي استمرت عاماً واحداً ثم قاموا بتسليم كامل السلطة للحكومة الديمقراطيّة المنتخبة.
ثانياً، إن الضباط الذين قاموا بانقلاب نوفمبر 1958، أول انقلاب عسكريّ في تاريخ السودان وأفريقيا جنوب الصحراء عموماً، بقيادة الفريق إبراهيم عبود يمكن تصنيفهم على أنهم ضُباط محافظون (Guardians) حيث عَملوا على المحافظة على الوضع الراهن وكانوا مشابهين جداً لأقرانهم من السياسيين التقليديين ومن ثم فلم يُحدثوا أي تغيير جذريّ في البنية السياسية والاجتماعية، وقاموا بالتركيز على التنمية الاقتصاديّة وبناء علاقات خارجيّة متوازنة مع الجميع.
ثالثاً، يرى أن الضباط الذين قاموا بانقلاب مايو 1969 بقيادة المشير جعفر نميريّ يمكن تصنيفهم على أنهم من الضباط الحكام (Rulers) وذلك أنهم قاموا بإحداث تغييرات جذرية في البنيّة السياسيّة والاقتصاديّة، مثل عمليات التأميم لكثير من الشركات الخاصة التي يمتلكها سودانيون أو أجانب، والاجتماعيّة، مثل تغيير السلم التعليميّ والدراسيّ. كما يحاجج بأن الضباط الذين قاموا بانقلاب الإنقاذ في يونيو 1989 بقيادة المشير عمر البشير كانوا أيضاً من الضباط الحكام، فقد قاموا كذلك بتغييرات سياسيّة واقتصاديّة، خصصة القطاع العام، والانفتاح غير المسبوق للاستثمارات الأجنبيّة، واجتماعيّة جذريّة، كسياسة التمكين وغيرها.
يلفت البروفيسور حسن الحاج الانتباه إلى أن أشد ما يمكن ملاحظته في القيادات العسكريّة التي يمكن وصفها بأنهم ضباط حكام (Rulers) مثل نميريّ والبشير أن القائد يمثل مركز النظام ويكون هو الشخصيّة المحوريّة والمهيمنة في إصدار السياسات والقوانين، بينما تقوم بقية الشخصيات الأخرى بأدوار ثانويّة. على سبيل المثال، هيمن نميريّ بصورة رئيسيّة على النظام السياسيّ طيلة الـ16 عاماً التي حكم فيها حتى أن سياسات السودان الخارجيّة وتقلباتها، من الشيوعيّة، إلى الوسط، ثم إلى اليمين مع إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية في سبتمبر 1983، كانت مرتبطة بالتقلبات الأيديولوجيّة وصراعات النميريّ الشخصيّة، كما اتخذ نميريّ كثيراً من القرارات السياسيّة المصيريّة بنفسه، مثل قرار تقسيم جنوب السودان إلى ثلاثة أقاليم في يونيو 1983، وإطاحته بنائبه الفريق عبد الماجد حامد خليل ومعظم قادة الجيش السودانيّ في يناير 1982.
أما بالنسبة لعمر البشير فقد أصبح الشخصيّة المركزيّة في النظام الحاكم بعد إزاحته الدكتور حسن الترابيّ، قائد الحركة الإسلاميّة، في مفاصلة 1999 وأصبح المؤتمر الوطنيّ عبارة عن تنظيم فضفاض تجمعت بداخله مجموعات من أصحاب المصالح يرتبط بقاؤها واستمرارها ببقاء رأس النظام الحاكم، المشير عمر البشير.
وبسبب طبيعة النظام الراديكاليّة، الذي يقوم بتغييرات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة جذريّة كما وضحنا سابقاً، بالإضافة إلى تمركزه حول القائد، يتكون نظام محسوبيّة وفساد، بالإضافة إلى رأسماليّة طفيليّة ومجموعات مصالح معينة كلها تعتمد في بقائها بصورة رئيسيّة على استمرار الشرعيّة السياسيّة والتماسك داخل النظام الحاكم واللتين تتجسدان بصورة شبه كاملة في ذلك القائد، فلو سقط القائد يتفكك بصورة كبيرة نظام المحسوبيّة والفساد وتفقد مجموعات المصالح والرأسماليّة الطفيليّة آليات الوصول للأموال والريوع.
اقرأ أيضًا: علاقة مضطربة: الحركة الإسلامية والجيش في السودان
بناءً على ما سبق؛ فإن سبب الظهور المُتكرر والمستمر للبشير وتصدره في كل الخطابات الناقدة للحراك في الفترة السابقة هو ببساطة لأن البشير هو قلب النظام الحاكم وجوهره ومركزه وهو الوحيد الذي يربط بين كل أطرافه وأجزائه ومجموعات المصالح داخله، بالإضافة إلى ميليشياته العسكريّة، فلا يوجد أنسب منه لتمثيل استجابة النظام الحاكم للحراك الحاليّ.
والسبب الثانيّ، وهو الأهم في نظريّ، أن هذا الظهور المتكرر هو تذكير لكل أطراف ومجموعات وميليشيات النظام الحاكم، المتفرقة والمتشظيّة من دون البشير، أن النظام ما زال قائماً وأن ما يحدث هو مجرد أزمة عابرة لذلك عليهم التمسك بهذا النظام وألا يفكروا بالانسحاب منه، لذلك فإن البشير بهذا الظهور المتكرر لا يخاطب فقط المواطنين، وإنما يخاطب مكونات النظام الحاكم نفسه!
وبالتالي فإن قلب هذا النظام الذي يضخ الدم في كل أجزائه وأطرافه ومجموعاته ويربط بينها لتشكل جسماً واحداً مُتحركاً يُطلق عليه «المؤتمر الوطنيّ» هو يساوي الفريق عمر البشير. وهذا يعني أن سقوط هذا الرجل يعني سقوط النظام الحاكم بصورة كبيرة جداً.